بول ريكور والنهاية السعيدة

بول ريكور والنهاية السعيدة

مرت عشر سنوات على وفاة الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، بعد أن عمّر طويلاً وتجاوز الثانيـــة والتسعين، عند وفاته. وهذه السنوات العشر تشكل عادة الامتحان الأول لمعرفة حقيقة قيمة المبدع، الكاتب أو المفكر، إذ تجعل بيننا وبينه مسافة كفيلة بأن تسقط الكثير مما كان مجرد هالة صنعها الضجيج الإعلامي. والواقع أن هذه السنوات لم تقلل من قيمته الفكرية، بل على العكس من ذلك، مع العلم أن شهرته لم تأته سريعاً في حياته، فهو حين وفد إلى السوربون أســـتاذاً لمادة الفلسفة العامة في الخمسينيات من القرن الماضي، كان الضجيج حول سارتر والوجــــودية يملأ الحي اللاتيني، حي الطلبة في باريس، ليجعل من الفلسفة شيئاً أقرب إلى موضة جارفة لا تقاوَم. 

وحين بدأت الوجودية بالانحسار بعد وفاة ألبير كامو عام 1960 ومرلوبونتي في العام التالي، سارعت موضة جديدة لتحل مكان السابقة، وتمثلت هذه الأخيرة في تيار البنيوية القادمة من ألسنية فرديناند دو سوسور، وأنثربولوجيا كلود ليفي ستروس، ومعها مجموعة جديدة من الفلاسفة على رأسها ميشال فوكو وجاك دريدا ولويس التوسر، وكانت بمنزلة ثورة نقدية جارفة تريد سحق الواقع القائم على الادعاء الديكارتي بأن الأنا الفردية الكوجيتو قادر على بلوغ حقيقة مطلقة، فكان على ريكور أن يتصدى لتيار جديد قوي يملأ حقل المعرفة، بل يكاد يختزله في البحث عن البنية الخفية التي تقف خلف الوعي فتحوله إلى مجرد وهم موروث من الماضي. هذه الثورة في العمل التي رأت في التحليل النفسي الفرويدي ونيتشه وماركس أسيادها الفكرية صاحبتها انتفاضة طلابية عرفت باسم أيار (مايو) وهو الشهر الذي حدثت فيه سنة 1968م. وكان على ريكور أن يتصدى وحيداً تقريباً لهذا التيار وهو المؤمن بدور الدولة الأساسي في أي تغيير جوهري بسبب إعجابه بهيجل وتوليفاته الكبرى، ولكن قبل ذلك بسبب تجربته المريرة بعد وقوعه في الأسر، في الحرب العالمية الثانية وبقائه خمس سنوات كاملة في معسكر الاعتقال الألماني من عام 1940 إلى 1945، وهو الذي كان من أكبر أنصار السلم في مطلع حياته الفكرية والسياسية.
لقد غرد ريكور إذن خارج السرب، واعتبره كثيرون في حينه هامشياً، ومازلت أذكر اجتماع الجمعية الفرنسية الفلسفية الذي عُقد في صيف سنة 1980 في مدينة ستراسبورغ الفرنسية القريبة من الحدود الألمانية والتي كان ريكور قد بدأ فيها تدريسه الجامعي، إن جاك دريدا كان النجم الساطع حتى في حضور ريكور.  غير أن العمر المديد سمح لهذا الأخير بأن يكمل مشروعه الخاص به وأن يكمل معركته الفكرية المتمثلة قبل كل شيء في إقامة الفلسفة حواراً مثمراً مع العديد من العلوم الإنسانية المتدفقة من شتى الحقول المعرفية، التي كانت في غالبيتها تعلن نهاية الفلسفة الوشيكة.
كان رد  ريكور في كتاب صدر عام 1990 هو «الذات عينها كآخر»، وقد أكد فيه أن الكوجيتو يبقى الأساس الصلب، حتى وهو مجروح، لكل تفكير ميتافيزيقي، وهو يخرج دوماً منتصراً من كل تشكيك في جدواه.

