العلم وجدل الأسئلة

العلم وجدل الأسئلة

كل معرفة ستمشي على قدمين، ثم تنطلق عَدْواً لتجتاز وتتجاوز إذا لم يتوقف العقل عن توجيه الأسئلة. المعرفة، دون النظر إلى كنهها وجوهرها هي الابن الشرعي للسؤال. ودينامية ارتقاء المعارف العلمية المادية، والمعارف الأدبية والتاريخية تستحوذ على كل اندفاعتها إذا استمرت وتيرة الأسئلة بالتدفق: لماذا تبقى نسبة كلور الصوديوم (الملح) في البحار والمحيطات وفي دم الإنسان ثابتة وهي 9 في الألف مهما حدث؟ سأل الطبيب الفرنسي ألكسيس كاريل نفسه هذا السؤال، وفي غمرة البحث عن جواب قضى عمره في المشافي والمخابر غارقاً في البحث والتأمل والتفكير، إلى أن نال جائزة نوبل في الطب.

تاريخ العلم هو تاريخ العقل المتسائل ... قالها سقراط: اعرف نفسك. ومنذ ذلك الحين، أي منذ حوالي 2500 سنة، وهو تاريخ ليس بالبعيد في عمر الإنسان العاقل (الهوموسابيين)، مازلنا شغوفين بتوجيه الأسئلة، ونعمل ونكد في البحث عن أجوبة، فتسير قاطرة العلم إلى الأمام.

مخاض العلوم
ماذا بعد السؤال؟ ليس بعد السؤال سوى البحث العقلي والتجريب ومراكمة المعرفة، ومن ثم وضع النظريات والقوانين والمعادلات وتطبيقها في البيئة النفعية للبشر. وفي هذه السيرورة يتدخل أكثر من عامل في رسم تفاصيل تاريخ العلم وفلسفته، ومن العوامل نحصي: المخيلة والمصادفة والحاجة والدرس والضرورة والتكهن وأحياناً الحدس.
على سبيل المثال لا الحصر، فإن أقدم محاولة للمخيلة العلمية الجوّابة في هذا الكون تلك الرواية التي كتبها أحد القساوسة الأوربيين في القرون الوسطى، وعنوانها «رجل على القمر» Man on the moon (لا علاقة لها بالفيلم السينمائي الذي يحمل العنوان نفسه)، وبعد حوالي خمسة قرون يقف الإنسان على وجه القمر. وصنع فيلسوف يوناني حمامة صغيرة من خشب البيلسان الخفيف حلّقت في الهواء. وفي الطب لجأ الإنسان القديم، مقلداً بعض الحيوانات، إلى دفن جسمه في الوحل والطين ليشفى من بعض الأمراض. وهكذا تتراكم نتائج وخبرات عشوائيات المخيلة والصنعة اليدوية والتقليد في أشكالها البدائية المتعثرة، وتنتقل وتتقدم لتصبح فضاء علمياً منضبطاً يكاد يحوِّل الحياة برمتّها إلى حسابات كمية ومقادير وأوزان علمية صارمة: تتحرك الموجة الصوتية بسرعة 340 متراً في الثانية، وإذا قفز عدد الصبغيات (الكروموزومات) من 46 صبغياً عند الطفل السوي إلى 47 صبغياً سيصاب بالمنغولية، ومتوسط سرعة السيّالة العصبية 50 متراً في الثانية، ويحرك العين 6 عضلات وتستطيع رؤية 128 درجة لون، ويبدأ الإحساس بالألم لدى الإنسان إذا تجاوز ارتفاع الصوت أكثر من 120 ديسيبل، ويمكن للإنسان أن يميز من الروائح ما يقارب عشرة آلاف رائحة.
نملك معرفة علمية واسعة الطيف في حقول التخصصات العلمية كافة، الطبية والهندسية والفيزيائية والكيميائية، وكلما أمعن الإنسان في تعزيز موقعه في الطبيعة والسيطرة عليها وفض أسرارها والكشف عن مواطن غموضها، اتسعت دوائر السؤال، واحتدمت في العقل ظلال الشك في متانة العلوم ووثوقيتها، لينفتح صندوق «باندورا» العلمي على مليون سؤال علمي جديد!

