تكامل عِلمَيْ الحاسوب والرياضيات

تكامل عِلمَيْ الحاسوب والرياضيات

عندما ننظر اليوم إلى جامعاتنا وطلابنا فيها، نلاحظ أنهم بقدر ما يميلون إلى علم الحاسوب والمعلوماتية ينفرون من الرياضيات. ويرى المطلعون على خبايا الروابط التي تجمع شتى العلوم أن في هذا السلوك تناقضاً صارخاً، إذ يؤكدون أن هناك تكاملاً واضحاً بين هذين العِلمين. والحقيقة أن ما جرى عبر السنين هو أن الرياضيات أنجبت علم الحاسوب... ومنذ نصف قرن، أو يكاد، صار علم الحاسوب يدعم تقدُّم الرياضيات في جميع فروعها ومناحيها. 

عندما نتكلم عن «فروع الرياضيات ومناحيها»، فنحن نقصد فروعها الرئيسة التي تفوق 60 حقلاً، وفروعها الثانوية التي تزيد على 300 فرع... ونعني بالإضافة إلى تفرعاتها التي تجاوزت 4000 تفرع! وهذا التصنيف ليس تصنيفاً اعتباطياً بل هو ذاك الذي اعتُمِد بتفاصيله في حقل الرياضيات من قِبل الاتحاد العالمي للرياضيات عام 2010. يُذكر أن هذا الاتحاد الذي أُسس عام 1919 (أي منذ نحو قرن) يعيد النظر ويطوّر تصنيف الرياضيات كل عقد من الزمن، إذ يزداد هذا العلم تشعّباً عاماً بعد عام.
إن الحواسيب والألواح الإلكترونية والهواتف الذكية وبطاقات التأمين البنكية ومجال الاتصالات والتواصل تغزو العالم. والظاهر أن كل ذلك يعتمد على علم الحاسوب. لكن هذا الظاهر يخفي الأساس، وهو اعتماده المطلق على كمّ من الرياضيات وُظِّف لكي تصبح هذه الأدوات فعّالة وتجلب إليها الجمهور إلى هذا الحد. 
إننا أمام تحديات تكنولوجية واقتصادية ما فتئت تتطور بسرعة مذهلة لم تعد تصدق. ومن متطلبات العصر في مجالات عديدة أن نحلل كميات ضخمة من البيانات، سواء ما تعلق منها بالمجال الصناعي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو العلمي. وإنجاز هذه المهمة يتطلب تضافر جهود كل من يشتغل في الرياضيات والمعلوماتية وتكاملها: من مستوى الثانوية العامة إلى مستوى المهندسين والأطباء. والجميل في هذا الباب أن الطالب الذي يدخل هذا المجال سيجد دائماً الإمكانات متوافرة لتطوير وظيفته بالإبداعات والابتكارات التي تتجدد على الدوام في سوق العمل. 
لذا يستغرب علماء الرياضيات هذه القطيعة الموجودة في أذهان الطلبة والتلاميذ وأولياء أمورهم بين هذين الاختصاصين. وهم يبذلون الجهود المضنية بغية إقناع هؤلاء بوجود تلك العلاقة الوطيدة بين المفاهيم الرياضية، حتى المجردة منها، وبين كل ما هو رقمي ومعلوماتي... ويحاولون توضيح كيف تُسيَّر عجلة التقدم التكنولوجي والبحث العلمي بدعم هذا لذاك. 
فالحاجة إلى الرياضيات منتشرة في مجال الصناعات الكبرى (مثل صناعة السيارات، والطائرات والبناء...)، والخدمات (مثل البنوك، والتأمين، والاتصالات، والتعمية، وحماية المعلومات، وسبر الآراء، وتسيير المخاطر...)، والطاقة (مثل البترول، والغاز، والكهرباء، والطاقات المتجددة...)، وكذا التجارة، والطب، والموسيقى، والأحوال الجوية، وغيرها. 
نجد في هذه القطاعات وظائف للمختصين في الرياضيات (بما فيها الإحصاء الذي يعتبر فرعاً من فروع الرياضيات) والمعلوماتية. فهم يقودون المشاريع ويقومون بتحليل البيانات ويصممون البرامج ويقدمون الاستشارات ويشاركون في الندوات ويلقون فيها المحاضرات الموضحة لعدد من المفاهيم. 
والمجتمع يعوّل على هؤلاء العاملين لإيجاد حلول لمشكلات عويصة تواجه المواطنين في كل مكان عبر العالم... منها مشكلات الاحتباس الحراري وزوال الكثير من موارد الطاقة، واختراق المعلومات السرية. كما أن هناك في جلّ مؤسسات هذا العصر وظائف من نوع آخر لدعم التسيير والتسويق والإمداد والتخزين ودراسة إصدار منتوجات جديدة. في كل ذلك نجد أن الرياضيات والإحصاء والمعلوماتية ضرورية لهذه المهام. 