حوار مع الفلسفة
ولقد أقام كذلك حواراً مهماً مع الفلسفة التحليلية الآتية من التراث الأنجلوسكسوني، أي من خارج حدود أوربا القارية والمستندة إلى تحليل اللغة كأداة تواصل بين البشر، غير أن حلمه الأكبر ظل إعادة كتابة هيجل من جديد، على ضوء كل ما استجد في ميادين المعرفة، ومحاولة التوصل إلى رؤية تتسم بالانفتاح ومحاولة فهم الآخر، واستيعاب الأحداث المتلاحقة بسرعة هائلة، والتي تعصف بالبشرية كلها، وبعد أن عولمها التكنيك الحديث المسيطر بشكل غير مألوف، وذلك من أجل تبين دلالات العالم الجديد الذي نعيشه، وإعطاء معنى للوجود وللعيش معاً في وئام وتعاون. لهذا لم يكن غريباً عليه أن يقيم في العمق حواراً مع التاريخ كعلم متجدد بإشكالياته التي قامت بشكل خاص بفضل ما أتت به مدرسة الحوليات الفرنسية، وهذا ما أنجزه فعلاً في كتابه الضخم «الذاكرة، التاريخ، النسيان» الصادر عام 2000، أي مع نهاية القرن وقد جاوز واضعه السابعة والثمانين من عمره، وكأنه شاءه أن يكون تتويجاً لمسيرته الفكرية يعلن فيه آخر نبأ يزفه إلى قرائه، ألا وهو النهاية السعيدة للتجربة الإنسانية، وقد أصر المؤلف على أن يستعمل التعبير الإنجليزي The happy end . وهذا الكتاب بعد مرور سنوات عديدة على صدوره لم يفقد شيئاً من رواجه، بل على العكس من ذلك أصبح ما يمكن أن نسميه مصنفاً كلاسيكياً، أي إنه قد تغلب على النسيان، وبقي في الذاكرة ودخل التاريخ.
التاريخ هو ذاكرة الإنسانية أو قسم محدد منها، أو مجتمع معين أو مجموعة بشرية، غير أن الذاكرة قبل أن تكون جماعية أو مجتمعية هي ذاكرة فردية يحتفظ بها كل شخص وتشكل هويته العميقة، والذاكرة قد تخون صاحبها أو تتعرض للنسيان، غير أن هناك اختلافاً مهماً بين ذاكرة الفرد وذاكرة التاريخ، فالفرد حين ينسى يمكنه أن يعود فيتذكر، أي إنه قادر مادام حياً، على ما يسميه ريكور المعجزة الصغيرة: فجأة وبعد فترة نسيان قصيرة أو مديدة يعود الماضي فيحضر كواقع راهن موجود بكل تفاصيله وحقائقه، الماضي يمثل أمام صاحبه بكل غناه وحنينه، أي إنه يستعاد تماماً، وإن كان يملك الموهبة يستطيع حتى أن يحوله إلى قصيدة أو رواية، فيصبح وقتها قادراً على الحفاظ عليه كي يكون أقوى من الزمان وتدميره الماحق. وليس مصنف الكاتب الفرنسي مارسيل بروست «بحثاً عن الزمن الضائع» الذي يقع في آلاف عدة من الصفحات سوى محاولة إحياء هذا الزمن الذي فات ولم يعد، عن طريق تثبيته في ذكريات ارتدت ثوباً لا تقدر على محوه الأيام، حين حوَّلها الكاتب إلى عمل فني، أي إلى تحفة جميلة تتحدى الضياع.
بعض هذا نجده عند الروائي باتريك موديانو، الفائز بجائزة نوبل للأدب في العام الفائت، فشوارع باريس تكتسب رونقاً جديداً تحدده الذكريات الضائعة في جوانبها والتي تبحث عمن يعثر عليها ويحميها من الذوبان في النسيان. إن سيل الماضي المحمَّل بالذكريات الهائمة يختلط بحاضر ذاكرة الراوي فينتج عن ذلك عطرٌ يعطي للشارع هويته الحقيقية الخارجة لتوّها من وهج الإبداع الأدبي.
نستخلص من هذه المقارنة السريعة بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية أن التاريخ لا يعيد نفسه إلا بالمعنى المجازي أو الأخلاقي، وأن كل محاولة لإعادته ليست إلا ذريعة تؤدي إلى كوارث ضخمة، كما حدث في عصرنا مع موسوليني في إيطاليا الذي اعتقد أنه يستطيع استعادة مجد روما، فسلك سياسة استعمارية وتوسعية أدت به في النهاية إلى الوقوف إلى جانب هتلر الديكتاتور الآخر الألماني الذي كان يحلم ببناء إمبراطورية تدوم ألف سنة، فجنى من ذلك دماراً شاملاً لعاصمته وملايين الضحايا على امتداد كل أوربا على الأخص، ولم يدم حكمه أكثر من عقد إلا قليلاً. 