الإنسان وقيود الأسئلة
إن الترسانة العلمية الهائلة التي تملكها البشرية اليوم تفوق أي تصور. ويكاد الراصد الموضوعي يقول: نحن في مرحلة «نهاية العلم»، مثلما قال فوكويوما عن «نهاية التاريخ»، أي إن العلم يمر بمرحلة الاكتمال التام. لكن بعض فلاسفة العلوم يرون غير ذلك، ومن هؤلاء كارل بوبر صاحب منهج قابلية إبطال نظريات العلم، الذي تشكك فلسفته بدقة المعارف العلمية، والتي لا تعترف بوجود معرفة غير قابلة للتشكيك، وأن البحث يجب أن ينصرف إلى إثبات خطأ النظريات العلمية وليس إلى صدقها، وهذا المنهج كفيل بفتح كل الطرق أمام تطوير نظريات العلم وابتداع طرائق جديدة في التفكير، ومن شأن ذلك أن يؤسس لقواعد علم أكثر رسوخاً وثباتاً (1).
إن تاريخ العلم في محطاته الكبرى يمتلئ إلى آخره بأمثلة فاضحة عن سقوط النظريات العلمية، بدءاً بسقوط نظرية العناصر الأربعة لمبتكرها إيمبيدوقليس التي تختزل العالم 
بـ «جذور» أربعة كما سمّاها، وهي النار والهواء والماء والتراب. نظرية الأرض مركز الكون سقطت. نظرية التوالد الذاتي للأحياء سقطت. وعلماء كبار وأصحاب عقول رائدة: مندل، داروين، مكسويل، بلانك وغيرهم من العباقرة تزلزلت أطروحاتهم العلمية وأخْلَت الطريق لرؤى علمية بديلة، ولا يكاد الراصد الموضوعي يرى في تاريخ العلم سوى انقلاباته والسقوط المدوّي لنظرياته. فهل هو عيب كامن في علم المعرفة Cognitive Science؟ أم هو قُصور عقلي بشري وعجز في أدوات البحث؟ أم أن هذا التوصيف هو الأمر الطبيعي الذي يقتضيه منطق التطور والتقدم؟
هذا لا يعني أبداً أن إنجازات العظماء ستوضع على رفوف الإهمال والنسيان بمجرد مرور الزمن. فتاريخ العلم «متتالية» و«سلسلة» مترابطة ولا وجود لقطيعة معرفية بين الجديد والقديم، ويؤكد م. سير M.Serres في تعريفه للاختراع أو الاكتشاف العلمي الكبير أنه يقوم بفعلين في آن واحد: «إلغاء وقمع لحقل معرفي ما، بالدرجة نفسها التي تكون فيها ترقية للمعرفة» (2)، لكن الملغى والمقموع والمقصى يصبح جزءاً من تاريخ العلم وفلسفته. ففي الأصول العلمية التي نتجاوزها ظلال من حقائق لا يمكن القفز فوقها، من ذلك مثلاً هندسة إقليدس وضلع الدائرة ومحيطها، أو معادلة فيثاغورس الرياضية التي تعبِّر عن العلاقة بين وتر المثلث القائم الزاوية وضلعيه، أو مبادئ إسحق نيوتن بالميكانيكا.

