خالد السّاكت... شاعر انكسار الحلم العربي

خالد السّاكت...  شاعر انكسار الحلم العربي

في منتصف عام 2006 رحل الشاعر والكاتب والمفكر الأردني خالد الساكت عن تسعة وسبعين عاماً امتلأت بحصاد رحلته الحافلة في الحياة والإبداع والسياسة، شأنه شأن جيل من الطليعة العربية التي ظلت تمسك بأهداب الحلم القومي العربي، الذي انكسر في يونيو عام 1967، في ما عُرف باسم النَّكسة، التي كانت فاتحة لنكسات متتالية في عديد من أقطار الوطن العربي.

وفي ظل أجواء قاتمة وحزينة ويائسة، كان خالد الساكت ونظراؤه من المناضلين من أجل تحقيق الحلم القومي العربي في الوحدة والحرية والاشتراكية، يعانون مرارة الإحباط، وتمزق الواقع السياسي وانعدام الثقة في كل شيء. وامتلأ إبداعه الشعري في كتاباته ودواوينه المتعاقبة بأسئلة المصير، وجدوى الأعمار التي انقضت في مطاردة الوهم، وحصار سنوات القهر والإحباط. وهي الأسئلة الجوهرية التي ظلت تناجزه حتى اليوم الأخير في حياته. 
أتيح لخالد الساكت أن يتلقى تعليمه الجامعي في القاهرة، بعد أن أنهى دراسته الثانوية في مدرسة السلط بالأردن، متخرجاً في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، ومشاركاً بحضوره الأدبي ومشاركاته الفاعلة في كل ما كانت تموج به القاهرة في ذلك الحين (1952 - 1956) من تيارات سياسية وأدبية وثقافية، كاشفاً عن موهبته النقدية، وحسّه النضالي، وأستاذيته لأبناء جيله في الدراسة الذين كانوا يفيدون منه بأكثر مما يفيدونه من أساتذتهم. 
ويتاح لخالد الساكت بعد تخرجه عمل طويل في وزارات الصحة والخارجية والتربية والتعليم، كما يصبح مستشاراً ثقافيًّا في دمشق وبيروت والجزائر وليبيا، ومديراً لمكتبة الجامعة الأردنية ومديراً للتأهيل والتدريب التربوي ومستشاراً للوزير، لكنه -في خضم هذه الحياة العاصفة سياسيًّا ونضاليًّا- التي عرضته كثيراً للاستغناء عن خدماته، استطاع أن ينجز عديداً من المجموعات الشعرية، هي: لماذا الحزن؟ لماذا الخوف؟ والمخاض، والذي يأتي العراق، والانهيار والشمس، والزلزال قادماً، وعبوس وشموس، وتستيقظ القبور، والمسيرة، بالإضافة إلى كتاباته النثرية: «مرايا صغيرة» في مجلّدين، ومقالاته المتنوعة في الصحف والمجلات الأردنية والعربية، ودراساته في التربية والتعليم وعن كتب التراث. 
في المرحلة التي سبقت مجيئه إلى القاهرة، للدراسة الجامعية - وهو في السادسة والعشرين من العمر- كان يحمل في أوراقه إبداعات شعرية تتسم بالطابع الرومانسي، والتأثر بشعراء حركة أبوللو في مصر - وبخاصة إبراهيم ناجي- ممتزجة بطابعه الذاتي العنيف، وهو يقول:
أنا سوّيْتكِ روحا يُلهمُ
وخلقت الحسن والفتنةَ فيكِ
أنت لولايَ جماد أعجمُ
لن تُغنّيك منًى، أو تصطفيكِ
كنتُ ناجيتُ الصفا لو أعلمُ
وتخِذْتُ الصَّخْرَ خدني وشريكي
***
اذهبي، لستِ إذن من قبسٍ
أنا منه، إنما أنتِ ترابُ
وتهاويل خداعٍ دنسِ
وأكاذيبُ عِذابٌ وسرابُ
كنتِ في عيني صفاء القُدسِ
فإذا أنتِ على طرْفي ضبابُ
وكان لخالد الساكت - في ذلك الوقت المبكر من الدراسة الجامعية- فضل تعريفنا على خريطة الحياة الثقافية والأدبية في الأردن، وبخاصة الشاعر مصطفى وهبي التل الذي عُرف باسم «عرار»، والشاعر إبراهيم طوقان الشقيق الأكبر لشاعرة فلسطين فدوى طوقان، بالإضافة إلى كتابات ساطع الحصري ومنيف الرزاز وعبدالله الريماوي وغيرهم. 
في ديوانه الأول: «لماذا الحزن؟» يقدم خالد الساكت نفسه في بطاقة شعرية تعريفية يقول فيها:
أنا، مذْ كنتُ، مهمومٌ
وحزني البحرُ
والصحراءُ
والزرقةْ!