المؤرخ والطريق الآخر
لما كانت المعجزة التي تحدث مع الفرد غير ممكنة على الصعيد الجماعي، كان لابد للمؤرخ من أن يبحث عن طريق آخر، إنه طريق المرور بالأرشيف وشهادات الذين عاصروا الحدث، وهنا نجد العديد من المدارس التي تعالج إشكالية كتابة التاريخ، ونحن نعلم أن مدرسة الحوليات أحدثت خرقاً كبيراً في صرح منهجيات كتابة التاريخ كي يحافظ الباحث على الموضوعية، ويعتقد ريكور أن ما يبقى دوماً ويظل مشتركاً لكل كتابات التاريخ العلمي هو السعي وراء التفسير السببي الغائي وصياغته بطريقة سردية، وذلك هو جوهر التاريخ والشرط الضروري كي يتمتع بالمصداقية. إن كل حدث، كل واقعة لها ما يفسرها وما يربطها بما قبلها وكذلك لها هدف تسعى إليه، إنها ليست أمراً عفوياً عابراً، وكل هذا على المؤرخ أن يأخذه بعين الاعتبار وأن يسرده، أي أن يقول بدايته ثم عقدته، أي مجموعة تشعباته، ثم يصل إلى النهاية أي خاتمة عهد أو فترة، إذ إن السرد وحده هو الذي يجعل الإنسان يتحكم بالزمان ويفهمه، فصوغ الزمان كقصة تُحكى هو وحده الذي يجعلنا نفهم ما يجري حولنا، وتعصمنا من العيش في زمان يجرفنا لا نعرف كيف جاء ولا إلى أين يأخذنا. واضح هنا أن ريكور يعيد الاعتبار للتاريخ الوقائعي الذي يسرد الأحداث بالتتابع الزمني، كذلك فإن مثل هذه المنهجية تعيد الاعتبار إلى الرواية الكلاسيكية القائمة على وجود الشخصيات المختلفة والمتشابكة الوقائع، وحيث هناك بداية وتطور إلى أن تتعقد الأمور وتتأزم، ثم تجد لها الحل النهائي الذي يعطي الرواية كل معناها. ونحن نعرف أن الرواية الجديدة التي نشأت في فرنسا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية كانت ثورة ضد كل ما سبقها، إذ هي لا تريد أن تقول شيئاً ولا يهمها أن ترسم شخصيات معينة.
كما نرى عند ريكور، هناك تقاطع بين الرواية والتاريخ، فهل يخولنا مثل هذا الأمر أن نقول مع الروائي أندريه جيد، الحائز جائزة نوبل في الأدب عام 1947: «إن التاريخ هو رواية حصلت، في حين أن الرواية هي تاريخ كان يمكن أن يحصل»؟ 
لما كانت معجزة الذاكرة الفردية غير ممكنة على مستوى الجماعة أخذت كل دولة تقيم النصب التذكارية بسبب ما سمي واجب الذاكرة، أي واجب عدم النسيان، وبهذا نرى انتشاراً واسعاً لتمثال من هنا ولوحة تذكارية من هناك، وأصبحت هذه الظاهرة تتسع عن حق أو عن غير حق، وعمَّت الفوضى بهذا الخصوص مع ما سماه جاك دريدا العولمة «الملتننة» Mondialatinisation  أي القادمة من البابوية اللاتينية (الفاتيكان).
وجرى هذا مع إطلاق سراح الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا ثم انتخابه أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا عام 1994، وبمعنى آخر حصل في السنين الأخيرة من القرن الماضي أمر غير عادي، وهو طلب الغفران ممن كان خصماً من أجل تخفيف حمل الذاكرة الجماعية وإقامة إنسانية متصالحة بعضها مع بعض، طاوية صفحة الماضي، وفاتحة صفحة جديدة من السلم الدولي.
