عبدالرحمن الأبنودي ... الشاعر المثقف

عبدالرحمن الأبنودي ...  الشاعر المثقف

عبد الرحمن الأبنودي واحدٌ من جيل ربَّته ثورة يوليو 1952 في مجتمعها الجديد، الذي اتسم بوضوح الرؤى والتوجهات، والحلم إلى أبعد مدى بغدٍ أفضل، والثقة إلى أبعد مدى بالمشروع القومي، وسواعد قوى الشعب العاملة، ومن ثم فهو جيل فُطِم على الصراحة والوضوح والثقة بالنفس، كما فُطِم على المبادئ المحددة الثابتة، والثورية على كل القيم القبيحة التي تفصل بين الإنسان وحريته، أو تلك التي تفصل بين الإنسان العربي وأمته بتراثها العريق، كما فُطِم على الحلم بالمشروعات الكبرى في الحياة، والإيمان بفكرة التطهر الاجتماعي من دنس الآخر المستعمر المستغل... أو لم تكن مبادئ الثورة محددة؟ أو لم يكن نصفها إقامة كذا، ونصفها الآخر القضاء على كذا؟ 

إن هذا الجيل العروبي، الثوري، الواضح، الصريح، صاحب المبادئ، المؤمن بأصالته، الواثق بقيمه ومبادئه وثوابته وتراثه، الحالم بغدٍ أفضل يخلو له وحده... تعرَّض لارتجاجات لم تكن هيِّنة، بدأت بتداعيات حرب 1967، التي هبطت به من ذروة الحلم إلى هوة الواقع الصادم، ومع ذلك خرج إلى الشارع؛ ليهتف ببقاء قيادته التي قادته إلى حرب 1967... أيُّ جيلٍ هذا،‍ الذي لم تهتز ثقته بنفسه، وخرج ليدافع عن بقائه ببقاء قيادته مُصراً على صحة مشروعه، ونزاهة مبادئه رغم كل ما حدث؟ غير أن أخطر ما واجه هذا الجيل هو أن يرى رموزه الثقافية تُسجن في مدينة الحلم، وتعذَّب تعذيباً بدنياً مباشراً في المعتقلات التي لم تغلق أبوابها، ولم تكفّ عن استضافة المثقفين حتى في العهود التالية، التي لم تتورَّع هي الأخرى عن استضافتهم خلف الأسوار والزوايا المظلمة. فإذا كان فؤاد حدّاد قد عانى من القمع البدني المباشر في السجون والمعتقلات في الحقبة الناصرية، وهو يغني للعمال والفلاحين والناصرية أيضا، فإن الأبنودي قد لاقى المصير نفسه في الحقبة الساداتيّّّة، وهو يغني أيضا للعمال والفلاحين والناصريّة... لكأن الجميع في نشوة الحلم لا يشعرون بالقهر، بيد أن الأحلام كثيراً ما تعصف بها رياح التغيير تحت شمس تكشف عن واقع أشبه بسجن كبير هو الوطن.
ما الذي يمكن أن يربط جيل الأبنودي في هذا الواقع بحلمه الكبير، ومشروعه القومي، الذي تبدد، وكل ما في الواقع صادم وقاتل للروح التي استشعرت وجودها في الحلم الكبير؟ 
كثير من قيم هذا الجيل تبدد أيضا ولم يعد له أثر... كثير من عناده وصبره وإيمانه أضحى مُعبِّراً عن ضيق الأفق الذي تأباه اللحظة المهرولة إلى الزوال. 
إن جيل الثورة الذي خرج ليهتف ببقاء قيادته - رغم ما حدث – لِيعبِّر بموقفه هذا عن مدى إيمانه بمبادئه وقيمه، كما أن موقفه هذا يعكس إلى أي مدى كان هذا الجيل عنيداً وصبوراً ومقاوماً، وربما لهذا كانت حرب الاستنزاف على الصعيدين السياسي والعسكري، مؤشراً على الإصرار المتسم بالصبر والعناد والمقاومة، وعلى الصعيد الاجتماعي كانت مناطاً يربط هذا الجيل بحلمه الكبير، وبإمكان إلقاء الكيان الصهيوني في البحر، وبمحاربته ومَن وراءه، وإقامة المجتمع العربي الكبير ذي الوشائج المتصلة والروابط المتينة؛ لهذا اتسم هذا الجيل أيضا بالحلم بصوتٍ عالٍ، وبالهتافية، وبالرغبة في التغني بالقيم الإنسانية والوطنية والعربية وبحق الإنسان في الحياة الحرة الكريمة، وبالأمل والصبر، والكفاح، وسواعد قوى الشعب العاملة.