وآفاقي مُجرّحة بلون الشوقِ
هذا اللحن ما ينفكُّ يعزفُ لي 
ويعزفني
وتعرفني بنات الشوق صدّاحاً
وفي أعماقيَ الحرقة!
ثم يقول: 
بودّي أن أصوغ الكون ألحاناً
لكلّ المتعبين،
وأن يكون الحبُّ عنواناً
لكلّ مسيرةٍ، نبضا
تحايا للوداع الشوق، ألف ذراع
جنينا طالعا للنور، بسّاما
وأنّى حطَّ
فالصدر المشوق حنون
ونجوى القلب موسيقى
وأحلام ربيعيةٍ!
وهي قصيدة تصور بداية الفجيعة التي سيعيشها هذا الجيل عقب نكسة 1967، والتي تجعله يضجّ بالسؤال المتكرر في ديوانه الثاني «لماذا الخوف؟» وهو يقول تعبيراً عن قسوة الواقع المهزوم ووطأته:
ماذا يصنع شاعر هذا العصر؟
هل يُشهر سيفاً في وجه الشر؟
فرعونٌ جاء
يحمي الوطنَ، الإنسانَ، يضيء
لا يترك للشاعر - إلا باهتةً - شمعة 
فلماذا الشعراء؟
ثم يردِّد:
ماذا يصنع شاعر هذا العصر؟
يهرب؟
يبكي؟
يتسوّل خيط يقين؟
يلهو بحكايات، رحلاتٍ ضِلِّيلة؟
يذرع أفق الأحلامِ
يجرجرُ قدميهِ مرتدًّا بالخيبات
بالدمع الدامي
بالكلمات
جِيفاً مهملةً في الطرقات؟
لو يصحو، يصحو
يقرع باب القهر
يصلب وجه اللص القاتل
يجمع أقماراً للأطفال
ويغني في الفجر مواويل حُداءٍ
للآتين!
ماذا يصنع شاعر هذا العصر؟
بين اللقمة والآلات
والكتبِ المُجترَّةِ والنزعات؟
بين الأقمار حقيقية
ومَجرّات الرعب
ورفاق الليلِ
ونفث الكلماتِ
وتقليب الأفكار بغير قرار؟
ما هذا الجاثمُ فوق الصدر؟
كابوسُ العصرْ؟
قل لي: ماذا يصنع شاعرُ هذا العصر؟
الظاهرة اللافتة للنظر والتأمل في شعر خالد الساكت هي تلك الجدلية الدائمة بين الشعر والفكر. وهي جدلية مصدرها يقظة وعي الشاعر وطغيانها على ما يسمى بالغيبوبة الشعرية في أثناء إبداعه لقصيدته، وهو الأمر الذي يجعل في كثير من شعره إشارات بارزة وواضحة إلى فكر الشاعر ورأيه في ما يعرض له. فينتقل إلى حالة من الجهارة الشعرية، والإفضاء الحاد المدبب، والتناول النقدي العنيف لما يتناوله من أوضاع وقضايا وتجارب حياتية. 
في قصيدة عنوانها «غنائية الجدل اليوميّ» يقول: 
كانت كلمات الحب شموساً ساطعةً
والأرض بلا عينيْن
لملمني العزمُ فجرّحني الشوكُ
وحطَّم رأسي الصخر
ورأيت يديَّ تقاوم
لكن النهر وأمواج النهر
كانت تحمل آلاف الأيدي
تتموّج، تصعدُ، تهبطْ
ولمحت الأوجه تغرق، تطفو
ورأيت الشطّينْ
أسراباً من بشرٍ
تتمددُ، تلهو بالماء وبالقدمين
ثم ترتفع النبرة الجدلية وتتصاعد وهو يقول: 
وهذا الغُثاءُ تسمّيه شعباً؟
لُعنْتَ،
تمزقه شهوة قاتلة
أراه، وكلّي حنين إلى وقفة باسلة
تبلُّدَ قافلةٍ ماحلة
غيمةً قاحلة
وأعناقهُ، أغصنٌ يبست مائلة
وفي قلبه أتصفح مرآة نفسي
فأبكي عليّ
وقد كنتُ عرّافهُ
فأمسيتُ آماله الذابلة
وصولاً إلى قوله: 
تلك الجذوع أصبحت مشانقا
والماء في النيل غدا مشانقا
وسمك البحر غدا مشانقا
فأيُّ شيءٍ؟
أيُّ طيف يا حبيبتي مصر 
أتى معاتباً معانقا
وحارقاً وخارقا؟
مصر التي في خاطري وفي دمي
قد استباح قاتلوها حرمتي
لكنها قد حقنتْ دم العدوّ
لم تحقنْ دمي
***
ويجيءُ الردُّ كلاما
أصداءً خاويةً
ووعوداً وضياعاً وظلاماً
