معلّقاتُ القرنِ العشرين

معلّقاتُ القرنِ العشرين

شكّلت المعلقات النّموذج الإبداعيّ الأرقى والإنتاج الأشهر في تاريخ الشعر العربيّ، ورغم تعاور الأزمان وتعاقب القرون لاتزالُ هذه القصائد تحتلُّ مكانَةَ الصدارة وتتبوّأ منصّة التّتويج،  ولاتزال الجماهير -خاصةً وعامّة- تنظر إليها نظرة إعجاب مخلوط بانبهار عائدٍ إلى جودتها وعلوقها بالوجدانِ الجمعيّ. 
وإذا كانت المعلّقاتُ قد عُلِّقت بأستار الكعبة وكُتبت بماء الذهب, كما يروي صاحب «العقد الفريد»، كونها مثّلت أرقى ما وصل إليه الإبداع الشعريّ الجاهليّ، فإنه أمكننا سحبُ هذا الوصفِ أو الاصطلاح على قصائد أخرى وازنة، أبدعها شعراء متميّزون على مدار تاريخ الشعر العربيّ في عصوره المختلفة، وهو ما يجعلنا نذهب إلى القول إنّ لكل عصرٍ معلّقاته أو قصائده التي شكّلت ذروة الإنتاج، وسار  ذكرها في الآفاق، وردّدتها الألسنة، فاستحقّت أن تعلق بذاكرة الجمهور ووجدانهم، وأن توسم تبعاً لذلك بالمعلّقات.

نقف في ديوان الشعر العربي الحديث على قصائد وازنة علِقت بوجدان الإنسان العربيّ، ووعتها ذاكرته حفظاً، وصارت نشيداً يُردّد، وقد اكتُسبت هذه المكانة من أمرين توفّرا فيها: التعبير عن الواقع، والجودة الفنية. ولذلك؛ حُقّ لنا أن نسمها بالمعلّقات، مستندين في هذا الوصف إلى علوقها الرمزي بالوجدان والذاكرة الجمعية للجماهير، وهي بذلك تشبه المعلقات المعروفة في خاصية الارتباط بالذاكرة والعلوق بالوجدان، وفي قيمتها العالية التي تشبه قيمة الذهب ونفاسته.
وقبل المضيّ قدماً فـي اختيار بعض القصائد التي نرجّح استحقاقها للقب المعلّقة، يُستحسن أن نضعَ معايير محدّدةً تساعدنا في عملية التصنيف والحكم؛ أولها يتعلّق بالإجادةِ الفنية، وثانيها ينصرفُ إلى جِدّة الموضوع وبراعةِ التعبير عنه، وثالثها يتمثّل في طولِ القصيدة التي تدلّ في ناحية من النواحي على رسوخ قدم الشاعر في الإبداع بحيثُ لا يُعييه غرض ولا يستنفدُ طاقته الشعرية موضوع.
وتجبُ الإشارةُ إلى أنّ القرن العشرين شهدَ حركية شعرية فوّارةً أثمرت مدارسَ شعرية مختلفة، أسهمت في تطوّر الشعر العربيّ، وبرز شعراء أفذاذ ضربوا في الإبداع بأسهمهم, مخلّفين قصائد من العيار الثقيل حوتها الذاكرة وترنّمت بها الألسن، ولاتزال رغم مرور السنوات حيّة نابضة في الوجدان والذاكرة وكتب الدارسين، وفي ما يلي رصدٌ لبعض القصائد المشهورة التي أمكن إدراجها تحت مسمّى «معلّقات القرن العشرين»: 

المعلّقة الأولى:

«قم للمعلم» لأحمد شوقي
تعدّ قصيدة أحمد شوقي نشيداً تردّده الأجيال من دون سأم، فهي من القصائد التي تحيا في وجدان الجماعة، وتعكس في عمقها مكانة المعلم ودوره في تنوير العقول وبناء المستقبل وتشييد الغد، فلا غرو أن صارت القصيدة معلّقةً خالدة في ديوان الشعر الحديث، ورسمت مكانها بحروف من ذهب وفخر في تاريخ الشعر، قديمه وحديثه. يقولُ فيها: 
قم للمعلّم وفّـــــــــه التّبـــــــــــــــجيلا
كادَ المعلّم أن يكون رسـولا
أعلِمتَ أشرف، أو أجلّ من الذي
يبني، وينشئُ أنفُساً وعقولا
سبـــــــــحانك اللـــهــــــــمّ خـــــــــــيرَ مــــعلّــــــــــــم
علّمـــــت بالقلم القرون الأولى
أخــرجتَ هـــذا العــــقـــــــــــــــل من ظــــلــــماته 
وهديته النورَ المبينَ ســـــبيلا
أرسلتَ بالتوراة موسى مرشداً 
وابن البتول فـــــــعلّم الإنجـــــــيلا
وفجَرت ينبوع البيان محمداً
فسقى الحديث، وناول التنزيلا
    فهو الذي يبني الطباعَ قويمةً
وهو الذي يبني النفوس عدولا
ويقيمُ منطقَ كلّ أعوجِ منطقٍ 
ويُريه رأياً في الأمور أصيـــــــــلا
وإذا المعلّم لم يكن عدلاً، مشى 
روح العدالة في الشباب ضئيلا
وإذا المعلم ساء لحظ بصــــيرة 
جاءت على يده البصائر حولا
المعلّقة الثانية: 
«اللغة العربية تنعى حظّها» لحافظ إبراهيم
تتحدّث اللغة العربية في القصيدة بلسانها مخاطبة أهلها، ناعيةً حظّها العاثر، إلى درجة أنها ظنّت بمقدرتها سوءاً، وكادت تصدّق كلّ من رماها بقصور، لائمة الناطقين بها على عدم نصرتها، ولم تفوّت الفرصة لتعبّر عن سعتها, وجمالها الذي أنكره الأحفاد، فهي تشكو ما وصلت إليه من مستوى رديء على يد كتّابٍ سرت في أقلامهم وفكرهم لوثة العجمة. ولأنّ للعربية مكانة عليا في النفوس لدى العامة والخاصة كانت القصيدة صدى لقيمتها، ومطالبةً لإعادة الاعتبار لها، من هذا المنطلق خلّدت القصيدة نفسها في ديوان الشعر الحديث إحدى  أبرز القصائد التي علقت بالوجدان، وتردّدت على اللسان. يقول فيها شاعر النيل:
رجعتُ لنفسي فاتّهمتُ حصاتي 
وناديتُ قومي فاحتسبتُ حيــــــاتي
رموني بعقم في الشباب وليتني 
عقِمت فلم أجزع لقول عِــــــــداتي
وسعتُ كتابَ الله لفظاً وغايةً 
وما ضقتُ عن آيٍ به وعـــــــــــظاتِ
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
وتنســــــيــــــــــــــــــق أسمـــــــــــاء لمخــــــترعــــــــات؟
 أنا البحر في أحشائه الدر كامن 
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟


المعلّقة الثالثة:
 «ناموا ولا تستيقظوا» لمعروف الرصافي
تعدّ قصيدةُ معروف الرصافي التي يصفُ فيها حال العرب ونكوصهم وفرقتهم وتراخيهم في مواجهة المستعمر، إحدى أكثر القصائد سيرورة على الألسنة، فهي أقربُ إلى الهجاء الممزوج بالمرارة والسخرية، ولعل نظمها على مجزوء الكامل ساعدَ على سيرورتها ويسّر حفظها وتداولها على الألسنة، ومادام الواقع الذي تصفه القصيدة لم يتغير كثيراً، فهي لاتزال صالحةً لأن تعبّر عن حال العرب بعد عقودٍ طوالٍ ازداد فيها الواقعُ سوءاً، وبذلك استحقت أن تكون إحدى معلقات القرن العشرين، يقول فيها الرصافي: 
يا قـــــــومُ لا تــتكــلّموا
إنّ الـــــــكلــــام مـــحـــــرّم
نـــــــــــــامـــــــــــــــــــــــــــــــــــــوا ولا تســــــتيـــــــــــــــقظوا
مــــا فــــاز إلا الـــنــُّوَّم
وتأخّروا عن كل ما
يقضي بأن تتقدّموا
ودعوا التفهّم جانباً
فـــــــــــــــــــالـــخــــــــــــــــــــــــيـــــــــــر ألاّ تـــــــــــــــفـــهموا
وإذا ظـُلـــــــــــــــــــــــــــــــــمتــم فـــــاضــــــــــــــــــحكوا
طـــــرباً ولا تــــــتــظلّموا
فتحمَّدوا وتشكَّروا
وترنحوا وترنموا

