700 عام على الحروب الصليبية

ملف خاص
لم تكن مجرد حرب، وكنها كانت صداما حضاريا بين الشرق والغرب استمر على مدى قرنين من الزمن.

الحروب الصليبية

كيف نظر إليها المسلمون والأوربيون؟

بقلم: حسين أحمد أمين

لم تكن الحروب الصليبية مجرد احتكاك مباشر بين الشرق المسلم والغرب المسيحي ولكنها كانت صراعاً حضاريا ضاريا بينهما، استطاع المؤرخ الغربي أن يعرف أهميته ويلتقط جوهره، بينما فشل المؤرخ العربي في ذلك.

مرّ صيف هذا العام (1991) دون أن يتنبّه كاتب أو مؤرخ في العالم الإسلامي (على حدّ علمي) إلى أنه يوافق الذكرى المئوية السابعة على انتهاء الحروب الصليبية في الشام (1097 - 1291 م)، فيعرض لبواعثها أو لأحداثها، أو لآثارها ونتائجها.

ذلك أنه في الفترة ما بين عامي 1265 و 1291، تمكن ثلاثة من سلاطين المماليك في مصر، وهم الظاهر بيبرس، وقلاوون، والأشرف خليل بن قلاوون، من القضاء نهائيا على ما بقي في أيدي الصليبيين بالشام. فقد استولى بيبرس على أنطاكية وما جاورها عام 1268، وهدم حصن الأكراد الذي كان أحد المعاقل الرئيسية للصليبيين، ثم واصل قلاوون استيلاءه على الأراضي اللاتينية في الشام، وسجّل أعظم انتصاراته بفتحه طرابلس عام 1289، وتوفي وهو يستعد لفتح عكا. ثم جاء ابنه الأشرف خليل فأتمّ عام 1291 ما بدأه أبوه، وتوّج بالظفر جهود جميع أسلافه في صراعهم ضد الغزاة الصليبيين، إذ فتح عكا في النصف الأول من ذلك العام. فما حلّ الصيف حتى أخلى الفرنج صيدا وبيروت، وسلّموا عثليث وأنطرطوس إلى المسلمين دون قتال، فأسدل بذلك الستار على آخر فصل من فصول الحروب الصليبية.

قد نفسر هذا الإغفال من كتّابنا ومؤرخينا لذكرى رحيل الصليبيين نهائيا عن الشام بتلاحق الأحداث العالمية الخطيرة والمثيرة خلال 1991، وهي التي بات المرء منا يلهث في محاولة متابعتها والإلمام بدلالاتها، غير أن الذي نجده أغرب وأصعب تفسيرا ذلك القدر من اللامبالاة بالحروب الصليبية ذاتها الذي نلحظه في المسلمين المعاصرين لها، على اختلاف طبقاتهم ومواطنهم، ومستواهم الحضاري أو الثقافي؛ علماؤهم وعامتهم على سواء، وعلى مدى القرنين اللذين استغرقتهما تلك الحروب.

وإنه لمن الشائق حقا أن نرى الإمام الغزالي في السنة التي دعا فيها البابا أربان الثاني إلى شن الحرب الصليبية ضد المسلمين (1095 م)، يعتزل التدريس ويهجر بغداد ليسلك طريق الزهد والتصوف، ثم نراه بعد أعوام قلائل من استيلاء الصليبيين على بيت المقدس، وفي نفس السنة التي استولوا فيها علي مدينة حماة (1108)، يتمّ تأليف كتابه "المنقذ من الضلال" الذي لا يمكن لقارئه أن يخمّن من خلال قراءته مجريات الأمور العظيمة التي كانت تحدث وقتها في عالمه الإسلامي.

أضف إلى ذلك أنه ما من أحد من المؤرخين المسلمين في العصور الوسطى خطر بذهنه أن ينهض بتأليف كتاب يفرده لأحداث الحروب الصليبية. فهم بالرغم من عنايتهم بتسجيل وقائعها وبواعثها في تفصيل واف، إنما أوردوا ما كتبوه عنها ضمن تواريخهم العامة (مثل "الكامل في التاريخ" لابن الأثير، و "مرآة الزمان" لسبط ابن الجوزي)، أو التواريخ المكتوبة عن الأقاليم المختلفة (مثل "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي، و "زبدة الحلب من تاريخ حلب" الابن العديم)، أو عن الأسر الحاكمة (مثل "الباهر في تاريخ الدولة الأتابكية" لابن الأثير، و "مفرج الكروب في أخبار بني أيوب" لابن واصل)، أو في كتب التراجم (مثل "النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية" لبهاء الدين بن شداد، و "كتاب الروضتين في أخبار الدولتين" لأي شامة). فليس ثمة كتاب عربي إذن من العصور الوسطى عن "تاريخ الحروب مع الفرنج". وعلى من أراد التصدّي لمهمة دراسة موقف المسلمين من تلك الحروب، أن ينتقي ويوفّق، ويجمع ويربط بين فصول من كتب عربية شتى، في هذه الفروع المختلفة من الكتابة التاريخية.

اهتمام الأوربيين بالحروب الصليبية

إن القارئ المسلم حين يقرأ في مؤلفات الأوربيين عن تاريخ قارتهم في العصر الوسيط، قد يعجب للمكانة المرموقة التي تحتلها الحروب الصليبية في تلك التواريخ، واعتبار تلك الحروب المسئول الأول عن نموّ وعي الأوربيين المسيحيين بأنفسهم. لقد كان لشعور أوربا الغربية بالنقص عند مواجهتها للحضارة الإسلامية جوانب متعددة، فالتقنية الإسلامية كانت متقدمة عن التقنية الأوربية في كثير من الميادين، وكان أثرياء المسلمين أكثر استمتاعا بالكماليات وأساليب الحياة الرغدة من أثرياء الأوربيين. ولم يقتصر دور الحروب الصليبية في الشام (وصلات الأوربيين بمسلمي الأندلس) على تعريف أوربا الغربية بالكثير من المنتجات المادية والاكتشافات التقنية. في ديار الإسلام، ولا على إثارة اهتمام الأوربيين بالعلوم الفلسفية، بل إنه دفع أوربا أيضا إلى تكوين صورة جديدة لذاتها، وصورتين جديدتين (متناقضتين) للإسلام.