حين أتيح لي اللقاء -في القاهرة - بابنه «يحيى»، الذي يمتلئ بالوفاء والإكبار لأبيه خالد الساكت وتراثه النثري والشعري، كان يحمل أعماله الشعرية الكاملة التي سوف تنشرها وزارة الثقافة الأردنية، تقديراً لقيمته ومسيرته الإبداعية والفكرية والإنسانية. كان يريد مني -بحكم الصلة الحميمة المتطاولة على مدار أكثر من خمسين عاماً بيني وبين أبيه - أن أكتب مقدمة لهذه الأعمال الشعرية التي حملت إليَّ أنفاس صاحبها وقسماته وملامحه، وروحه النضالية المتوهجة بالثورة والتمرد، والتي عانت من صدمة انكسار الحلم في خاتمة المسيرة. وأدركت وأنا أطالع هذا الشعر قبل الكتابة عنه، حجم الجناية التي ارتكبها الشاعر في حق شعره، بعد أن حبسه مجهولاً بعيداً عن جمهوره ونقاده، يعيش ظلام التوحد وبرودته، فلم يتعرض شعره لضوء النقد والقراءة الجادة والحوار، ولم يخرج عن حدود صومعته وقوقعته، ولم يلْق المكانة اللائقة به في ديوان الشعر الأردني أولاً والشعر العربي ثانياً.
وقلت عنه إنه واحد من شعراء الموجة الثانية من شعراء قصيدة الشعر الحر أو شعر التفعيلة، وكانت المهمة الأساسية لهذه الموجة -على امتداد الخريطة الشعرية العربية- صقل هذه القصيدة الجديدة تعبيراً وتصويراً، بعد أن كانت موجتها الأولى في شعر الشعراء الرواد تضم بعض القصائد الهشة وغير المحكمة نتيجة لفوران التغيير والخروج على المألوف والسائد. وساعدت لغة شاعرنا وثقافته التراثية وانفتاحه العصري وحسّه العروبي في إنضاج هذا المولود الشعري الجديد. وتميَّز هو وبعض نظرائه بالمزيد من الحدّة والمباشرة والجهر بالفكر والمعنى تبعاً للحالة المسيطرة على أجواء القصيدة. من هنا كان نقده لحركة الشعر الجديد في كتاباته وكأنه نقد لذاته الشاعرة, حين يقول: «إن موقع الشعر الحر بين التنظير والفعل الشعري مازال متخلفاً نسبيًّا، كأنما هو يراوح مكانه، ليس هذا الكلام حكماً عليه، وإنما هو وصف لمرحلته». وهكذا أبى صدق خالد الساكت إلا أن يكون حكمه النقدي حكماً على نفسه وشعره أولاً، قبل أن يتكلم عن غيره من الشعراء.
ولقد كان هذا الموقف من شعره، جزءاً من موقفه العام إزاء نفسه وخصوصاً في سنوات عمره الأخيرة. فقد ارتأى التمسّك بالعزلة والتوحد والعيش في داخله بديلاً على الحياة في خارجه، فأصبح صوته الإنساني غير مسموع، وأصبح شعره محجوباً عن كل العيون باستثناء عينيه، وعلاقته بالواقع الخارجي لا تتعدى الدائرة الصغرى التي يتحرك فيها في بيته، أو في مقهى «المغربي» في السلط. الذي التهم الكثير من سنوات عمره، جالساً يحدق في اللاشيء أو مضطراً لصحبة مجموعة نادرة صغيرة من رفاقه، لكنه في الحالين لا يُسلمُ شعره أو نفسه لأحد!
يقول في قصيدة عنوانها «المسيرة» سمّى بها آخر مجموعاته الشعرية، وكأنها تلخيص أمين لمسيرة حياته بكل تطلعاتها وانكساراتها، وآمالها وأحزانها:
لا 
لا أُرهق عينيَّ
فمي مُرٌّ
في رأسي كلُّ طيور النورسِ
طارت بَددا
أشعر أن البحر سيبتلع الباقي
من أحلامي المنثورة في الدنيا
رعبا، 
لي،
للكونِ،
أصيخُ السَّمْعَ!