التغني لا التطريب 
التغني لم يكن سمة عارضة، بل كان جزءاً من مشروع هذا الجيل لمداخلة واقعة, إذ يحمل «جوانيات» هذا الجيل ويخرجها إلى الوجود لحناً شجياً، تقطره الكلمة الشاعرة الشجيَّة, وأحيانا الكلمة السلاح، عندما تمتزج الثورية بالحلم.
الغناء إذن كان - بما يحمله من معنى التغنِّي لا التطريب الأجوف- جزءاً من التكوين النفسي لهذا الجيل الذي لم يكن معبأ بغير الثورية والحلم والثقة الزائدة، والجرأة، والفرحة التي بدأت تتشكل مع امتلاك الإنسان البسيط حريته وأرضه، وأدوات إنتاجه، وفرصة الحراك الاجتماعي بعيداً عن منطقة الصفر الاجتماعي التي كانت حكماً مؤبداً على الأكثرية من أبناء مصر قبل الثورة. 
لا شك في أن دراسة التكوين النفسي والاجتماعي لهذا الجيل ربما ستكون مدخلاً مناسباً لدراسة تجاربه الفنية، وأهم ملامح هذه التجارب في ضوء الجزر السياسي والاجتماعي الذي انطلق منه. 
إنني أجد في هذه الخلفية كثيرا من مبررات التجربة الفنية عند الأبنودي، في ميلها إلى المباشرة والهتافية، والإعلاء من قيم الغنائية، وفي ارتباطها بالقيم الوطنية والعربية، في تمسكها بأصالتها وتراثها، سواء على مستوى الرؤية أو الفن، وفي تبنيها قضايا الإنسان البسيط، والتقنع خلف قناعاته بملامحها الشعبية ولهجتها المعبرة عن هويتها، كما ألمس مبرراً لنبرة السخرية التي تظهر - أحيانا - عندما تتداعى كل قيم الانحطاط والشتات لتسد منافذ الرؤية أو الحلم أمام الذات الشاعرة صاحبة الأحلام الكبيرة والمشروعات القومية, كما ألمس كل هذا الانشغال بتفنين الأحزان... لا شك في أن ديوانيه «الموت على الإسفلت» و«الاستعمار العربي» مادة مناسبة لدراسة تجربة الأبنودي المنفتحة على القضايا الكبرى والصغرى في هذا الوطن العربي الكبير، التي يتجاوز فيها الشاعر عن كل الأطر النزقة التي يمكن أن تجعل من الشاعر بوقا لحسية بليدة أو تجعل من الشعر مرآة لتشنجات الأنا المنكفئة على ذاتها.

البناء الشعري
إن تجربة الشاعر في ديوانيه تجد مبررها في انفتاحها على الخارطة العربية بكل علّاتها وقد تبددت أمام الشاعر جهرا كل أحلامه التي يكتنزها كذات عربية عاشت تحلم بالقضاء على الاستعمار؛ لتخلص لها الحياة، فإذا بها أمام مفاجأة لم تتوقعها من زعيم ردد كثيراً «سأدمر نصف إسرائيل». فإذا به يتجه شرقاً ليدمر نصف الخارطة العربية والذات العربية معها.