إن كان الفرد يستطيع أن ينقي ذاكرته بمبادرة شخصية منه فيتصالح مع محيطه ومع من أساء إليهم أو أساؤوا إليه، وأن يبلغ بذلك الهدف المرتجى من الحياة، أي بلوغ النهاية السعيدة فيعيش في حالة من الرضا الداخلي تُشعره بأنه قد عاش حياته ونجح فيها، ولم يفشل في الذي كان يبغيه من الوجود، فإن الأمر يختلف حين ننتقل إلى الصعيد الدولي، إذ إن ما كان المجتمع المدني أو السياسي قد شيده تحت شعار واجب الذاكرة قد يحمل خطراً داهماً، وقد يصبح عقبة حقيقية في طريق المصالحة مع الآخر والعيش بسلام معه، إن واجب الذاكرة نحو الأجيال التي سبقتنا ضروري، غير أن الاحتفال بذكرى ما حلت بمجموعة معينة قد يصبح سداً يقف حائلاً دون سماع صوت الآخر الغريب عنا، وذلك حين تتشبث بسماع صوت ما حل بها من مأساة فتغلق كل الأبواب، فلا تعود تسمع صوت ما يعانيه الآخر كذلك، وهذا ما يقف عائقاً حقيقياً أمام بلوغ النهاية السعيدة التي هي الممر الإجباري نحو المصالحات الوطنية لبلوغ السلم العالمي الدائم القائم على تخطي كل عثرات الماضي ومآسيه المحفورة في القلوب.
ريكور لمح هنا تلميحاً إلى ما يريده، غير أن العاصفة هبَّت في وجهه. لقد انتظر نقداً كبيراً لكتابه من المؤرخين، لأنه دخل حقلاً معرفياً ليس حقله ولكن ذلك لم يحصل، إذ هوجم بعنف من فرنسا ومن خارجها باسم وجهة النظر الأخلاقية إذ فهم الكثيرون أنه يقصد اليهود والمحرقة النازية لهم، وأنه يدعوهم إلى سماع صوت الآخرين الذين يتألمون، وأن الوقت حان للتخفيف عن ذاكرتهم والتطلع نحو المستقبل، وذهبت ريجين روبان Régine Robin  (الأستاذة في جامعة كيبك /مونتريال، كندا) إلى القول إنه ينادي بذاكرة مشبعة saturée، أي بذاكرة أثقلها حمل الماضي ولم تعد تستطيع أن تستوعب كل ما تحمله، وقد بدأت تنوء بثقل فوق طاقتها.
الواقع أن ريكور أخافه أن كل شيء مع العولمة قد أصبح حضارة مشهدية، أي تحول إلى ضجيج إعلامي يستغله السياسيون والانتهازيون، في حين أن البشرية بحاجة إلى أن تعكف على التأمل في ماضيها وتحاول عن طريق تمثله أن تسيطر عليه وتتخطاه، كما حصل في جنوب إفريقيا مع نهاية التمييز العنصري، ومن هنا كان هناك دور مهم للتناسي والصفح، أي ليس فقط للتسامح بل للسماح.
إن ذاكرة الإنسانية المتفهمة والمتناسية تصبح ذاكرة تسير على  طريق السعادة، أي أفق التعاون الدولي والعدل، وتفتح منظور النهاية السعيدة، أي السلم الدائم بين الأمم.
في الواقع يستعيد ريكور فكرة الفيلسوف الألماني الكبير كانط الذي كتب بعد نشوب الثورة الفرنسية «مشروع سلم دائم» عام 1795، وصف بأنه مجرد كتاب «يوتوبيا» فكرية جديد مليء بالأمنيات والنوايا الحسنة ويضج بالأحلام غير القائمة إلا في مخيلة أصحابها، وقد وصفت النهاية السعيدة لتاريخ الأمم كما يقول ريكور، بأنها محض خيال تأتي كـ «يوتوبيا» إضافية. غير أن الحياة تفتقد كثيراً من بهجتها ورونقها بل ومعناها إن كانت بلا أحلام. اليوتوبيا وحدها تخترق الواقع السيئ والمؤلم والمأساوي لتحلم بعالم أفضل أقل عنفاً وأكثر عدلاً، ويكفي هنا أن نتذكر صرخة مارتن لوثر كينغ: «لدي حلم   I have a dream»، الذي اغتالته يد الحقد العنصري وهو في ريعان شبابه عام 1968، غير أن رصاصات الغدر لم تستطع  أن تقضي على الحلم الذي أكمل شق طريقه النضالية ضد التمييز العنصري .