أليست شلالاتُ الأحزان بكلّ مكان 
وأنين المهدودين
المكدودين الــ «ضاعوا»
سُدًى بسدى؟
لا،
لا أرهق عينيّ،
وجوه الناس بغير عيونٍ
بالقصب العاري يصطدمونَ،
يغوصون بوحل الأهواءْ
ومن عجبٍ،
يلهون، يغنّون، يُغنّون
في الماضي كانت لي عينان
التحديق سبيلهُما
مرهقتان هما
ميّتتان
ودلفتُ إلى أذنيَّ
يديَّ
لعلي أتلمس درباً لا تملؤه الحيتان
أسافرُ فيَّ
إلى أعماقي غُصْتُ
لا أسمع همساً، أو نبض حنان
أحببتُ الدنيا
لوّنها شوقي لوحة عشقٍ مرصودة
في كلّ مكان
أحببتُ الدنيا
العجز حنون
والقسوة حبٌّ ملهوفٌ
مشدودٌ في قلب العتمة، 
والأغلال المشدودة
لا تسألني
فالعتمة شمسٌ
تمخرُ سفنٌ تتذكر أحلام الشطآن
لا تسألني
فالصبر اليوم رفيقي الممتدُّ
وأيقظها طيف ظمآن
في القبر يقولون:
قبور تسْعى
تحلمُ،
تكفرُ،
ثم يحرّكها الإيمان
وأنا صورة 
مرآة أكبر من ساحات الصحراءِ
وأكبرُ من سقف الكونِ الأزرقِ،
صافيةُ الرجْع الوضّاء
والمعمورة
درعي الأولُ، ونشيدي
يتموج من شوقٍ لهتافٍ أسيانٍ
فرحانْ
عِدْني
فلعلّك تحسو بعض النَّبْضِ
وبعض الإقبال على الذكرى
لغدٍ أبيضَ
يسطع في الآفاق المكنوزةِ للإنسان
عِدْني
أَقسمْ أن تهجر قريتك المكسورة
أذكرهُ،
يحفرُ، يهدمُ، لا يتعبُ
في عُمْقي كلُّ الأسوارِ الشرّيرة
أذكرهُ، 
لا يحرثُ في بحرٍ
لا يحصد أيَّ هشيم
بل يبحرُ نحو عمود النور اللألاء
يتكلم من غضبٍ
ويلاحنُ من فرحٍ
عصفوراً أو عصفورة
ويَسوطُ الأسواطَ
يقول بأنَّ الطاغية الجبار
مجردُ أسطورة
ويشقُّ طريقاً تُفضي لملاذٍ آمن
صخرةُ «سيزيف» قصيدته الأولى
ونهايتها أن الإصرار على حبٍّ
سيف في يد جلادٍ
كل مغازيهِ معانيهِ
سلالتُهُ السيفية مبتورة
أعلنُ منذ اليوم بأني أذكرهُ
برموش القلب
وبالشفة الباسمة المنصورة
أُعلنُ أني
بعد الموتِ، سأحيا
أتوضأ في ماء ربيعٍ فضيٍّ مزهوّ
في لثغةَ طفل
في عشقٍ يجتاح الجرح
ويفتح صدراً للمنبوذين
يُخبِّئُ وجعاً ويُحوّله باقة زهر فوّاحة
وينادي للآتين إلى يوم الصَّحْوِ
وليل الحُلم
ويزحف جيشاً من عزم الفقراءِ
المقهورين
كالحلم الساكن في ذاكرة المنسيِّين
كقطارٍ يمخرُ موج البحر
ويجتاز مسافات الألم المسحوق
محطتهُ النصر المشحونْ
بعزيمة آمال لا تعرف حدًّا
لا تتوقَّف،
تومئُ أيدٍ للآتين
يقرأ كلَّ الأنباء، يعانقهم
لكن،
لا يذكر من تلك الأنباء سوى النسيان
فالفقراءُ الأحبابُ
رفاق الدَّرْب 
فلا ينسون القهرَ
ولا يُرعبهم شبح السلطانْ
وصولاً إلى قوله:
أعلنُ للمليون بأني أقوى، أبهى
لا أتسلَّح إلا بالثورة والعصيان
عِدْني واتبعني
فأنا ماضٍ لا أعرفُ معنى العودةِ
للاستخذاءْ
عِدْني، إني يقظان
أرسمُ بيدٍ غُصْنَ الزيتونِ
وأمحو بيدٍ كلَّ الأحزان
وجعي: فرحُ الفقراء
واسْمي البوْحُ الآمل
والممتدُّ من الصحراء إلى الصحراء
اسمي لا أحشرهُ بين الأصواتِ الخرساء،
ألقاً
وعْداً
بين جميع الأسماء!
أمثال خالد الساكت لا يُنْسَوْن -على المستوى الإنساني والإبداعي -، ولا تنطوي صفحتهم في تاريخ الأردن وشعره المعاصر اعتزازاً بهذا الشاعر والمفكر الذي ذاق مرارة الهزيمة، وعاش انكسار الحلم العربي، محاولاً أن يقاوم حتى النفس الأخير .