حقيقة النظام العالَمي الجَديد

قضية

حتى لا يبقى الحوار من طرف واحد يطرح الكاتب المزيد من التساؤلات حول طبيعة المجتمع الذي تتشكل ملامحه الآن، وتأثير ذلك على المستقبل العربي، وهو يقدم دعوة لإقصاء النظرة الجزئية، والنظر برؤية شاملة للنظام العالمي الجديد.

طالبت في مقال سابق أن نتحاور لكي نصل إلى الحد الأدنى من الفهم والوضوح حول عدة أشياء، أولها حقيقة ما يجري في عالم اليوم، وآثاره على المستقبل. ومن بين ما يقتضي الفهم والوضوح، ما يردده الجميع تحت شعار "النظام العالمي الجديد". كل سياسي أو كاتب أو مفكر يتكلم عن النظام العالمي الجديد، ويرسم من زاويته صورة لذلك النظام، ثم يستند إلى هذه الصورة الخاصة في استنباط الحقائق التي يسعى إلى طرحها. وعلى مدى عدة شهور، تابعت ما يظهر في الصحف والمجلات عن تصور النظام العالمي الجديد، وخرجت بأن هذه التصورات رغم أنها سليمة في معظمها، فإن الاعتماد على أي منها لاستخلاص حقائق يعتمد عليها يقود إلى نتائج ناقصة ومتناقضة. السر في هذا النقص والتناقض، هو الاعتماد على النظرة الجزئية في فهم حقائق مرحلة التحول الكبرى التي نمر بها.

ومع ذلك، فهناك جانب إيجابي في هذا، وهو اتفاق الجميع على أننا بصدد نظام عالمي جديد، يختلف عن النظام العالمي الذي عرفناه على مدى القرنين السابقين. مما يعني أن محاولة تطبيق المبادئ والعقائد والأيديولوجيات التي عرفناها من قبل على النظام الحالي الآخذ في التشكل، يقود إلى نتائج خاطئة، لا تفيدنا عند التعامل مع واقع هذا النظام. الاختلافات الشديدة في فهم هذا النظام الجديد، تؤكد أهمية ما أدعو إليه من حوار، بهدف التوصل إلى الحد الأدنى من الاتفاق حول حقيقته.

الظاهرة اللافتة، هي أن هذا التخبط في فهم النظام العالمي الجديد الذي يتشكل لا يقع فيه عامة الناس فقط، أو من نطلق عليهم أصحاب الاهتمام العام، بل يتجاوزهم إلى كبار السياسيين ورجال الاقتصاد والاجتماع والثقافة، وأعلام المتخصصين في فروع النشاط البشري. وخطورة هذا الفهم الناقص، أنه ينعكس على صناعة القرار في الدول العربية المختلفة، مما يقود إلى إجراءات متناقضة، وجهود مبددة.

و.. "المتغيرات العالمية"

وهناك أيضاً تركيبة أخرى - قريبة من الشعار الذي نتحدث عنه - تتردد في الخطابات السياسية والخطط الحكومية واللقاءات الفكرية، هي "المتغيرات العالمية". واستخدامات هذه التركيبة في حياتنا، تكشف عن نطاق أوسع من الخلط والتخبط، والإصرار على الوقوف عند حد التناول الجزئي. يقول السياسي أو الكاتب أو المفكر "علينا ونحن نبحث هذه المسألة أن ننظر إليها على ضوء المتغيرات العالمية" أو يقول "وموقفنا - على ضوء النظام العالمي الجديد - يجب أن يكون كذا وكذا..". إذا تابعت ما يقوله في أعقاب هذه المقدمة، ترى أنه يقصد بالمتغيرات العالمية، إما ضعف إمكان الاعتماد على الكتلة الاشتراكية أو انخفاض العملة المحلية بالنسبة للدولار، أو التحول إلى نظام الاقتصاد الحر، أو ضعف إيرادات العاملين بالخارج نتيجة لبعض المواقف السياسية. ونفس الشيء بالنسبة لفهم النظام العالمي الجديد، البعض يراه وفاقاً بين القطبين، والبعض الآخر يراه اقتحاماً إعلامياً نتيجة لتطور أقمار الاتصال الاصطناعية، وهناك من يراه تزايداً لنشاط الشركات عابرة الجنسيات، وفي الوقت الذي يراه البعض اتجاهاً إلى التكتلات الكبيرة، يراه البعض الآخر انسلاخاً للأقليات والأعراق عن الكيانات التي كانت مستقرة من قبل.