فمن ناحية نجد أن الاتصال المباشر بالمسلمين في ديارهم فتح أعين الغربيين لأول مرة على التشويه الذي كان يلحقه رجال الكنيسة في أوربا عمدا بصورة تعاليم الإسلام وسيرة الرسول، وبأحوال المسلمين وأخلاقهم وطباعهم ومستواهم الحضاري، حتى غدت صورة مشوبة إلى حدّ رهيب بالأوهام والأخطاء والكذب، وبات من الضروري بعد هذا الاتصال المباشر، والاطلاع على كتب المسلمين عن دينهم وتاريخهم، إعادة رسم الصورة على نحو أكثر أمانة وموضوعية، وأقرب إلى واقع الأحوال.

ومن ناحية أخرى مقابلة، فإن الأوربيين المسيحيين أقلقهم ما شهدوه إبّان الحروب الصليبية من إحساس المسلمين الثابت الذي لا يتزعزع بتفوّقهم وفضلهم على غيرهم، فدفعهم الإحساس بالنقص إلى التحول إلى ميدانْي العقيدة والتاريخ في سعيهم لإثبات وجودهم، والتعويض عن عقدة النقص في مواجهة الحضارة المتفوّقة. وكان سبيلهم إلى ذلك ذا شقّين:

الأول: سعيهم إلى إقناع المسيحيين الآخرين بأنهم في حربهم ضد المسلمين إنها يحاربون من أجل نصرة النور والدين الحق على قوى الظلام، وأنه حتى إن كان المسلمون أقوياء فإن المسيحية هي خير من الإسلام، وأجدر بالغلبة والسيادة.

والثاني: تهوينهم المتعمّد من شأن أثر المسلمين في حضارتهم الأوربية (وهو تهوين لا نزال نلحظه في كتابات المؤرخين الغربيين غير المنصفين إلى يومنا هذا)، ومبالغتهم في بيان أفضال التراث اليوناني والروماني على هذه الحضارة. فكان أن نتج عن الحروب الصليبية في نهاية الأمر إقبال نهم من الأوربيين على دراسة التراث الأدبي والفني والفلسفي والعلمي للإغريق والرومان، والتظاهر بالاستخفاف بالإنجازات الإسلامية والعربية في تلك الميادين. وهما أمران كان لهما أثرهما العميق في تكييف طابع عصر النهضة الأوربي.

ضعف اهتمام المسلمين بالحروب الصليبية

ويتوقع المرء بعد هذا كله أن يكون للحروب الصليبية نفس الدرجة من الأهمية في التاريخ الإسلامي. غير أن هذا يخالف الواقع تماما:

فالأقطار شرقيّ الأبيض المتوسط التي تأثرت بغزوات الصليبيين كانت وقت الحروب مقسمة بين عدد من الأمراء ضئيلي الشأن، أهمّ ما يشغل بالهم هو الاحتفاظ بمراكزهم، والتغلّب على منافسيهم في المنطقة. ولم يكن ثمة حافز يحفزهم على الاتحاد فيما بينهم ضد الإفرنج. بل إنه في بعض الأحيان كان بعضهم يعقد أحلافا مع الإفرنج ضد غيره من المسلمين، وكانت هذه الفرقة في صفوف المسلمين هي التي مكّنت الصليبيين من تحقيق قدر من النجاح.

وقد كانت أقوى دولة إسلامية وقت سقوط بيت المقدس في يد الإفرنج هي دولة السلاجقة التي هيمنت على بغداد ومعظم المراكز الشرقية العظيمة للثقافة الإسلامية، وإن كان مقر الحكومة فيها في العادة هو إصفهان التي تستغرق الرحلة منها إلى مكان القتال نحو ستة أسابيع. والمؤكد أن أهل إصفهان ما كان يقلقهم غزو الإفرنج لبقعة صغيرة نسبيا بعيدة عنهم. بل إنه لبوسع المرء أن يلحظ قلة الاكتراث بالحروب الصليبية في كتابات المؤرخ العظيم ابن خلدون، ففي مقدمته الطويلة نجد الإشارات الوحيدة إلى الحروب الصليبية لا تشغل غير فقرات قليلة عن الهيمنة البحرية على البحر الأبيض المتوسط، وجملتين أو ثلاث عن مساجد القدس ومبانيها المقدسة. واختصارا نقول إن اهتمام الشطر الأعظم من العالم الإسلامي بالحروب الصليبية لم يكن أكبر من اهتمام بريطانيا بالحرب التي دارت في القرن التاسع عشر عند الحدود الشمالية الغربية للهند، وربما تركت في وعي الرأي العام الإسلامي انطباعا أقل حدّة مما أحدثته الحرب الهندية في نفوس البريطانيين.

وقد أدّى تجاهل هذا التباين في مغزى الحروب الصليبية بالنسبة لأوربا وبالنسبة للعالم الإسلامي، إلى وقوع حتى أعظم المؤرخين الأوربيين في الخطأ إذ يبالغون في تقييم أثر الحروب الصليبية في الشئون الإسلامية. فقد زعم بعضهم مثلا أن هذه الحروب زادت من تحلّل الخلافة العباسية، وشغلت المسلمين عن الاستعدادات الكافية لمواجهة غزوات المغول ولا تستند مثل هذه المزاعم على أساس. فلم يكن في يد العباسيين أية سلطة سياسية تقريبا منذ عام 945 م، بل إنهم كانوا أقوى يدا بعد عام 1191 حين أسقط صلاح الدين الأيوبي الدولة الفاطمية في مصر، ودفعته سُنّيتُه إلى الاعتراف بسيادة الخلفاء العباسيين. أما عن مواجهة غزوات المغول، فقد كانت أساسا من شأن الحكام المسلمين في المشرق الذين لم يتأثروا بالحروب الصليبية.

كذلك نرى المؤرخين الأوربيين يتحدثون عن كيف أثّرت الحروب الصليبية في موقف المسلمين من النصارى في دار الإسلام، غير أنه من المشكوك فيه أن يكون هذا قد حدث، اللهم إلا لفترات مؤقته وفي بعض الأماكن التي واجه سكانها الصليبيين، وقد أعلن بعض أمراء المسلمين الجهاد، مما زاد - دون شك - من حماسة الكثيرين من أتباعهم. غير أن مفهوم الجهاد كان قائما لقرون عديدة سابقة، ولم يكن لهذا الإعلان عواقبه في المجتمع بصفة عامة.