فعل العقل ومستقبل العلم
العقول العلمية الكبيرة قد تأتلف وقد تختلف. ويسجل لنا التاريخ نماذج كثيرة عن هذا الاتفاق والافتراق. كان سيجموند فرويد وتلميذاه ومريداه ألفرد إدلر وكارل يونج على وفاق تام في نظرتهم إلى علم النفس والشعور والتحليل النفسي، وبعد ذلك ذهب كل واحد منهم إلى قناعات علمية جعلت من الحتمي أن تحدث المواجهة بينهم. يذكر عباس محمود العقاد في كتابه «فرنسيس باكون» أن الأخير ألَّف كتاباً عنوانه «القانون الجديد» Novum Organum وهو «كما يدل عليه اسمه مقياس جديد يعارض به مقياس أرسطو في البحث عن الحقائق وتصحيح الأخطاء الفكرية، وهو جزء من الموسوعة الضخمة التي أزمع أن يضم إليها جميع آرائه وتوجيهاته في أساليب البحث وتمحيص العلوم» (3)، وفي ذلك الزمان، أي القرن السادس عشر، لم يكن أحد يجرؤ على تسفيه المنطق الأرسطي. ويعزى إلى روجر بيكون أنه قال «لو أتيح لي لكنت أحرقت كتب أرسطو كلها»! ويقف إسحق نيوتن موقفاً محايداً في مقولته الشهيرة: «إذا كنت نظرت إلى أبعد، فذلك لأنني وقفت على أكتاف عمالقة». والذي يبدو أن شجاعة العقل قادرة باستمرار على مواجهة الماضي والرهان على المستقبل. والسهام التي وجهها باكون إلى أرسطو بحق أو بغير حق تتكرر ضد ديكارت الذي لا يقل شأناً في تاريخ الفكر والعلم عن أرسطو. ففي عام 1998 أصدر كيث ديفلين كتابه «وداعاً ديكارت» الذي يراهن فيه على منطق جديد ومعطيات جديدة لعلوم المستقبل تنسف ما أُسس في عصر النهضة والتنوير، كي تلبي علوم المستقبل احتياجات تقانات (تكنولوجيا) الغد، وعلى رأسها تقانة الآلات الذكية والذكاء الاصطناعي والنانو، (4). وكتاب كيث ديفلين «يلغي الحدود التقليدية بين كل العلوم والمعارف، في محاولته للإجابة عن هذا السؤال المحوري: كيف يعمل العقل الإنساني؟ وكيف يتم التواصل بين الناس في عصر المعلومات والمعرفة؟» (5).
إن اللغط حول النظريات العلمية بدأ منذ العصر اليوناني ولم ينتهِ إلى هذه الأيام. وما كتب عن تاريخ الكون تتنازعه رؤيتان، إحداهما علمية فيزيائية والأخرى دينية، مما يعيد المواجهة الأبدية بين العلم والدين.
الفيزياء ترى أن الكون يخضع منذ نشوئه لمبدأين اثنين: التطور والتعقيد بمرور الزمن. التدرج والترتيب هو القانون. من الطاقة الأولية الضخمة ظهرت الجسيمات الأولية في الكون بعد حوالي جزء من الألف من الثانية، وبعد ثلاث دقائق تشكلت نواتا ذرتي الهيدروجين والهيليوم ونظائرها، وبعد حوالي 300 ألف سنة تكونت أول ذرة كربون، وتبدأ مسيرة تشكل المجرات بعد ملياري سنة، وتكتمل المنظومة الكونية خلال 10 إلى 15 مليار سنة، وشمسنا الأليفة وأرضنا العامرة هي المولود الأحدث في المنظومة، إذ لا يتعدّى عمرها أكثر من حوالي 4.6 مليارات سنة لتكون صالحة للحياة منذ مليار إلى 3 مليارات سنة قبل اليوم (6).
هكذا الفيزياء تبدو صارمة وتستخدم الطبيعة لغة الرياضيات للإفصاح عن جوهرها، كما قال جاليلو جاليلي. لكن الأب جورج لوميتر المؤمن بالله والخلق يوفق بين عقيدته ونظرته للكون عبر وضع نظرية «الذرة البدائية» التي سميت في ما بعد بـ «الانفجار الكبير» أو العظيم   Big Bang.
ويكتب الروائي دان براون في روايته الشهيرة «ملائكة وشياطين» على لسان بطلة الرواية فيتوريا أن الكنيسة الكاثوليكية هي التي اقترحت لأول مرة عام 1927 نظرية البيغ بانغ (8)، وأن الأشرار يحاولون الاستحواذ على «المادة المضادة» antimatter بسرقتها من المعمل الأوربي لأبحاث الجسيمات CERN لنسف الفاتيكان (9). ويدور الحوار الروائي بعد ذلك عن التقابل بين اللحظة «صفر» الإلهية لخلق الكون وبين التطور والتدرج والتعقيد الذي يغرق الفيزيائيون في بحر معادلاته الرياضية. وبين وجهتي النظر «تقف شعرة معاوية» لتفصل بين الفيزياء والميتافيزياء.