قوة الفكر والمعرفة

فما هو الحقيقي في هذا كله؟.. كله حقيقي، وكله ناقص!.

الفهم السليم الذي ينهي التناقض في الاستخلاصات والمواقف، لابد أن ينبع من رؤية شاملة لطبيعة مرحلة التحول التي يمر بها العالم، دراسة مؤشرات التحول والتغيير الحالية، ثم فهم طبيعة العلاقات المتبادلة بينها، ثم محاولة رصد القوانين الأساسية التي تفعل فعلها في حياة البشر حالياً ومستقبلاً، هذا هو السبيل الأسلم لفهم جوهر النظام العالمي الجديد.

ورغم صعوبة هذه المهمة فإنها ضرورية لفهم حقيقة ما يجري، والاسترشاد بهذا الفهم فيما نقوم به من إصلاح أو إعادة بناء. هذه المهمة الصعبة يجب أن تكون الشغل الشاغل للمفكرين العرب، فهي مسئوليتهم الأولى في زمننا هذا، لأن قوة الفكر والمعرفة تتجاوز بشكل متزايد قوة المال والجيوش.

لكي نفهم جوهر النظام العالمي الجديد ومكوناته، يقتضي الأمر إجراء مقارنة بمرحلة تحول سابقة، هي مرحلة التحول من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي. ورغم أن مرحلة التحول الحالية أشد عنفاً وأكثر تسارعاً، فإن المقارنة تفيد في فهم حقيقة الذي يتغير الآن، ويوضح معنى قولنا إننا نتحول من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات.

عشرة آلاف سنة

لقد كانت للمجتمع الزراعي أسسه ومبادئه وعقائده وطرق الحياة الخاصة به، والتي استمر تأثيرها على مدى عشرة آلاف سنة تقريباً. لم يكن المجتمع الزراعي مجرد زراعة، وإن كانت مقتضيات الزراعة هي التي أرست أسسه. فحيثما استقر البشر فوق قطعة من الأرض ليزرعوا، خضعت حياتهم لمجموعة من القواعد والمبادئ التي تحكم حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، هذه القواعد والمبادئ هي جوهر المجتمع الزراعي الذي نتحدث عنه.

كلما استقر البشر فوق رقعة من الأرض ليزرعوا، نشأت الأسرة الكبيرة التي تضم عدة أجيال من الأقرباء والأنسباء، والتي تصنع وحدة اقتصادية متكاملة، فهي تنتج لكي تستهلك ما تنتجه، أو معظم ما تنتجه، ثم تقايض بالباقي على احتياجاتها الأخرى. في هذه الأسرة كانت الكلمة الأخيرة لربهّا أو كبيرها، فلم يكن الأمر يحتاج إلى أية ممارسة ديمقراطية أبعد من المشورة التي يطلبها صانع القرار كلما احتاج إليها. كما أن هذه الأسرة كانت تقدم جميع الخدمات المطلوبة، التعليم، والتطبيب، ورعاية المسنين.

في هذا المجتمع الزراعي، كان مصير الفرد يتحدد بمولده، وبالطبقة التي تنتمي إليها أسرته. بل إن الفرد لم يكن - في معظم الأحيان - يبارح المكان الذي ولد فيه، حتى نهاية حياته. مصادر هذا الفرد من المعلومات لم تكن تخرج عما يستمده من أسرته، ومن بعض حكماء قريته. وهذه المعلومات لم تكن تخضع لتغيير محسوس على مدى أجيال وأجيال.

على مدى عشرة آلاف سنة شكلت عمر المجتمع الزراعي، قامت وازدهرت وانقضت عشرات الحضارات في أنحاء مختلفة من العالم، وظهر العديد من العقائد السماوية وغير السماوية، وعرف العالم العديد من عظماء الحكام والقادة والمفكرين والفلاسفة والعلماء، إلا أن الأسس والمبادئ الخاصة بالمجتمع الزراعي ظلت هي السائدة في معظم الأحيان.