المسلمون وحضارة الغزاة

أما عن القول بتأثر المسلمين في الشام بها اطلعوا عليه من حضارة الغزاة وعلومهم وأساليب عيشهم، كتأثر الغزاة الفرنجة بما اطلعوا عليه من أحوال المسلمين، فقول ينفيه نفيا باتا ما نلمسه من مشاعر الاستعلاء والإحساس بالتفوق في كتابات المؤرخين المسلمين المعاصرين للحروب الصليبية إزاء الفرنجة. ويكفي أن نورد هنا مثلا واحدا للتدليل على ما نذهب إليه. فالأمير الشاعر أسامة بن منقذ (1095-1188 م) الذي كان في الرابعة من عمره وقت استيلاء الصليبيين على بيت المقدس، وتوفى قبل عام واحد من استعادة صلاح الدين له، كان طوال حياته على صلات مستمرة وثيقة بالفرنج، يخاصمهم حينا ويصادقهم حينا، ويشترك في الحرب ضدّهم وفي الخروج للصيد معهم. وقد خلّف لنا في كتابه "الاعتبار" ما يصلح شاهدا على نظرة الاستعلاء التي كانت لدى المسلمين تجاه الغزاة الأوربيين، فهو يصف هؤلاء الأوربيين بأنهم "بهائم فيهم فضيلة الشجاعة والقتال لا غير، كما في البهائم فضيلة القوة والحمل"، ويقول: "إن كل من هو قريب العهد [منهم] بالبلاد الإفرنجية أجفى أخلاقا من الذين عاشروا المسلمين"، "ليس عندهم شيء من النخوة والغيرة"، "طبّهم ساذج جاهل بالمقارنة مع الطب العربي"، و "محاكماتهم غبيّة غريبة". وهو مع ذلك يدعو الفرسان الدّاوية "بأصدقائي" ونسمع صديقا إفرنجيا له يدعوه "بأخي"، ويرجو أسامة أن يسمح لابنه "مرهف" بأن يرافقه إلى بلاده "يبصر الفرسان ويتعلم العقل والفروسية، وإذا رجع كان مثل رجل عاقل". فيتعجب أسامة من غباء الرجل وكلامه الذي "ما يخرج من رأس عاقل"، "فإن ابني لو أُسر ما بلغ به الأسر أكثر من رواحه إلى بلاد الإفرنج"!

أثر الحملة الفرنسية

وفي اعتقادي أن السنوات الثلاث التي دامتها الحملة الفرنسية على مصر (من 1798 إلى 1801) أحدثت من الآثار والصدمة الحضارية في الشرق الأدنى ما يفوق بكثير آثار القرنين اللذين استغرقتهما الحروب الصليبية. إن كل ما يستنكره الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار" من الفرنسيين إن هو ناجم في رأيه عن "كفرهم"، وعن أنهم ليسوا من أهل الدين الحق، كان بوسعه أن يحتقر إقبال الفرنسيين على شرب الخمر، وأن يستنكر سفور نسائهم و "قلة حيائهم"، غير أنه لم يعد بالوسع أن يصفهم بالبهائم، أو أن يقول إن محاكماتهم غبية وطبهم ساذج، بل أصبح إذا رأى سلعة مصرية جيدة الصنع يقول إن من يشاهدها لا يشك في أنها من صنع الإفرنج، وأن من يذهب إلى بلادهم "تهذبت أخلاقه بها اطلع عليه من عمارة بلادهم، وحسن سياسة أحكامهم، وكثرة أموالهم، ورفاهيتهم وصنائعهم، وعدلهم في رعيتهم مع كفرهم". لقد شهدت القرون السبعة انقلابا في الأوضاع وتغيرا في الموازين. وعاد الإفرنج الذين بهرهم في عصر أسامة ما أنجزته حضارة الإسلام، واقتبسوا منها ما رأوه جديرا بالاقتباس، عادوا بعد تلك القرون السبعة إلى الشرق، ناظرين إلى أهله نظرة علماء الأنثروبولوجيا إلى قبائل البدائيين.

إحياء الكيان الإسلامي

درس واحد فحسب كان خليقا بالمسلمين أن يُفيدوا منه من جرّاء الحروب الصليبية، غير أنهم لم يفعلوا. فقد رأى صلاح الدين الأيوبي بوضوح أن ضعف الجسم السياسي الإسلامي (وهو الضعف الذي أفسح المجال لقيام الدويلات الصليبية في الشام) كان نتيجة للانحطاط في، الخلق السياسي، وعلى هذا الانحطاط ثار صلاح الدين، فلم يكن في رأيه سوى طريق واحد لوضع حدّ له: وهو إحياء الكيان السياسي الإسلامي في ظل دولة واحدة موحّدة، ليست تحت حكمه هو، وإنما تحت إشراف الخلافة العباسية، وكان يدرك أن مشكلة العالم الإسلامي ليست سياسية فحسب، بل هي أيضا إلى حدّ كبير، مشكلة أخلاقية ونفسية، وأن التصدّي لها على مجرّد الصعيدين السياسي والعسكري من شأنه أن يؤدي إلى الإخفاق في حلّها. وقد رأى أنه إن شاء الحصول على نتائج فعالة، فلابدّ من أن يعزز إنجازاته وانتصاراته بخلق تيار خلقي نفسيّ يعمل في صالح الأمة جمعاء، ويكون من القوة بحيث تتعذّر معه مقاومته. وقد نجح في هذا بفضل إلزامه نفسه بمبادئ العدل والإخلاص والصدق وإنكار الذات، حتى أصبح المصدر الذي ألهم جميع العناصر والقوى الساعية إلى وحدة الإسلام في وجه الغزاة، والبؤرة التي اجتمعت هذه العناصر حولها.

والمؤسف حقا أنه ما أن مات الرجل، حتى تناسى المسلمون تشخيصه لداء بني قومه ودينه، وهو التشخيص الوحيد الذي كان بمقدورهم أن يفيدوا منه، وركّزوا بدلا منه في حديثهم عن الرجل، على انتصاراته وإنجازاته العسكرية.