 إن لحظة الترامي نحو الماضي والحلم الجميل تجد مبررها في البدء بـ «كان»، التي تحيل إلى الماضي لتبدأ مسيرة التجربة الشعرية في ديوانه «الاستعمار العربي»، ممتشقة الحكاية على طول الطريق، لكأنها تجربة تمتح من معين السيرة الشعبية، متجاوزة عن سيرة البطل الفرد الأسطورة، إلى سيرة الأمة الأسطورة. إن فداحة اللحظة التي تدهس بثقلها كل الماضي والحاضر وفجائيتها في الوقت ذاته أورثتا الذات الشاعرة كثيراً من الدهشة التي لم يعد الخطاب معها مناسباً بغير السخرية الممزوجة بالسخط الذي تعلو نبرته إلى مستوى القدح المباشر، وإنها اللحظة التي لم تعد سلطة العقل تمارس فاعليتها على الذات. ربما كان التوتر الحاد مبرراً لبناء الديوان بشكل قصيدة طويلة بطول الأزمة متشابكة الأغصان، متنوعة الإيقاعات. إنها تجربة وليدة الصدمة أفقدت الشاعر كل ما لديه من بقايا حلمه القديم، ربما لهذا أنهى ديوانه بالإعلان: «أنا الحزين الحزين، أغبى الخالدين»، وربما أن القصيدة الديوان كانت مبرراً على مستوى الرؤية لهذا الإعلان الأخير، الذي يعكس صدمة المثقف العربي والإنسان العربي، الذي عاش يثق بقياداته وشعاراتها وعانى من أجل التمسك بمبادئه التي تربطه بالحياة الكريمة فوق أرضه.
إن القصيدة الديوان «الموت على الإسفلت» تبدأ معنا برصد الملامح الأولى لتـشكل الوعي القومي لدى جيلٍ عاش حلمه الكبير، وحمل على كاهله همه السياسي وعسف السلطة، إذ يندر في هذا الجيل أن يوجد مثقف إلا وصاحب هم سياسي، كما يندر أن يكون الهم السياسي بعيداً عن الإطار الاشتراكي، الذي كان يمثل سقفاً أيديولوجياً للتوجهات السياسية بعامة، كما يندر أن يكون، هذا المثقف صاحب الهم السياسي متجرداً من رسالةٍ ينطلق بها من الجماهير وإليهم، ولم يكن مفهوم الجمهور يعني الطبقات الشعبية، إنما كان يعني الوطن ككل.
 ربما هذا ما يفسر عمومية الخطاب في ديوان «الاستعمار العربي»، وقد تجاوز مفهوم الوطن معناه الضيق إلى أفق العروبة الأرحب؛ فوطن عبدالعال الصعيدي «سوهاج»، وهو نفسه بغداد، وهو في البلدين يحمل هماً واحداً هو هم كل إنسان عربي ينتظر من قيادته الخلاص الوطني وتحرير التراب الفلسطيني. 
إن عمومية الرسالة، وانفتاح التجربة على الماضي العربي وحاضره، كانا مبررين آخرين لـــترقِّي لهجة القصيدة فوق محليتها الضيقة، واقترابها من لهجةٍ وسطى، تقترب من الفصحى، وتحتضن كثيراً من مفرداتها، كمطمح لجعل بلاغة الخطاب في مستوى عمومية الأزمة العربية، التي فجرت التجربة.

ناجي العلى
في ديوان «الموت على الإسفلت»، تقف حادثة اغتيال رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي في منفاه بلندن. تقف الحادثة كمفجر شعري يتجاوز الحادثة نفسها، فبدلا من الـ«تعديد» على ناجي العلي القتيل، ينطلق صوت الذات خلف قناع الأم الريفية بـ«العدِّيد» ولكن على روح الأمة العربية التي ماتت بموت الحس البطولي والنضالي فيها. وربما أن اللحظة مناسبة - بكل أسف - للتغني بقيم لم يكن يحلم بها الشاعر يوماً؛ إذ لم تكن تتصور الذات العربية الحالمة بمشروعها الكبير أن يأتي عليها اليوم الذي لا تجد فيه في جعبتها غير حجرٍ، وغير يد طفل تحمل هذا الحجر في وجه عدوٍ غاشم يبادل الحجارة بطلقات المدافع وقذائف الطائرات.
إنه واقع مهما كان معبراً عن موت البطولة العربية واضمحلال قيم النضال، فإنه في الوقت ذاته فرصة لممارسة التغني بإصرار هؤلاء الأطفال على الدفاع بدلاً من الجيوش العربية.
وللمرة الثانية، تأتي القصيدة طويلة بطول الأزمة وحجمها، لتحتل مساحة الديوان كله، لكأنها إشارة ضمنية إلى أن ديوان الشعر العربي المعاصر لم تبقَ فيه مساحة لهمٍّ آخر من هموم الشعر غير همه الأزموي، الذي يتعلق بمصير هذه الأمة. 