نتيجة لطول سيادة أسس ومبادئ المجتمع الزراعي، نظر البشر إلى هذه الأسس والمبادئ والعقائد على أنها أبدية، قد تخضع لبعض التغيير والتحوير هنا وهناك، إلا أنها ستظل الأسس والمبادئ التي يخضع لها البشر في حياتهم دائماً. لهذا، كانت الصدمة شديدة منذ أكثر من قرنين، عندما شعر البشر أن هذه الأسس والمبادئ والعقائد بدأت تهتز اهتزازاً شديداً، ثم أخذت تنهار، مفسحة المكان لأسس ومبادئ جديدة تماماً، ومتناقضة مع كل ما كان شائعاً على مدى الآلاف العشرة من السنوات.

الآلة البخارية

لم يكن يتصور الناس أن اختراع آلة كالآلة البخارية، يمكن أن يحدث كل هذا التغيير في حياتهم، لم يتصوروا أن مجرد إقامة مجموعة من المصانع هنا وهناك، يمكن أن يتسبب في هذا الانقلاب الذي أصاب المجتمع البشري. لم يتصورا أن هذه البنايات الكالحة القبيحة، بمداخنها العالية التي تنفث السواد في سمائهم، يمكن أن تكون جوهر المجتمع الذي يزحف، منهيا الأسس والمبادئ التي عاشت عليها البشرية على مدى مائة قرن، لكن ذلك كان حقيقة ما حدث.

انهارت أسرة المجتمع الزراعي، وتفكك كيانها وتناثرت وظائفها. وتحولت الأسرة الكبيرة إلى أسرة صغيرة تتكون من الوالدين وطفلين أو ثلاثة، لكي تصبح أكثر قدرة على الحركة والتنقل، لخدمة النشاط الصناعي حيث وجد، وظائف التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية جرى سحبها من الأسرة، لكي تتكفل بها مؤسسات متخصصة، تم الفصل بين الإنتاج على نطاق واسع والاستهلاك على نطاق واسع، ونشأت مؤسسات جديدة للربط بين الإنتاج والاستهلاك وتحقيق التكامل بينهما، فظهرت السوق، وتأسست البنوك والبورصات، وتشكلت الحكومات المركزية التي تدير هذا كله، وعندما تضاعفت مسئولية اتخاذ القرار بالنسبة للحاكم، نتيجة ذلك كله، ظهرت ديمقراطية التمثيل النيابي، التي يقوم فيها المواطنون بتوكيل من يمثلونهم في المجالس النيابية، والذين يفترض فيهم أن يساعدوا الحاكم في تحمل جانب من عبء إصدار التشريعات والقوانين.

خدمة المصنع والمكتب

ومع نمو المجتمع الصناعي اتضحت أسسه ومبادئه وعقائده العظمى. وكما قلنا عند الحديث عن المجتمع الزراعي، كلما ارتفعت مداخن المصانع في مجتمع ما، في الغرب أو الشرق، في الشمال أو الجنوب، سادت هذه الأسس والمبادئ والعقائد، في اليابان كما في أمريكا، وفي كوريا كما في إنجلترا. لقد نبعت هذه الأسس والمبادئ والعقائد من طبيعة العمل الصناعي ومصالحه، وسادت في كل مكان لأنها الأقدر على تسهيل إدارة الصناعة وتحقيق أكبر الأرباح لها.

المجتمعات الزراعية المبعثرة على امتداد الأرض تحولت إلى مجتمعات صناعية شديدة التركيز والضخامة، تعتمد على المركزية الممعنة في إدارة كل نشاطاتها. التتابع الهين للزمن الذي عرفه أبناء المجتمع الزراعي، تحول إلى تزامن دقيق محكم، يستوحي إيقاع الآلة، يلزم أبناء المجتمع الصناعي بحمل الساعات في معاصمهم، ووضعها في أبرز مكان من بيوتهم وبديهي أن قيام الصناعة لم يعن التوقف عن الإنتاج الزراعي، إلا أن الزراعة خضعت لنفس المنطق السائد في الصناعة. والأكثر من هذا، أن الدول الزراعية البعيدة عن مراكز النشاط الصناعي، جرى استعمارها من جانب الدول الصناعية الكبرى، وأرغمت على تغيير أسس حياتها لتخضع لنفس أسس ومبادئ المجتمع الصناعي. وهكذا شاعت مبادئ مجتمع الصناعة في كل مكان، نتيجة لأن الاستعمار كان ضرورة لمضاعفة إنتاج الدول الصناعية ولدعم موقفها التنافسي.