مع البقايا الصليبية الأخيرة
في بلاد الشام

بقلم: الدكتور سعيد عبدالفتاح عاشور

في صيف سنة 1291 م تم طرد آخر بقايا الصليبيين الغربيين من بلاد الشام. والواقع أن الحروب الصليبية لم تكن إلا صورة ظاهرية لحركة كبيرة واسعة لها بواعثها وآفاقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن الدينية. فما هي قصة هذه الظاهرة التاريخية؟

أحست الكنيسة المسيحية منذ ظهور الإسلام وانتشاره خارج شبه الجزيرة العربية في القرن السابع للميلاد بخسارة كبرى، ليس نتيجة لدخول جموع وثنية في الديانة الجديدة فحسب، وإنما لتحول بعض الشعوب المسيحية إلى الإسلام وخاصة في غرب آسيا وشمال إفريقيا. وبعض هذه الشعوب المسيحية التي دخلت في الإسلام كان لها دورها البارز في تطور الفكر المسيحي وأسهمت منذ وقت مبكر في تشكيل التيار العام للمسيحية؛ بل إن الإسلام انتشر في بلاد - مثل بلاد الشام ومصر - كانت بمثابة المسرح الأول للمسيحية، وعلى هذا المسرح كان نشاط السيد المسيح عليه السلام وتلاميذه.

ولم تستطع الكنيسة عندئذ - في القرنين السابع والثامن للميلاد - أن تقف في وجه التيار الإسلامي، لأن العالم المسيحي كان يمر في تلك المرحلة بدور من أدوار الضعف والتفكك، في حين كانت الانطلاقة الإسلامية على أشدها.

على أن ميزان القوى أخذ يتغير منذ القرن العاشر للميلاد، إذ ظهر جليا أن العرب استنفدوا طاقتهم الأولى في ظل حركة الفتوح الإسلامية، وأن نسبة منهم تخلوا عن روح البساطة التي تحلى بها أسلافهم الأوائل، وأخلدوا إلى حياة الدعة والترف التي أدت بهم إلى الانحلال والهلاك. هذا في حين أدت الأطماع السياسية والانقسامات المذهبية إلى انقسام الدولة الإسلامية الكبرى على نفسها وقيام ثلاث خلافات بدلا من خلافة واحدة ينطوي الجميع تحت لوائها، وصحب هذا وذاك كثرة المصادمات بين القوى الإسلامية المتنافسة.

السياسة تحت قناع الدين

وهنا لابد من إبداء عدة ملاحظات كثيرا ما يغفل عنها الباحثون في ميدان الحروب الصليبية. أما أولى هذه الملاحظات فهي أنه مع اعترافنا بأهمية العامل الديني في تحريك هذه الحروب وبأن البابوية هي التي دعت لها وقامت برعايتها على مدى بضعة قرون، إلا أننا نعتقد أنه من الخطأ المبالغة في أهمية هذا العامل وتصوير الصليبيين الذين خرجوا لمحاربة المسلمين في صورة أهل التقوى الذين هجروا الوطن والأهل لخدمة الدين. ذلك أن نسبة كبيرة منهم شاركوا في الحروب الصليبية لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية أو تحت تأثير وطأة اجتماعية، حتى أن بعضهم لم يتورع عن نهب البلاد المسيحية التي مروا بها في طريقهم، وإنزال أبلغ الأذى بإخوانهم المسيحيين فيها.

وأما الملاحظة الثانية فهي أن الحروب الصليبية لم ترتبط بميدان واحد محدد، وإنما تعددت ميادينها غربا وشرقا، كما تفاوتت في مداها الزمني بين ميدان وآخر. وبعبارة أخرى فإن الغرب الأوربي أخذ يوجه ضرباته الصليبية ضد المسلمين أينما وجدوا وحيثما وجدهم: في الأندلس وصقلية وشمال إفريقيا وبلاد الشام وإقليم الجزيرة ومصر، بل لقد بلغ الأمر بالصليبيين أن شقوا طريقهم إلى البحر الأحمر في محاولة لضرب الحرمين الشريفين في الحجاز. وفي جميع هذه الميادين وغيرها لم تبدأ المعركة في وقت واحد وإنما في أوقات متفاوتة.

وأما الملاحظة الثالثة فهي أنه إذا كان عصر الحروب الصليبية قد شهد ذبول دور العنصر العربي في معركة الجهاد وانكماش دوره في التصدي للمهاجمين، فإن ذلك جاء مصحوبا بظهور عناصر أخرى من غير العرب اعتنقوا الإسلام وتحمسوا للعقيدة، وحلوا محل العرب في حمل راية الجهاد للدفاع عن الإسلام وأهله وأرضه. ونخص من هؤلاء المسلمين الجدد الترك ومن ارتبط بهم من أكراد وتركمان. وعندما نقول إن هؤلاء تحملوا العبء الأكبر في معركة الجهاد ودفع الخطر الصليبي عن بلاد الإسلام في المشرق، فإن علينا أن نعي تماما أن هذا لا ينتقص من شأن العرب في ظل عقيدة جعلت من المؤمنين إخوة ولم تفرق في الحقوق والواجبات بين مسلم عربي ومسلم غير عربي.

قرنان من الحروب

ومهما يكن من أمر، فإن الحركة الصليبية بمعناها الكبير الواسع، اتخذت من القرن الحادي عشر للميلاد بداية لها، ومن منطقة الشرق الأدنى - وبخاصة الأراضي المقدسة في بلاد الشام - ميدانا رئيسيا لنشاطها. ولا شك في أن الحملة الصليبية الأولى التي وصلت إلى الشرق في أواخر القرن الحادي عشر، استطاعت أن تحقق مكاسب سريعة على حساب المسلمين في مدى فترة وجيزة، إذ نجح الصليبيون الغربيون في ثلاث إمارات صليبية كبرى في الرها وأنطاكية وطرابلس، فضلا عن مملكة صليبية في بيت المقدس. ومن هذه المراكز الكبرى انطلق الصليبيون ليستولوا على معظم ثغور بلاد الشام التي حققت لهم اتصالا بحريا آمنا مع وطنهم الأم في الغرب الأوربي، فضلا عن استيلائهم على العديد من المدن والحصون والقلاع الداخلية. بل لقد انطلقوا عبر الصحراء ليصلوا إلى مياه البحر الأحمر من جهة وإلى دلتا النيل من جهة أخرى. وبذلك غدوا قوة لها وزنها على مسرح الشرق الأدنى.

