حتى لا ينقلب القطار... نقد التفكيك

حتى لا ينقلب القطار... نقد التفكيك

من بين التمارين العقلية التي يتم تدريب الصغار عليها ما يعرف بتمارين الفرز, التي تعتمد على تدريب الطفل على تمييز شكل مختلف عن عدد من الأشكال الأخرى المتشابهة، ويرى علماء الاجتماع أن تنمية القدرة لدى الفرد على تمييز الحقائق الأساسية من أولى المهام العقلية التي ساعدت على تطور الجنس البشري والمجتمعات الإنسانية.

ساعد التطور التكنولوجي والمعرفي على تعرض الفرد لكم مكثف من المعلومات والبيانات والتفاصيل بشكل أدى للإخلال بالقدرات الأساسية على تمييز العمليات المعرفية الأساسية، وهو ما ينتج عنه أحياناً الخلط بين الحقائق والأوهام بسبب عدم قدرة الفرد على رصد الاتجاهات الأساسية وإدراك الصورة الكلية للواقع المعيش.
ويزداد الموقف خطورة حينما تتسع دائرة الخلط بين الحقائق والأكاذيب على مستوى المجتمعات ذاتها، إذ يتوه ذلك الخلط الواضح الذي يميز بين الاثنين. وفي كتابه «اللاسلطوية» يستعرض كولين وارد مجموعة من الأفكار التي تستخدم لنشر الفوضى تحت شعارات التفكيك وإعادة التركيب، فيقول: إن اللاسلطويين لا يؤمنون بحتمية قيام ثورة نهائية ينجحون فيها، حيث فشل الجميع، ليدشنوا بعدها دولة فاضلة، فاللاسلطوي الألماني جوستاف لانداور يعلق بأن: الدولة ليست كياناً يمكن إسقاطه بثورة، ولكنها حالة – أو علاقة معينة بين البشر- أو شكل للسلوك الإنساني، يمكن أن نسقطها بعقد علاقات أخرى وانتهاج سلوكيات مختلفة.
ويوضح الكاتب الخطوات المتبعة لتفكيك المجتمعات من خلال عدد من الأفكار التي وردت في مقال للصحفي الأمريكي دوايت ماكدونالد، أهمها الدعوة لنوع من اللامركزية اللاسلطوية التي ستقسم الكتلة المجتمعية إلى مجتمعات صغيرة يستطيع الأفراد أن يعيشوا فيها معاً كبشر متطوعين لا كوحدات مجردة الشخصية.
ويتم ذلك من خلال الترويج لعدد من الأفكار البراقة التي تكون نتائجها المنتظرة على المدى الطويل مختلفة تماماً عما كان المتحمسون لها يقصدونه عند تبنيها.
فعلى سبيل المثال كانت الدعوة إلى تجاهل قيود الملبس المرتبطة بالمهنة أو الطبقة الاجتماعية، رفضاً محدوداً أو شخصياً للأعراف الطبقية، لكن ما نتج عن ذلك بعد عقود كان الدعوة إلى تحرير المرأة بالمفهوم اللاسلطوي الذي يعتبر تحرر المرأة من كل القيود المجتمعية هدفاً في حد ذاته، وأصبح إثبات هذا التحرر يقتضي ممارسة سلوكيات كانت حتى وقت قريب تضع القائمين بها تحت طائلة قانون العقوبات في المجتمعات الغربية ذاتها.
إنه المفهوم ذاته الذي رصدته إيما جولدمان، إحدى رائدات اللاسلطوية التي حددت مفهوم تحرير المرأة بأنه إثبات نفسها كشخصية ذات هوية لا كسلعة جنسية، ورفض سيطرة أي شخص على جسدها ورفض إنجاب الأطفال ما لم تكن هي ترغب فيهم.
ويهمنا هنا - ضمن عمليات الفرز المعرفية - رصد تطور مفهوم التحرر بدءاً من الملابس المرتبطة بالطبقة، إلى تحرير المرأة، ثم التحرر من فكرة ومؤسسة الزواج ذاتها، وصولاً إلى فكرة الزواج الحر التي تشيع اليوم بدرجة الزواج العادي نفسها التي تجيزها الدولة والمجتمع، ومن ثم التمهيد لاحقاً لتغيير فكرة العائلة ذاتها، من خلال السماح لمثليي الجنس بـ«الزواج» وتكوين العائلة.
ويرصد الكاتب النتيجة التي تحققت بعد قرن من الدعوة لتحرير الملبس، بقوله «إن وصمة العار التي ارتبطت في يوم من الأيام بلاشرعية الزواج الحر اختفت على مدار القرن».