تغير كل شيء في حياة البشر لصالح الصناعة، وفي وجه كل مقاومة في أي مكان.

ظهرت نظم تعليمية جديدة تخدم العمل في المصنع والمكتب، وتدعمت الديمقراطية النيابية النابعة من شكل وجوهر المؤسسات الصناعية. سادت أخلاقيات جديدة، مناقضة لأخلاقيات المجتمع الزراعي، لكنها تخدم مصالح الصناعة.

كذلك ظهرت نظريات اقتصادية، تطرح أفضل تصور لطرق التعامل في إطار المجتمع الصناعي، ظهرت النظريات الرأسمالية والاشتراكية، التي تتناقض في توجهاتها وفي نظراتها إلى صالح المجتمع الصناعي، إلا أنها قامت جميعاً للتعامل مع ذلك المجتمع، وأقامت هياكلها على أساس أن الصناعة هي جوهر النشاط البشري، وأن مبادئ الصناعة وأساسها من المقدسات التي يجب عدم المساس بها، كالتوحيد القياسي والتركيز وعشق الضخامة والتزامن المحكم والتخصص الضيق.

القلة المستنيرة

ازدهر عصر الصناعة لأكثر من قرنين. وفي النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ ظهور عناصر جديدة هنا وهناك، تخرج عن الأسس والمبادئ المستقرة للمجتمع الصناعي، لم ينتبه إليها صناع القرار أو المفكرون في أنحاء العالم، والذين انتبهوا إليها، أراحوا أنفسهم بالنظر إليها على أنها مجرد انحرافات ما يلبث المجتمع الصناعي أن يجد لها حلاً. ومضى البعض إلى ما هو أبعد من ذلك، فاعتبروها إرهاصات بتطورات كالتطورات السابقة عليها، تدعم استمرار المجتمع الصناعي، ولا تمس جوهره.

إلا أن العناصر والظواهر الجديدة أخذت - منذ ذلك الحين - تكتسب دفعاً متسارعاً، في جميع المجتمعات الصناعية، وجعلت الأسس والمبادئ المستقرة لهذه المجتمعات تهتز اهتزازاً شديداً، يهدد بشيء أكبر من مجرد تطور تقليدي جديد.

قلة من المفكرين المستقبليين، أصحاب العقول المتحررة والقدرة على الرؤية الشاملة، هي التي لفت نظرها الشبه الشديد بين ما يجرى حالياً، وما جرى في مرحلة الانتقال من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي. أدرك هؤلاء أن وراء ما يراه الجميع شكلاً من أشكال الفوضى والضياع والخلل في الحياة التي اعتادوا عليها، وما يعانيه القادة الأذكياء من فشل في اتخاذ القرار السليم في الوقت المناسب، وما يعتور النظام الاقتصادي من ظواهر غير مسبوقة، أدركوا أن وراء هذا كله أسس نظام جديد يتضاعف اندفاعه بشكل متزايد، فهموا أن ما نلمسه في مجتمع اليوم من خليط الإيجابيات والسلبيات، يعود إلى أننا في مرحلة تحول أساسية في تاريخ الجنس البشري، كالتي مر بها عند الانتقال إلى مجتمع الصناعة، لكنها أعنف وأكثر تسارعاً. عرفوا أن حياة البشر في هذا المجتمع الزاحف تقوم على أسس ومبادئ ونظريات وعقائد جديدة، غير تلك التي عرفها وقام عليها المجتمع الصناعي. كما تبينوا أن سر ما يسود من فوضى وما نعانيه من فشل في حل مشاكلنا، يرجع إلى أننا نعتمد عام أسس ومبادئ ونظريات وعقائد مجتمع منسحب من حياتنا، وأنه من الضروري السعي الجاد للتعرف على أسباب هذا التحول وأسسه ومؤشراته والقوانين التي يجرى وفقها حتى نستطيع أن نتعامل مع حقائق الحياة الجديدة.