المعلّقة الرابعة: 
«إرادةُ الحياة» لأبي القاسم الشابي
إنّ هذه القصيدة على بساطتها تبقى أسيَرَ قصائد القرن العشرين، ولعلّه لم يخطر بخلد مبدعها الشاب أن تصير إحدى أشهر القصائد وأعلقها بالنفوس، فهي سهلة الوزن، ركب فيها الشاعر بحر المتقارب، بسيطة المعاني، سهلة الحفظ، تعبّر عن واقع الشعب التونسي وعن سائر الشعوب التي تتوق للحرية والحياة من دون أن تقوم بما يجب، ويقدّم فيها مقترحاتٍ تمكّن الشعوب المقهورة من كسر قيود الاحتلال وإجلاء الظلام، ولعل ما شهدته تونس منذ سنوات من حراك أعادَ إحياء هذه القصيدة التي كانت شعار الثورة الأوّل. يقول فيها الشاعر:
إذا الـــــــــشــعــب يــــــــــــــــــــومـــــــــاً أراد الــــحيــاة
فــــــــلابـــد أن يــــــــــــســـــــــــــــتجــــــــــــــيب القــدر
 ولابــــــــــــــد للـــــيــــــــــــــــــــل أن يــــــنــــــجلـــي 
ولابــــــــد للـــــــــــــقـــــــــــــــــيـــــد أن ينـــــكســـــــــــر
ومن لم يعانقــه شــوق الحيــاة
تبخـــّــر فـــــــــــــــــــــــــــــي جــــــــوّهــا واندثـــــــــــر
كـــذلك قــــــالــــت لـــــــــــــــــــــــــي الـــــــكائنــات 
وحـــــــــــــــــــــــــــدّثنـــي روحـــــــــــهــا المــــــــــستــــتـــر
ودمدمت الريح بين الفجاج 
وفــوق الجبــال وتحــت الشجـــر:
إذا ما طمحت إلى غايـــة  
ركبــت المنـــى ونســـــــيت الحـــذر
ومن لا يحب صعود الجبــال 
يَعِشْ أبــدَ الدهــر بيــن الحُفَــــر

المعلّقة الخامسة: 
«رحل النهار» لبدر شاكر السياب
  تعدّ قصيدة «رحل النهار» نشيداً مأساوياً لذاتٍ أزِفَ ميقاتُ رحيلها، وقد مثّلت إحدى أبرز ما أَبدعه السيّاب في تجربته الطويلة مع المرض، فالرحيل في القصيدة قرينُ النهايةِ وغروبِ شمسِ الأمل في الشفاء، وهي ليست بوحاً ذاتياً فحسب، بل إنها أقرب لأن تكون بوحاً لذاتٍ جماعية. ومن الناحية الفنية بلغ الشاعر في القصيدة أرقى درجاتِ الكمال الفني، فقد استغلّ تجربته الطويلة في الإبداع وسعة ثقافته الإنسانية ليفرغها في إبداع نموذج شعري راقٍ جمع بين صدق التجربة وجودة التعبير التي بدت في توظيفِ أسطورتي «السندباد» و«أوليس وبنيلوب» توظيفا يتناسبُ مع التّجربةِ.  يقول السّياب:
رحل النهار
ها إنه انطفأت ذُبالته على أفق توهّج دون نار
وجلست تنتظرين عودة سندباد من السِّفار
والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود
هو لن يعود
أوَ ما علمت بأنه أسرته آلهة البحار
في قلعة سوداء في جزر من الدم والمحار
هو لن يعود
رحل النهار
فلترحلي هو لن يعود
الأفق غابات من السحب الثقيلة والرعود
الموت من أثمارهنّ وبعض أرمدة النهار
الموت من أمطارهنّ وبعض أرمدة النهار
الخوف من ألوانهنّ وبعض أرمدة النهار
رحل النهار
رحل النهار