ولا يمكن استبعاد الربط بين هذه الأفكار وبين نظرية المؤامرة التي تعرضت لكم هائل من الانتقادات الساخرة التي أدت في النهاية إلى وصم من يحاولون الاستناد إليها - ولو جزئياً - في تناول الظواهر المختلفة بالرجعية والتخلف، وأحياناً بالجنون.
والحقيقة أنه لا يمكن استبعاد احتمال المؤامرة عند تناول الآثار المرتبطة بالأفكار التفكيكية في عالمنا العربي؛ ليس فقط من الناحية السياسية، ولكن الأهم هو رصد محاولات إعادة تشكيل العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة.
فأحياناً يتم الترويج لمفهوم الحرية بشكل يختلف تماماً عن نظيره في المجتمع الغربي، الذي يدعي البعض أنه النموذج الأمثل الذي ينبغي الاقتداء به، رغم أن تطبيق المفهوم ذاته يختلف تماماً في الغرب، إما لظروف اجتماعية وثقافية مغايرة، وإما لأن هذا المفهوم محاط بضوابط وقيود تضمن تحقيق التوازن الذاتي لظاهرة الحرية عند حدود لا يمكن تجاوزها، وإلا وضع الشخص ذاته تحت طائلة القانون.
 ومن السهل على من انتقل للعيش في الغرب بعض الوقت أن يدرك حجم القيود الحريرية التي ينبغي له الالتزام بها في كثير من مواقفه اليومية، وإلا تحولت هذه القيود من حريرية إلى حديدية؛ فعندما تنوي إقامة حفل عيد ميلاد لابنك الصغير، عليك مراعاة عديد من القواعد، منها الإبلاغ المسبق لكل الجيران القريبين منك عن موعد الحفل والمدة التي سيستغرقها، بل والحصول أحياناً على موافقات كتابية من جيرانك المباشرين على إقامة الحفل في منزلك، والالتزام بعدم رفع الصوت عن مستوى معين، والمسارعة بإنهاء الحفل عند ورود أي شكوى من الجيران حتى ولو كانوا بعيدين عنك.
قس على ذلك الضوابط المتعلقة بزراعة شجرة في حديقة منزلك، إذ ينبغي التأكد من أن نوع الشجرة لا يسبب حساسية لأي من جيرانك أو لحيواناتهم الأليفة، وأنها مزروعة بطريقة لا تسبب أذى للمارة ولا للبيوت المحيطة، سواء بحجب الشمس عن الجيران، أو احتمال سقوطها نتيجة إعصار أو رياح قوية أو ما شابه، إذ في هذه الحالة سوف تلتزم بدفع تعويضات تقدرها المحاكم المدنية المختصة.
كما أنك لست حراً في السفر وترك منزلك أثناء موسم تساقط الثلوج، إلا إذا تعهدت بالاستعانة بمن يقوم بإزالة الثلج المتراكم أمام منزلك، منعاً لحدوث إصابات للمارة من جراء الانزلاق، وبالطبع فإن حدوث ذلك سيعني أنك مطالب بتعويض كل الأشخاص الذين تعرضوا للانزلاق أمام منزلك عن الأضرار المادية والجسدية والنفسية التي ألمت بهم.
والسؤال المطروح هنا: لماذا لا تقترب الأفكار اللاسلطوية من هذه المجالات فتدعو لحرية الفرد في عمل ما يشاء في منزله أو حديقته الخاصة؟
الإجابة بسيطة، لأن شيوع التفكيك في هذه المجالات سيعني تغيير المنظومة الاجتماعية والقانونية المستقرة، وهو ما لا تسمح به المجتمعات الغربية، لأنها تدرك مآلات ذلك على المدى البعيد.
والخلاصة أن البنية الاجتماعية والقانونية في هذه المجتمعات نجحت في إرساء آلاف القواعد القانونية التي تضبط التعامل مع الغالبية العظمى من المواقف والظواهر بشكل يجبر دعاة الأفكار الفوضوية على ممارسة حريتهم في الحيز المتاح لهم، الذي يقبله المجتمع والقانون.
وبالعودة إلى بداية المقال عن ظاهرة الفرز والتمييز، يمكننا القول إن وجود حيز متاح للحرية لا يناقض الفكرة ذاتها، والأمثلة متعددة وحافلة بشكل يجعل تطبيق بعض الأفكار يبدو أحياناً كتسيير قطار فائق السرعة على قضبان متهالكة، وهو ما يؤدي في النهاية إلى النتيجة المنطقية وهي انقلاب القطار .