وقد قدر للكيان الصليبي أن يظل قائما في بلاد الشام بالذات نحوا من قرنين من الزمان، من أواخر القرن الحادي عشر حتى أواخر القرن الثالث عشر للميلاد. هذا مع ملاحظة أن الممتلكات والمعاقل الصليبية، من مدن وقرى وحصون وقلاع كانت منتشرة أشبه شيء بالجزر وسط محيط إسلامي واسع كبير، بحيث إنه يندر أن يتحقق الاتصال بين مركز وآخر من المراكز الصليبية ببلاد الشام دون عبور أرض للمسلمين.

ومن الخطأ أن يتصور البعض أن القتال كان دائرا والصدام محتدما ليل نهار طوال هذين القرنين بين المسلمين والصليبيين على أرض الشام. فالواقع هو أن الحرب بين الطرفين كانت تثور حينا وتهدأ أحيانا. وفي أوقات الصلح والهدنات كانت العلاقات السلمية، تسود البلاد، فتنشط التجارة، وتنتقل القوافل من جانب إلى آخر، وربما تبادل الطرفان الزيارات وجلسوا معا لتناول الطعام.

وربما ساعد الصليبيين على طول البقاء بالشام ذلك التقارب بينهم وبين المسلمين في مستويات التسلح وفن التكتيك الحربي. فأسلوب القتال وخطط الحرب وأنواع الأسلحة كانت متشابهة بوجه عام، وإن تباينت فإن التباين كان في الجزئيات وليس في الكليات، هذا إلى أن نظام تعبئة الجيوش قام عندئذ عند المسلمين والصليبيين على أسس إقطاعية، وإن اختلف النظام الإقطاعي في الشرق الإسلامي عنه في الغرب المسيحي في بعض الخصائص الثانوية. أما أنواع الأسلحة المستخدمة فكانت متطابقة تقريبا، بمعنى أن الفريقين استخدما السهام والحراب والسيوف والبلط والمجانيق والكباش ونحوها وإذا كانت هناك ميزة لجانب على آخر، فإن هذه الميزة كانت للمسلمين بحكم أنهم يحاربون على أرضهم ويدافعون عن منطقة هي بمثابة القلب من العالم الإسلامي، مما جعل خطوط التموين والإمدادات البشرية، والمادية بالنسبة لهم محدودة وقصيرة، بينما عانى الصليبيون الوافدون من غرب أوربا الكثير في الشرق بسبب بعدهم عن بلادهم واعتمادهم على الطريق البحري نتيجة لموقف دولة الروم أو الدولة البيزنطية المعادي للصليبيين الغربيين الكاثوليك.

ومن ناحية أخرى فإنه لا ينبغي أن تفسر الانتصارات السريعة والمكاسب العديدة التي حققها الصليبيون في الشام على أنها دليل على تخاذل المسلمين في المنطقة وتقاعسهم في القتال، فالواقع أنه منذ أن وطئت أقدام الصليبيين أرض الشام، والقوى الإسلامية - سواء السلاجقه من الموصل، أو الفاطميون من مصر أو الأمراء المحليون في بلاد الشام نفسها - حريصة كل الحرص على التصدي لذلك الخطر. ولكن المشكلة كانت في عدم وجود تنسيق - وحسن تفاهم - بين هذه القوى بعضها والبعض الآخر.

يقظة العالم الإسلامي

وأخيرا، أفاق المسلمون في منطقة الشرق الأدنى قبيل منتصف القرن الثاني عشر للميلاد، وأدركوا أن الفرقة هي السبب فيما حل بالبلاد والعباد، وأنه لا سبيل لكشف الغمة إلا بالاعتصام بحبل الله وتحقيق وحدة أو جبهة متحدة تجعل من المسلمين في المنطقة بنيانا مرصوصاً يشد بعضه بعضا في مواجهة الغزاة الغاصبين. والراجح أن فكرة الجبهة الإسلامية المتحدة ولدت في الموصل، التي نجح صاحبها عماد الدين زنكي في ضم حلب سنة 1128 م، وبذلك وحّد بين شمال العراق وشمال الشام وخطا الخطوة الأولى على طريق وحدة الصف.

وكانت الخطوة الثانية أمام زنكي هي ضم دمشق - قلب بلاد الشام -، ولكن انقسام دولة سلاجقة فارس والعراق من ناحية، وقيام تحالف مؤقت ضد المسلمين بين الروم والصليبيين من جهة ثانية، وحرص حكام دمشق المسلمين على الاحتفاظ باستقلالهم وتخوفهم من نوايا زنكي، مما دفعهم إلى محالفة الصليبيين ضد زنكي، من جهة ثالثة، كل ذلك حال دون تحقيق سياسة زنكي تجاه دمشق، فاتجه نحو إقليم الجزيرة حيث نجح في انتزاع الرها من الصليبيين سنة 1144 م. ولا شك في أن استيلاء المسلمين على الرها كان بمثابة بداية النهاية، بالنسبة للكيان الصليبي في الشرق، لأن الرها كانت أول إمارة أقامها الصليبيون الأوائل في الشرق سنة 1098 م، مما جعل سقوطها نذيرا بتداعي ذلك البناء. هذا إلى أن زنكي أعقب الاستيلاء على الرها بتصفية الكيان الصليبي شرقي الفرات، فاستولى على ما كان للصليبيين من حصون ومعاقل.

ولم يلبث أن استشهد زنكي بعد ذلك - سنة 1146 م - فخلفه في حلب ابنه نور الدين محمود الذي واصل سياسة أبيه على طريق إكمال الجبهة الإسلامية المتحدة، حتى نجح في الاستيلاء على دمشق سنة 1154م، ولكي تكتمل دائرة الحصار على الصليبيين في جنوب بلاد الشام - وبخاصة في بيت المقدس - كان لابد أن تمتد الجبهة الإسلامية المتحدة إلى مصر ليقع الصليبيون بين فكي الكماشة من الشمال والجنوب. وفي تلك المرحلة، كانت الدولة الفاطمية في مصر تعاني آلام الموت البطيء، بعد أن دب الضعف في جسم الخلافة، واستفحل نفوذ الوزراء، واشتد التنافس بين المتطلعين إلى منصب الوزارة حتى استعان بعضهم بالصليبيين واستعان البعض الآخر بنور الدين محمود.