آخر المطاف 
يكتب كيث ديفلين في مقدمة كتابه: «لن تجد في هذا الكتاب إجابات نهائية أو مكتملة لكل الأسئلة المطروحة في ثناياه، كما أنك لن تجد هذه الإجابات مجتمعة في أي كتاب، ثم، لماذا نميل إلى الإجابات دائماً؟ أليست الأسئلة أكثر إمتاعاً وأهمية في الوقت نفسه»؟ (10).
منذ فجر العلم، وحتى القرن الحادي والعشرين، هناك أسئلة لاتزال مطروحة أمام العقل البشري من دون إجابات نهائية أو مكتملة، وعلى سبيل المثال لا الحصر الروح والموت. العالم وليم هازلتاين يتساءل: مادام الأصل في الحياة هو المادة الوراثية الجزيئية، أي DNA، وهذه المادة خالدة وأبدية، وأن هذا الجزيء ظهر لأول مرة منذ 3.5 مليارات عام، وهذا الجزيء ذاته هو الموجود اليوم، فلماذا تتوقف الحياة رغم خلود أساسها؟! (11).
من هنا، من القدرة على امتلاك شجاعة السؤال تستمر مسيرة العلم. وتاريخ العلم يمتلئ بالهزائم والانتصارات، إذ بعد 500 محاولة استنساخ فاشلة لعلماء بارعين استطاع إيان ويلموت استنساخ النعجة دوللي. وقد تنبأ ألدوس هكسلي بطفل الأنابيب في روايته «عالم جديد وشجاع» Brave New World التي كتبها عام 1931، وتحققت نبوءته عام 1978 مع ولادة لويز براون أول طفلة أنابيب في التاريخ. عقار الثاليدوميد كان كارثة إنسانية وخَلَّفَ وراءه آلاف المشوهين، لكن صناعة الدواء لم تتوقف. التايتانيك غرقت وعندنا اليوم أضخم منها بكثير. ولأن العقل لن يكف عن طرح الأسئلة، فإن معجزات العلم القادمة على الطريق وحتى نهاية هذا القرن ستقلب تاريخ الإنسانية رأساً على عقب. الحياة كلها جدل، وكذا العلم، والجدل في كلمات: مواجهة مكشوفة في فضاء الأسئلة!
1 - انظر د. يوسف تيبس، معيار العلم أو القابلية للإبطال، عالم الفكر، المجلد 37 أكتوبر/ ديسمبر 2008 ص 245-303.


(*) «علم المعرفة « هو ترجمة د. محمد طه للمصطلح، ويترجمه د. عصام عبدالله إلى «العلوم المعرفية» وليس «العلم المعرفي»، وذلك لتضافر مجموعة من العلوم وتشبيكها داخل هذا التخصص اليوم كما قال، ونحن نؤثر الترجمة الأولى، لأن دلالة كلمة «علم» باللغة العربية جامعة إذ وُصِف القرآن أن فيه «علم الأولين والآخرين»، والدلالة هنا بالجمع.
2 - انظر د. يوسف تيبس، تاريخية العلم، «عالم الفكر»، المجلد 35 (يوليو/ سبتمبر 2006) ص 290.
3 - عباس محمود العقاد، فرنسيس باكون، كتاب العربية رقم 136، ص 77.
4 - كيث ديفلين، وداعاً ديكارت: «كوسمولوجيا جديدة للعقل الإنساني»، ترجمة د. عصام عبدالله، كتاب العربية رقم 133، عام 2014.
5 - المرجع السابق، ص 49.
6 - د. نضال قسوم، مكانة الإنسان في الكون، عالم الفكر، المجلد 27 (يوليو/ سبتمبر 1998) ص 288.
7 - المرجع السابق ص 289.
8 -  دان براون، «ملائكة وشياطين»، الطبعة الأولى ص 77.
9 - ميتشيو كاكو، فيزياء المستقبل، ترجمة طارق راشد عليان، كتاب العربي رقم 63، (عام 2013) ص 559. 
10 - مرجع سابق، وداعا ديكارت، ص 52.
11 - مرجع سابق، فيزياء المستقبل، ص 293.