الحقيقة الجوهرية

كل هذا الاستعراض لتاريخ التحولات الأساسية في حياة البشر، الغرض منه الوصول إلى الحقيقة الجوهرية، التي تقول إننا بصدد مجتمع جديد، يقوم على أسس جديدة، ويفرض أشكالاً جديدة للحياة، غير التي عرفناها خلال سيادة المجتمع الصناعي، وهذا يتطلب منا التفكر في نظريات اقتصادية جديدة، غير الاشتراكية والرأسمالية، تتعامل مع أساسيات المجتمع الجديد، وفي نظام تعليمي جديد يقام على أساس احتياجات وطبيعة ذلك المجتمع، وفي شكل جديد من أشكال الممارسة الديمقراطية يختلف عن ديمقراطية عصر الصناعة، ويتفق مع عمليات التحول إلى اللامركزية.

هذه هي الحقيقة الأولى التي يجب أن يتفق عليها مفكرونا وقياداتنا السياسية، قبل التصدي لحل مشاكلنا، أو التفكير في إعادة بناء حياتنا.

دعنا نعترف أن الذي يحدث على امتداد العالم العربي لا ينبع من هذا الفهم.

ودعنا نعترف - أيضاً - أنه إذا لم نفهم هذه الحقيقة، ونتعرف على مؤشرات التحول الأساسية التي يمر بها الجنس البشري، وعلى العلاقات المتبادلة بينها، والضرورات التي تستوجبها، ونتوصل إلى القوانين الأساسية التي تحكم هذا كله، إذا لم نفعل هذا كله، قبل التفكير في حل أي مشكلة من مشاكلنا، أو تصور شكل جديد لأي وضع من أوضاع حياتنا، فلا أمل في أن نتجاوز التخلف الذي فرضه علينا عصر الصناعة، ونكون بذلك قد فرضنا على أنفسنا - وبإرادتنا - تخلفاً جديداً في المجتمع الجديد.

بهذا فقط، يمكن أن نفهم حقيقة النظام العالمي الجديد، وندرك مدى اختلافه عما يجرى في مرحلة التحول الحالية، ونعرف أن النظام القادم ليس هو النظام الذي تنفرد فيه دولة واحدة، كالولايات المتحدة الأمريكية، بفرض إرادتها على العالم، تعبيرا عن مصالحها. ونعرف أيضاً أن المجتمع الزاحف يأتي معه بشكل جديد للعلاقات العالمية، غير الأشكال التي شاعت في عصر الصناعة.

الفهم الذي ندعو إليه سيجعلنا نفرق بشكل واضح بين ما هو من مخلفات عصر الصناعة الزائل، وما هو مؤقت وراجع إلى ظروف وملابسات مرحلة التحول، وما هو نابع من احتياجات ومصالح المجتمع الزاحف، الذي يصنع مستقبلنا.

الاتفاق حول هذا الفهم سيسهل علينا الوصول إلى الحد الأدنى من الاتفاق حول مستقبل كل شعب عربي، وحول مستقبل العلاقات بين الدول العربية والإسلامية.

حوار من طرف واحد

إذا وصلنا إلى مثل هذا الاتفاق، يمكننا أن ننتقل بعد ذلك إلى تأمل طبيعة واحتياجات المجتمع الجديد الذي يطلق عليه البعض اسم "مجتمع المعلومات"، ويطلق عليه البعض الآخر اسم "مجتمع الموجة الثالثة"، بينما يكتفي البعض بأن يطلقوا عليه اسم "مجتمع ما بعد الصناعة"، لكن الجميع يتفقون على شيء واحد، هو أن ما يحدث ليس مجرد تعديل أو تطوير يلحق بمجتمع الصناعة، بينما تبقى أسسه ومبادئه وعقائده الأصلية على حالها. ويتفقون على أنه مجتمع جديد، له عقائده وأسسه الجديدة، التي تختلف - وتتناقض - مع العقائد والأسس التي عرفناها والتزمنا بها على مدى القرنين الماضيين.

قلت في عدد سابق إن هدف كتابتي في مجلة "العربي" هو أن أثير حواراً جاداً بين المفكرين العرب - على صفحاتها - حول ما أطرحه من تصورات. وأعتقد أن ما قيل في المقال السابق، وما أقوله في هذا المقال، يستحق التأمل وإبداء الرأي. وسأواصل رحلتي، فأطرح في عدد قادم طبيعة المجتمع الذي تشكل حالياً، والعوامل التي قادت إلى قيامه، والأسس والمبادئ والعقائد التي يقوم عليها.

وأملي كبير في ألا يتحول طرحي هذا إلى حوار من طرف واحد.