وكان أن استغل عموري الأول - ملك الصليبيين في بيت المقدس - الفرصة، فقام بغزو مصر سنة 1163 م، وتكررت هجماته على مصر بعد ذلك، وفي كل مرة يتصدى له نور الدين محمود الذي أخذ هو الآخر يرسل حملة بعد أخرى إلى مصر، بقيادة قائده الكردي أسد الدين شيركوه، وبصحبته ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب. وأخيرا - سنة 1168 م - انتهى ذلك الصراع على أرض مصر بفوز جيوش نور الدين محمود، وبذلك صارت الجبهة الإسلامية المتحدة تمتد من الفرات إلى النيل.

ظهور صلاح الدين

وسرعان ما تلاحقت الأحداث لتساعد صلاح الدين يوسف بن أيوب حتى يصبح البطل الأول على المسرح. ذلك أن صلاح الدين خلف عمه شيركوه في منصبيه - وزيرا للخلافة الفاطمية وقائداً لجيش سيده نور الدين محمود في مصر - ولكن وفاة الخليفة العاضد الفاطمي سنة 1171 م ثم وفاة نور الدين محمود سنة 1174م جعلتا من صلاح الدين سيد نفسه وبيده زمام الموقف، فهب لإعادة بناء الجبهة الإسلامية الذي أخذ يتصدع في الشام عقب وفاة نور الدين محمود، وأخذ يتصدى للخطر الصليبي في حزم منتهزاً فرصة موت الملك عموري الأول من جهة، وفشل الحملة الصليبية الثانية من جهة ثانية، وعدم نجاح الجهود لتوحيد قوى الروم والصليبيين للقيام بعمل مشترك ضد المسلمين من جهة ثالثة.

وبعد أن فرغ صلاح الدين من تنظيم دولته التي امتدت من حلب ونهر الفرات شمالا حتى القاهرة ونهر النيل جنوبا، أخذ يستعد للقيام بحركة شاملة ضد الصليبيين في الشام، وهي الحركة التي توجها بإنزال ضربة قاصمة بالصليبيين في حطين سنة 1187م. وكانت موقعة حطين من المواقع الفاصلة في التاريخ، حشد فيها الصليبيون زهرة فرسانهم في بلاد الشام - شمالها وجنوبها -، ولكن الجيش الصليبي انتهى أمره بكارثة ضخمة فصار بأكمله بين قتيل وأسير وجريح. وكان من جملة الأسرى جاي لوزجنان ملك مملكة بيت المقدس. والواقع أن حطين كانت أكبر من مجرد هزيمة عسكرية حلت بالصليبيين، لقد كانت كارثة شاملة نزلت بالصليبيين في الشام بوجه عام وبمملكة بيت المقدس بوجه خاص، وهي المملكة التي وجدت نفسها فجأة بلا ملك أو جيش. ونستطيع أن نقرر أن الكيان الصليبي بالشام لم تقم له قائمة بعد حطين، وإنما غدا هيكلا هزيلا يحاول البقاء إلى أن تم اقتلاعه نهائيا من أرض الإسلام في أواخر القرن الثالث عشر.

أما عن صلاح الدين، فإنه لم يضع ثمرة انتصاره في حطين، وإنما بادر إلى استغلال الموقف باسترداد العديد من مواني الشام التي كان الصليبيون قد استولوا عليها من المسلمين، وذلك ليقطع الصلة بين الصليبيين في الشام ووطنهم في الغرب الأوربي. ومن ناحية أخرى فإن استيلاء صلاح الدين على مواني الشام قوى الرباط البحري بين شطري دولته في مصر والشام. وبعد ذلك وجه صلاح الدين أنظاره نحو داخلية البلاد فاستولى على العديد من الحصون والقلاع والمدن التي كانت في حوزة الصليبيين، حتى جاء دور بيت المقدس فلم تستطع المقاومة واضطرت إلى الاستسلام في ذكرى الإسراء والمعراج، أي في السابع والعشرين من شهر رجب سنة 583 هـ (12 أكتوبر 1187 م).

وكانت فرحة المسلمين عظيمة باسترداد أولى القبلتين وثالث الحرمين "فأتوه رجالا وركبانا من كل جهة لزيارته". هذا في حين عمل صلاح الدين على إعادة قبة الصخرة والمسجد الأقصى إلى سابق عهدهما، وقام "بعمارة المسجد الأقصى واستنفاد الوسع في تحسينه وترصيفه وتدقيق نقوشه". أما الأماكن المسيحية - وبخاصة كنيسة القيامة - فقد أمر صلاح الدين باحترامها وعدم التعرض لها، كما أظهر تسامحا كبيرا في معاملة الصليبيين داخل المدينة، وسمح لهم بالخروج إلى حيث يختارون بعد دفع الفداء المقرر على القادرين منهم، وإعفاء غير القادرين.

حملة صليبية جديدة

على أنه بقدر ما كان لاستيلاء المسلمين على بيت المقدس من رنة فرح في العالم الإسلامي أجمع، فقد أدى ذلك إلى رد فعل عنيف في العالم المسيحي الغربي، حيث بدأت الاستعدادات لإرسال حملة صليبية جديدة إلى الشرق، لضرب صلاح الدين واسترداد بيت المقدس من المسلمين. ولكن الحملة الصليبية الثالثة التي وفدت على الشرق سنة 1190م لم تستطع أن تحقق شيئا ذا قيمة على مسرح بلاد الشام سوى الإسهام في استرداد عكا من المسلمين. وكان أبرز قادة هذه الحملة ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا، الذي وصل إلى الشام متأخراً في العام التالي، ولكنه دخل في صراع عنيف ضد صلاح الدين، لم يحقق شيئا سوى استنفاد طاقة الجانبين.

وعندما أدرك صلاح الدين أن رجاله قد اعتراهم التعب من طول القتال، وأن للبشر طاقة لا يمكنه أن يتجاوزها، آمن بأن ما لا يتحقق اليوم يمكن تحقيقه غداً، وما لا يستطيع هو إنجازه، من الممكن أن ينجزه الخلف، لا سيما أن التاريخ ليس ثابتا على حال واحد، وإنما هو أيام يداولها الله بين الناس. وحسب صلاح الدين أنه هز البنيان الصليبي بالشام، وأصاب العدو بجرح عميق لا شفاء منه.