لم يكن الهمُّ طويلاً، بل كان مركباً يسير في اتجاهات عدة تتعلق جميعها بمصير الإنسان العربي ووضعيته في ظل لحظة قاسية تحاصره بالموت والتصفية الجسدية المباشرة. ربما كان «الموت على الإسفلت» عنواناً مفسراً لطبيعة هذا الموت الذي يسكن الإسفلت... الطريق الإسفلتي في ارتباطه بالمدينة المعاصرة يظل ملمحاً دالاً في اختيارات المدينة المعاصرة التي اختارت أن تقطع طريق الحياة على هذا الإنسان، علناً، ومن دون تورُّع تُصَفِّيه جسدياً في وطنه المغتصب، وفي الأوطان الأخرى/ المنافي التي يفر إليها مكرهاً.
إنها صدمة الشاعر في واقعه، كانت مربكة ومفجعة، ليس لأنها طارئة ومحدثة، بل على العكس، لأنها وليدة أزمة مركبة ومطردة ومتداعية يوماً بعد يوم، لكن لحظة ميلاد التجربة تجد مناسبتها في حادثة صادمة كاغتيال ناجي العلي المفن، الذي لم يحمل مسدسا ولا بندقية، إنما جاء إلى العالم حاملاً حلمه بوطن، وأداة حلمه كانت متمثلة في الريشة التي يعبر بها... لهذا كانت الفرصة مناسبة لتفنين الحزن وإطلاق الـ«عدِّيد» على ناجي العلي والأمة العربية والإنسانية الحديثة العمياء.  

قناع الأم
لقد كان قناع الأم التي تطلق الـ«عدِّيد» مناسبة لإطلاق مشاعر الرثاء، وتعديد محاسن الفقيد/ القتيل، وربما هي لحظة مناسبة لأن يأتي الـ«عدِّيد» ممزوجاً بمتطلبات اللحظة المشحونة بالرغبة في الخلاص والقصاص من العدو، الذي لا يفرق بين الطفل والشيخ، مثلما أن لا يفرق بين مناضل بالريشة ومناضل بالبندقية، وبين ثنايا الـ«عدِّيد» كان الشاعر يفسح لنفسه مجالا عندما يريح صوت النائحة التي تُعدِّد ليقف كذات مفندة، معلقة، ساخرة، ناقدة، مفلسفة... لهذا كان تعدد النبرات بثوريتها وهتافيتها أحياناً معادلاً آخر لصوت الأم التي تمارس الـ«عدِّيد»، وإذا كان الـ«عدِّيد» قد سار على وتيرة واحدة مشمولة بالحزن والأسى، فإن الذات الشاعرة المتوترة بدت في وقفات عدة بين فواصل الـ«عدِّيد» كأنها بألف رأس، تتجه صوب الماضي والحاضر وهي تنظر إلى المستقبل، عين على الأمة النائمة نوم الخراف، وعين على الذئاب التي تترصدها، وفي الوقت نفسه عين على الأطفال الذين يطلقون حصياتهم في وجه الصهاينة المحتلين، وعين على مستقبل هذه الأمة في ظل ما يحيق بها من مخاطر... تارة تهتف بالنداء رغم يقينها أنها تنادي أمة في موات، ومن ثم كان يسخر تارة أخرى من هذه الأمة، وتارة يفند علاتها ويعدد أمامها عوامل ضعفها ومواتها، لذلك كان النصّ في هذه الوقفات مُشفاً عن التوتر والحيرة، ومن ثم كانت تتباين من وقفة لأخرى إيقاعات النص، في حين جاءت الأساليب أيضاً متباينة... وهكذا ينهي الشاعر ديوانه، بينما تظل تجربته مفتوحة على الجرح العربي الدامي، ولم يعد يسمع نداء البطولة، غير هذا الطفل الذي لايزال يرمي حجره في وجه العدو:
 «يا أيها الطفل العنيد/ يا أيها البطل الجديد/ خد الرصاصة واتقتل/ خد السلاسل واتحبس/ ودوس برجلك على الصهاينة/ والخيانة والعمالة/ والقرار/ والكونجرس».