«البيانات الضخمة» ودور الرياضيات
على سبيل المثال، فإن «البيانات الضخمة» Big data تعتبر خزّاناً هائلاً للوظائف مستقبلاً، حيث يرى الخبراء أنها ستكون من وراء بروز آلاف المناصب. و«البيانات الضخمة» مصطلح ظهر عام 1997 يشير إلى البيانات التي تكون من الضخامة بحيث تستحيل معالجتها وفرزها بالوسائل المتاحة الآن في مجال علم الحاسوب والإحصاء. ذلك أن الوسائل الحديثة المستخدمة اليوم تمطرنا في كل لحظة بكميات كبيرة من المعلومات، ومن ثمّ وجب إيجاد وسائل تكنولوجية قادرة على معالجة هذا التوسع الهائل في المعلومات. 
وماذا ننتظر من هذه المعالجة؟ ننتظر منها أن تمدنا بالمعلومة الدقيقة التي نطلبها في لحظة معينة انطلاقاً من كمّ المعلومات المتوافر بحوزتها. وقد أدى ذلك إلى تغيير سلم الوحدات... كمن كانت وحدة كيْله هي الرطل فصارت القنطار، أو كمن كان يحسب المسافة بالمتر فأصبح مضطراً إلى حسابها بالكيلومتر.
وإذا عدّدنا فوائد الرياضيات في هذا الباب وجدناها كثيرة ومتنوعة، وتواكبها في معظم الحالات المعلوماتية والمحاكاة الحاسوبية. دعنا نستعرض في هذا المقام بعضاً منها:
1 - توفير أدوات أساسية للتطور التكنولوجي الذي نلحظه يومياً: إضافة إلى أدوات الاتصال، هناك الأرصاد الجوية، والنقل، لاسيما الجوي، والرحلات الفضائية، والتصوير الطبي، وتشييد المرافق العمومية، وتحسين إنتاج وتوزيع الطاقة، وتسيير الشؤون المالية والبنكية وعملياتها المعقدة.
2 - توفير خدمات ناجعة لمختلف العلوم الأخرى: هذا ظاهر في الأدوات التي تُقدم مثلاً إلى الفيزياء واستعمالاتها. ألسنا نرى ذلك أيضاً في المعلوماتية الأساسية، والعلوم الإنسانية، والطب،  وعلم الطبيعة،  والصيدلة؟ ألا نستعمل الرياضيات في كل ما نقوّمه من عينات ونماذج لظواهر طبيعية وغيرها، وكذا في دراستها وتحليلها، ولاسيما إذا ما حاكيناها عبر الحواسيب؟ لو أمعنا النظر في ذلك لاكتشفنا من ورائها كمًّا من المعادلات الرياضية، كثير منها بالغ التعقيد. وإن كانت هناك معادلات، فلا شك في أن عمليات رياضية أخرى تواكبها: البحث عن الحلول الدقيقة. وإذا تعذر ذلك نذهب إلى الحلول التقريبية، وهو ما يتطلب في أغلب الأحيان استخدام ما يعرف في الرياضيات بالتكامل والتفاضل وغيرهما من السبل التي تؤدي إلى حلول المعادلات. 
3 - المساعدة على حل الإشكاليات التي تواجه البشرية: تبحث الرياضيات في مسائل كبرى مرتبطة بالبيئة، والطاقات المتجددة، والمناخ، والطب، والصحة، والبيولوجيا أو علم الحياة، وذلك لابتكار أدوات جديدة وتصور مفاهيم أوسع يستخدمها ذوو الاختصاص. يذكر أن الطلب على مثل هذه الدراسات قد تزايد بصفة ملحة للوقاية من المخاطر المحدقة بالمعمورة وساكنيها. 
4 - تنمية ملكات سلامة المنطق والحدس وتوسيع دائرة التخيُّل: تسمح لغة الرياضيات التجريدية المألوفة باقتراح توقعات وأوصاف وحلول ممكنة للعديد من الظواهر.  فالرياضيات هي التي سمحت مثلاً بنمذجة تأثير الاحتباس الحراري. كما صار اليوم من الممكن –بفضل مساعدة الحاسوب- محاكاة ظواهر بالغة التعقيد محاكاةً دقيقةً تجعلنا نرى المشهد كأنه واقع أمامنا. ولعل القارئ لا يعلم أن المعادلات الرياضية تدخل في مجال الموسيقى وتساعد على إيجاد إيقاعات جديدة! وفي مجال الشغل، أليس المطلوب من الموظف أن يفكر تفكيراً عقلانياً سليماً من الناحية المنطقية، وأن يحسن التعامل مع جملة من العمليات الحسابية، وأن يتقن وضع الفرضيات واستخلاص التحليلات الأنسب منها لأداء مهامه؟ ما من شك في أن كل هذه الأمور يدعمها التكوين الجاد في الرياضيات.
هل يجوز لنا بعد كل ذلك أن نفصل الرياضيات عن علم الحاسوب والمعلوماتية؟ أو أن نفضل هذا عن ذاك؟ أو أن نتصور أن علــــــم الحاسوب الذي يهيمن على كل الميادين قادر على التطور وحده من دون دعم مختلف فروع الرياضيات؟ لا نعتقد ذلك! كما أنه من الصعب أن نتصور أن الرياضيات تتطور بمعزل عن علم الحاسوب... ليس لأن الجميع الآن يستعمل الحاسوب، بل لأن الكثير من البراهين الرياضية، حتى المجردة منها، ما كانت سترى النور لولا قوة الحواسيب التي تقوم بأعقد الحسابات وتديـــــــر الكثيــر من الخوارزميات.