أما ريتشارد فقد أحس بأن إقامته في الشرق قد طالت، وأن أحوال بلاده في الغرب قد ساءت، وأنه لابد من وضع حد - ولو مؤقت - لهذا الصراع الذي طال دون ثمرة. لذلك أرسل ريتشارد إلى صلاح الدين يقول له: "بالله عليك أجب سؤالي في الصلح، فهذا الأمر لابد له من آخر، وقد هلكت بلادي وراء البحر، وما في دوام هذا مصلحة لا لنا ولا لكم!!".

وهكذا انتهى الموقف بعقد صلح - أو بمعنى أدق هدنة - الرملة سنة 1192 م. وبمقتضى هذا الصلح، وافق صلاح الدين على أن تكون للصليبيين مملكة تمتد من صور إلى يافا، قاعدتها عكا، فضلا عن احتفاظهم بما كان في أيديهم عندئذ من مدن وقلاع وحصون ببلاد الشام. ثم أمر صلاح الدين - على قول المؤرخ ابن واصل - أن ينادى في الطرقات والأسواق "ألا وإن الصلح قد انتظم، فمن شاء من بلادهم يدخل بلادنا فليفعل، ومن شاء من بلادنا يدخل بلادهم فليفعل". وكان يوم الصلح "يوما مشهوداً عمّ فيه الطائفتين الفرح والسرور".

فتور حركة الجهاد

ولم يلبث أن توفي صلاح الدين في العام التالي (589 هـ / 1193 م). وقد أدت الخلافات التي دبت بين أبناء البيت الأيوبي بعد ذلك إلى فتور حركة الجهاد ضد الصليبيين بالشام. وساعد على ذلك انقسام الشام إلى ممالك صغيرة، قد لا تتجاوز الواحدة منها حدود مدينة واحدة، على رأس كل مملكة أحد ملوك بني أيوب. ويبدو أن المسلمين في المنطقة كانوا في حاجة إلى فترة من الاستجمام والراحة، بعد الحروب الطويلة في الفترة السابقة، مما جعل ساحة الشام تشهد نوعا من الهدوء النسبي طوال بقية أيام الدولة الأيوبية التي استمرت نحوا من نصف قرن بعد وفاة صلاح الدين.

ومن ناحية أخرى فإن حدة الحماسة الصليبية في غرب أوربا انكسرت وحدث تغيير ملحوظ في اتجاه مسيرتها بعد صلح الرملة. ذلك أن الرأي العام في غرب أوربا أخذ يعيد حساباته في ضوء الموازنة بين ما حققته الحملات الصليبية من إنجازات على مدى قرن كامل من الزمان وما استنفدته تلك الحملات من طاقة وجهد وتضحيات بشرية ومادية. أما المتحمسون لفكرة مواصلة الحرب الصليبية ضد المسلمين، فقد اتجهوا بفكرهم وجهة جديدة فحواها أن مفتاح بيت المقدس يوجد في القاهرة، وأن مصر هي مركز المقاومة الإسلامية وقلبها النابض، فإذا أراد الصليبيون إقامة آمنة في بيت المقدس فإن عليهم أن يبدأوا بالسيطرة على مصر أولا. وهكذا تعرضت مصر في النصف الأول من القرن الثالث عشر للميلاد لحملتين صليبيتين هما الحملة الصليبية الخامسة سنة 1219م والحملة الصليبية السابعة بعد ذلك بثلاثين عاما. وفي ذلك الدور بذل بنو أيوب ما في وسعهم لمقاومة العدوان الصليبي على مصر والشام، ولكن عوامل الضعف والإنهاك كانت أقوى أثرا، فاضطروا في كثير من الحالات إلى مهادنة الصليبيين ومسالمتهم.

المماليك يصعدون

ولكي يواجه بنو أيوب الأخطار الداخلية والخارجية، لجأ كل سلطان أو ملك منهم إلى شراء أعداد من المماليك، حرص على تربيتهم وتدريبهم وإعدادهم ليكونوا له عدة تمكنه من مواجهة خصومه في الداخل والخارج. وسرعان ما ازدادت أعداد هؤلاء المماليك وقويت شوكتهم وخاصة بعد ما حققوه من نصر على حملة لويس التاسع على مصر في أوائل سنة 1250م، فتخلصوا بالقتل من توران شاه آخر سلاطين بني أيوب في مصر وأقاموا ما عرف في التاريخ باسم دولة سلاطين المماليك. وعلى الرغم من أصول المماليك المتباينة، إذ كان منهم التركي والرومي والجركسي والصقلبي والمغولي، بل ربما الفرنجي والألماني، وغير ذلك ممن جلبهم تجار المماليك صغاراً إلا أنهم شبوا في حجر الإسلام وتشربوا تعاليمه وكرسوا جهودهم للدفاع عن أرضه وأهله. وحسب المماليك أنهم أنقذوا بلاد الشام ومصر من أكبر خطرين هددا الوطن الإسلامي في تلك الحقبة، وهما خطر التتار وخطر الصليبيين.

ذلك أن المماليك أنزلوا ضربة كبرى بالتتار في عين جالوت سنة 1260م ثم طردوهم شرقي نهر الفرات ووقفوا بالمرصاد لأية محاولة من جانبهم لعبور الفرات وتهديد الشام. وفي أعقاب موقعة عين جالوت مباشرة، حرص المماليك على توحيد شطري الدولة، مصر والشام، بحيث جعلوا منهما دولة واحدة متماسكة.

ومن ناحية أخرى، أدرك المماليك منذ مولد دولتهم أن الكيان الصليبي ببلاد الشام يشكل خطراً ثقيلا على صدر الدولة، كما أنه يمثل نقطة ارتكاز أساسية يمكن أن تعتمد عليها أية حملة صليبية جديدة تفد من الغرب الأوربي. لذلك وجه سلاطين المماليك جهودهم منذ وقت مبكر لاقتلاع جذور البقايا الصليبية ببلاد الشام، واستغرقت هذه العملية قرابة نصف قرن منذ قيام دولة سلاطين المماليك في منتصف القرن الثالث عشر، حتى أواخر ذلك القرن.

وقد بدأت الحرب الشاملة ضد الصليبيين بالشام على يد السلطان الظاهر بيبرس سنة 1265م، فاستولى على عديد من الثغور البحرية والحصون والمواقع الداخلية، كما أرسل حملة دمرت مدن أرمينية الصغرى، وهي المملكة المسيحية التي قامت في الركن الجنوبي الشرقي من آسيا الصغرى، والتي دأب ملوكها على مساندة الصليبيين بالشام. وأخيرا توج بيبرس أعماله الحربية ضد الصليبيين بالاستيلاء على أنطاكية سنة 1268م، وبذلك انهارت أولى الإمارات الصليبية بالشام وثانية الإمارات التي أسسها الصليبيون الأوائل في الشرق في أواخر القرن الحادي عشر.

