علاقتي بالكتاب

علاقتي بالكتاب

خلال عام 2001، وخلال زيارته لميونخ بألمانيا, حيث كنت أقيم,  كلّفني الصديق الروائي المصري جمال الغيطاني، بإعداد ملف  لملحق البستان بجريدة أخبار الأدب، عن علاقة المبدعين العرب بالكِتاب، وراسلتُ أيامها عشرات المبدعين الكبار والأقلّ كبراً وتكبراً، وكان من ضمن الأسئلة سؤال عمّا إذا ما كنت تتذكّر عنوان أوّل كتاب أدبيّ قرأته؟

 وصلني كثير من الردود التي تراوحت أيامها بين الفيض والادّعاء, ولكنني لم أجد بينها أي إجابة عن سؤالي هذا الذي كنت في الحقيقة دسسته بمكر ضمن الأسئلة, لغاية في نفس يعقوب.
ولقد فعلتُ ذلك, وكنت على يقين مُسبقاً بأنني لن أتلقى إجابة, لأنني كنت أفاخر دائماً بأنني أتذكّر جيداً عنوان أوّل كتاب أدبي قرأته في طفولتي. وما كان ينبغي لي أن أنساه على أيّ حال. 
حدث ذلك عام 1978، وكان لي من العمر عشر سنوات وتزيد بأشهر قليلة, وكنت في طريقي إلى المدرسة الابتدائية بالمنصورة بالقيروان, حين عثرت عليه. كان كتاباً ضخماً, ممزّق الصفحات ومن دون غلاف, ملقى على جانب الرصيف, وكانت الصفحات الأولى منه مبلّلة بزيت أخضر, عرفت بالخبرة فوراً أنّه زيت ملوخيّة تونسية, عرفت ذلك من بقايا الرائحة وشكل توزيعه الشفاف على مساحة الورق وخبرتي التي اكتسبتها من تلطيخ كراساتي بزيوت أكل الوالدة، رحمها الله. نسيت يومها المدرسة كليّا, وانهمكتُ بكلّ لهفة ودهشة على ما تبقى من هذا الكنز الورقي الذي بين يدي. بعد أن مزّقت بحذر الصفحات المُلطّخة الأولى والأخيرة منه.
 والحقيقة أنه كان يتجاوز الخمسمائة صفحة, تبدأ من الصفحة الخمسين تقريباً، ولم أكن أعرف أيّامها في تلك السنّ المُبكّرة,  أنّ ما وقع بين يدي هو إحدى الطبعات المصرية القديمة نسبياً, لكتاب «الحيوان للجاحظ». أوّل كتاب غيّر مجرى حياتي إلى الأبد.
أذكر كلّ ذلك بالتفصيل الآن, وحتى بعد مرور قرابة الأربعين سنة تنقص ثلاثاً, لأنّ أخي الأكبر فاجأني يومها وأنا «مقرفص» أقرأ ما بين يدي, وأحاول فكّ طلاسم وأحاجي المئات من العبارات التي لم أكن أتصوّر أنها يمكن أن تكون عربيّة أصلاً.
وطبعاً, ضربني أخي - أكرمه الله - ضرب من يرى شقيقه الأصغر يبيع للتوّ حياته ويتبع غواية الشيطان وطريق اللارجوع والخسارة.
وفعلاً، كان أخي على حقّ... فمن يومها نفث الجاحظ سحره العذب في روحي المندهشة الطريّة المستوفزة, فقايضتُ بالكتب كلّ  الدّنيا وخيّبت أحلام الأهل في أن أصبح ضابطاً في الجمارك أو محامياً أو قاضياً أو طبيباً أو مهندساً, رغم تفوقي المذهل في الدراسة, عبر كلّ مراحلها.
وسلكت طريقاً لا عودة منه، طريق الكتابة والكتب وعشق الحرف والنصوص الفصوص والتيه في أودية وبحور الشعر والسرد والحكاية الفاتنة والعبارة المارقة. ووالله, لو خيروني اليوم مليون مرّة, لاخترت الطريق نفسه.
 فمهنة الكاتب, على كلّ الشقاء الذي يصاحبها, وعلى تداخلها وضبابيتها وعدم الاستقرار النفسي ولا المادي ولا حتى الاجتماعي فيها.  فضلاً عن أخطار عقم بذورها المحتمل, وطول انتظار مواسم حصاد وجني ثمارها التي قد لا تكون ولا تتحقق خلال حياة الكاتب أصلاً... رغم ذلك, فهي أروع وأجمل مهنة وأنبلها. 
والآن, وأنا على عتبة الخمسين, كاتب مهاجر محترف, أعيش من شرف قلمي وترجماتي وأعمالي الأدبية, وفي بيتي وبيت رفيقة الدرب الروائية الكبيرة, د. سهير المصادفة  في القاهرة أكثر من خمسة وأربعين ألف كتاب باللّغة العربية فقط, فضلاً عن المؤلفات باللغات الروسية والإنجليزية والفرنسية والألمانية التي نتقنها. أحسّ بل أعرف أنّه لو مرّ يوم واحد ولم أقرأ فيه خمسين صفحة على الأقلّ من كتاب ورقي وأشمّ رائحته وأنا أتصفّحه, فمن الممكن أن أموت... وفي أحسن الحالات قد أفقد أعصابي وأخرج للشارع بحثاً عن أيّ شيء ورقيّ مطبوع أشمّه وأتصفحه, حتى ولو كان قصة قديمة للأطفال, أو كتاب دليل الهاتف الضخم. 
نعم. يمكن أن أصرّح علناً, ومن دون خجل بأنني مُدمن للقراءة، وأنني أمارس عادة غريبة في هذا الزمن الإلكتروني المريب الصارم, وهي أنني أشم حين أختلي بنفسي كلّ يوم كتاباً على الأقل أو نصفه أو حتى ربعه.
وأنني رغم ضعف بصري, أستطيع حتى لو حدث ولم أجد نظارتي الطبية, كما يحدث كثيراً معي, أن أقرأ نصف الجمل بعيني الواهنة, ونصفها الآخر بقلبي, وخصوصاً إذا كانت من بين بعض الكتب التي أعيد قراءتها منذ ربع قرن باستمرار, ولا أملّ منها .