المعلّقةُ السادسة:

«لا تُصالح» لأمل دنقل
قصيدة «لا تُصالح» صرخةٌ في وجه من اختار أن يضع يده في يد من قتل الفلسطينيين وشرّدهم واغتصب أرضهم، ضمّنها الشاعر عشر وصايا على لسانِ «كُليب» الذي اتّخذه الشاعر قناعاً يوصي من خلاله أخاه المهلهل بن ربيعة، محذّراً إياه من أن يساوم أو يصالح، لأنه بذلك سيخون العهد. وتحمل القصيدة رفضاً معلناً وصريحاً للمصالحة مع كيان مغتصِب دمّر واغتصب وخرّب، وهي رفض للمقايضة أيّا كان الثمن. وللقصيدة مكانة خاصة في وجدان كل عربي وكل حر منتصر للقضايا العادلة. وأمام هذه الأهمية، غدت هذه القصيدة الطويلة إحدى أبرز القصائد وأعلقها بوجدان العرب في القرن العشرين. ومما جاء في القصيدة المعلّقة: 
لا تُصالح!
... ولو منحوك الذّهبْ
أتُرى حينَ أفقأُ عينيكَ،
ثمّ أثبّت جوهرتين مكانهما... 
هل ترى...؟
هي أشياءُ لا تُشترى...
***
لا تُصالح على الدّم... حتى بدمْ!
لا تصالح! ولو قيل رأسٌ برأس!
أكلّ الرؤوس سواء؟!
أقلبُ الغريب كقلبِ أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ... سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثكلك؟

المعلّقة السابعة:

«سجِّل... 
أنا عربي» لمحمود درويش
القصيدةُ  بطاقةٌ هوية شعرية، تعرّف بالإنسان الفلسطيني العربيّ الذي طُردَ من أرضه وأمجاده، تفوحُ منها نغمةُ التحدّي والإصرار على البقاء، وهي صرخةٌ مدوّية في وجه عدوّ لا يفتأ يقتل ويُبيد، وافتخار بالأصول والنسب الضارب في الجذور، إنها أقرب إلى النشيد القومي ذي الروح الإنسانية المضمّخ بالاعتزاز والافتخار. يقول درويش في القصيدة:
سجّل
أنا عربي
ورقم بطاقتي خمسون ألف
وأطفالي ثمانيةٌ
وتاسعهم سيأتي بعد صيف
فهل تغضب؟
سجّل...
أنا عربي...
وأعمل مع رفاق الكدح في محجر
وأطفالي ثمانيةٌ
أسلُّ لهم رغيف الخبز والأثواب والدفتر
من الصخر
ولا أتوسَّل الصدقات من بابك
ولا أصغُر أمام بلاط أعتابك
فهل تغضب؟

على سبيل الختم
تشكّل القصائد السابقة - بحقّ - قمم الإبداع الشعري العربيّ في القرن العشرين، إذ كان لها الصيت الذائع والانتشار الواسع. وإذا كانت مواضيعها ذات البعد القومي الاجتماعي قد أكسبتها شهرة نظراً لارتباطها بالوعي الجمعي والقضايا الحياتية للإنسان العربي في القرن العشرين، فإن الإجادة الفنية كان لها حضورها البارز ودورها القوي في تميّزها، فكانت متوفّرة على شروط الجودة والكمال النوعي، وهو ما جعلها قريبةً من المتلقّي، لذا فهي لاتزالُ محتفظة ببريقها اللامع، ومستولية على الوجدان الجمعيّ. وتؤكّد القصائد السابقة أنّ الشعر الملتزم المعبِّر عن القضية أكثر ديمومة من ذاك الذي يجنح فيه مبدعوه إلى التجريد والإغراق .