من جهة أخرى، عبدالرحمن الأبنودي واحد من أبناء الصعيد «الجوَّاني»، الذين توارثوا الارتباط بالأرض والطبيعة، كما توارثوا الغناء، ونقاوة الحياة وفطريتها. ولا يخفى أن الأبنودي عاش حياته الأولى في براري الجنوب البكر بعيداً عن تعقد الحياة وتشابك علاقاتها، بعيداً عن أي لهاث مادي، أو خوف من الغد... لذلك أتت مرآة الذات صافية إلى حدٍ كبير، ولذلك - أيضاً - تلقى قصائده استجابة من القراء، ولا أظن أن الشاعر الذي يوقعنا في اللبس أقل وطأة من الواقع الملتبس.
الذات الجنوبية - عموماً لا تتبرأ من الرومانسية، ولا تتخلى عن حزنها الشفيف، وهي تفنن أحزانها بالغناء، وتلتحم بعناصر الطبيعة التي لايزال إنسان الجنوب يتعامل معها ويستخلص منها رزقه.
الغناء لازمة من لوازم الحياة في الجنوب... كيف تُستقبل الصباحات بالغناء، وكيف يندغم مع صوت الشواديف وحفيف الصفصاف، بل كيف يستقبل المساء؟ كيف يفنن أحزانه بالغناء «العدِّيد» وكيف يطلق زفرته مواويل يعالج بها أدواء النفس، بل كيف يصدح في لحظة الكدح بالغناء؟ 
هنا، في هذا الوجود المخصوص، نشأ عبدالرحمن الأبنودي، وعاش حياته الأولى، وتشكّّّّّّل وجدانه الشعري، يمتاح منه رحيق الحياة الممزوجة بالشعر والغناء. لا شك في أنه وجود مخصوص، كل شيء فيه عزيز، وكل شيء يخص كل شيء... الذات الجنوبية عموما ليس لديها ما تفرّط فيه، كما أنها ليست معنية بالثورات ولا الزوابع التي تحدث في فناجين، لا تلعن مولد الشمس، ولا شيء يرهقها، إنها وليدة البراح، وقرينة التأمل والشعرية... شعرية الدوحة، المزمار، الناي، إبداع الله في الكون، موسيقى الله، الشدو، الغناء، أساطير القبيلة، حكايات الجدات، المصاطب، السمر، الأذكار، وهدة المساء، الشاطئ، الصفاء، 
نقاء السريرة، الكون المفتوح، السماء، القيلولة، البراري، المراعي... وجود لا يلعن بعضه
 بعضا، ينام في حضرة الملائكة، توقظه هزّة الأغصان أو نقر العصافير، صوت الله في قرآنه، هديل الحمام، التسابيح، صوت الشواديف.
هي ذات تمتلك واقعها وتسيطر عليه، كما تمتلك أصالتها وتراثها، تمتاح منهما شجاعة التجول، وهي تتخطى، أو تجتاز مراحل نموها ووجودها. 
من هنا، فإن شعرية الجنوب تختلف، لأن الهاجس مختلف والعذابات تختلف... بهذه الشعريّة انطلق الأبنودي إلى آفاق لا تحدّ، ومن ثمّ فإن أي دراسة لتجربة الأبنودي تتجاوز عن هذا الملمح الأصيل في تجربته ستظل قاصرة عن فهم جوانب كثيرة في هذه التجربة. 
انطلقت تجربة الأبنودي من طقس بيئي مجتمعي مخصوص رضع فيه الشعر الشعبي من مصادره الحيّة المتمثلة في أغاني الحصاد والأجران، والأفراح، وليالي الإنشاد والأذكار والولائم والمآتم... إرث من الفنون اللسانية الشفاهية مع كثير من أمثال وحِكم، وسير شعبية ولوازم حكائية وغنائية. أعلن الأبنودي انتماءه لهذا الطقس المفنّن منذ أن اتخذ اللهجة أداة للتعبير الشعري، ومن ثمّ اعتمد على جميع الحيل والوسائط الجماليّة التي حوتها هذه الفنون لتوصيل رسالته الشعرية، وليس بخافٍ أن هذه الفنون مجتمعة تعتمد على المشافهة كطريقة أدائية قادرة على اجتذاب أذن المتلقي، ومن ثمَّ فجلّ ما كتبه الأبنودي يركز على هذه المشافهة التي لم يكن يخدمها فنِّيا أن تأتي مكتوبة إلا بالقدر الذي يجعل مها نصّاً شعريّاً مكتوباً يعوزه الإلقاء الجيد الذي يبرز مخزونه الشفاهي .