وبعد فترة قصيرة من وفاة بيبرس، ظهر على المسرح السلطان المنصور قلاوون ليحاصر طرابلس - الإمارة الصليبية الثانية بالشام - حتى سقطت في يده سنة 1289م، وفرّ من بداخلها من الصليبيين في البحر، ثم أتبع السلطان قلاوون ذلك بالاستيلاء على عدد من الحصون والمواقع الصليبية القريبة من طرابلس. وبذلك لم يبق للصليبيين من المدن والمعاقل الكبرى بالشام سوى عكا، وقاعدة مملكتهم التي ظلت تحتفظ باسمها القديم "مملكة بيت المقدس".

وعندما أدرك الصليبيون أن نهايتهم قد أوشكت، بادروا بعقد صلح لمدة عشر سنوات مع السلطان قلاوون، ولكن بعض جموع الصليبيين الجدد الوافدين من الغرب نزلوا بعكا ولم يقدروا حقيقة أحوال الكيان الصليبي بالشام، فدفعتهم حماستهم إلى العدوان على المسلمين في بعض المناطق القريبة من عكا وقتلوا أعداداً منهم. وقد استشاط السلطان قلاوون غضبا عند سماعه تلك الأنباء وقرر إعداد جيوشه فورا للانتقام من عكا وحكومتها، ولكن الموت باغته بعد أن كان قد غادر القاهرة فعلا في طريقه إلى الشام.

وقد خلف السلطان قلاوون ابنه الأشرف خليل، الذي رأى أن ينجز ما شرع فيه أبوه، فخرج على رأس الجيش إلى الشام واتجه إلى عكا ليفرض عليها حصارا قويا. وعلى الرغم من المقاومة الشديدة التي أبداها الصليبيون في عكا فإن المدينة سقطت في أيدي المماليك في مايو سنة 1291 م. ولم تكف السفن الراسية في ميناء عكا لحمل الصليبيين الهاربين من الموت، فغرق بعضها في البحر لثقل حمولتها.

ولم يتبق للصليبيين في الشام بعد ذلك سوى عدة مراكز قليلة متناثرة - مثل صور وصيدا وحيفا وانطرطوس وعثليث - وهذه استسلمت كلها واحدة بعد أخرى.

على أن طرد آخر البقايا الصليبية الغربية من الشام في أواخر القرن الثالث عشر للميلاد، لا يعني في حقيقة الأمر نهاية قصة الحروب الصليبية، إذ استمرت ذيول هذه الحروب في صورة أخرى طوال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وربما بعد ذلك.

لحظات من الزمن العربي
لكِ الله يا عكا
بقلم: الدكتور محمد المنسي قنديل

لم تكن مجرد مدينة، ولكنها بقعة من الأرض تلاقت فيها كل المصائر، وأصبحت شاهداً على أطول حرب عرفتها البشرية. استمرت على مدى قرنين من الزمن وسقط فيها خمسة ملايين قتيل وامتزجت فيها فورات الشجاعة بمشاعر الحنق، والخسة

ترددوا طويلا قبل أن يسوقوا الخبر إلى السلطان الناصر صلاح الدين. كان يجلس في خيمته وقد امتلأ وجهه بالتعب. حارب طويلا منذ أن أقبل صبيا صغيراً من قريته النائية في جبال الأكراد حتى عرش مصر. كان يحسب أنه بعد أن انتصر في حطين ودقت له القدس أجراسها قد وصل إلى نهاية المطاف، ولكنه اكتشف تحت أسوار عكا أن رحلة الجهاد مازالت طويلة.

تجرأ أخوه الملك العادل في الدخول إليه وهو يقول في لهجة باترة:
مات عيسى العوام.

رفع السلطان رأسه كمن تلقى ضربة مفاجئة، بدت في عينيه دمعة معلقة. ذلك المسيحي الطيب رفيق القتال كان هو رسوله إلى المدينة المحاصرة. في كل يوم كان يجالد البحر وهو يحمل الرسائل والأموال والتوجيهات إلى ساحل المدينة بعيداً عن أعين الفرنجة. كان موته بالنسبة له نذير شؤم لمعركة غامضة لا يدري كيف فرضت نفسها عليه. أضاف الملك العادل محاولا التعزية:
- لقد أدى أمانته حتى وهو ميت. جرفت الأمواج جثته إلى ساحل عكا وعثر معه على الرسائل والأموال.

قال السلطان: فلا حول ولا قوة إلا بالله.

فهل يمكن أن تقاوم عكا حتى تأتيها جثة أخرى؟..

السقوط..

كانت عكا في منتصف الصراع، أميرها ابن المشطوب وأهلها العرب خلف الأسوار يحاولون أن يبقوا صامدين تحت وطأة الضربات اليومية على الأسوار والحصار البحري لأسطول الفرنجة. كانت جيوش الفرنجة خارج الأسوار لا تكف عن التكاثر والسفن القادمة من كل بحار أوربا تلقي إليها مدداً من الرجال والمؤن والسلاح. منذ أن انتصر عليهم السلطان واسترد بيت المقدس والباباوات لا يكفون عن الصراخ من أجل الثأر وقطع أعناق كل المسلمين. جاء كونراد ملك أنطاكية بجيوشه الجائعة في البداية، ثم أقبل إمبراطور ألمانيا "بيربروس" ومعه مائة ألف مقاتل، ثم وصل "هنري دي شمبانيا" يحمل صناديق الذهب وصكوك الغفران المباركة، ثم وصل ملك فرنسا "فليب أوجست" على رأس جيش ضخم نصفه من القديسين ونصفه من اللصوص، فارتفعت التراتيل احتفالا بمقدمه. واكتمل الحشد بمجيء "ريتشارد قلب الأسد" ملك إنجلترا وأسطوله الضخم. ربع مليون جندي حشدتهم أوربا تحت أسوار عكا لأنها كانت طريقهم الوحيد إلى بيت المقدس الذي فقدوه..!

ولكن صلاح الدين كان يحاصرهم، يحيط بهم ويحاول أن يشق طريقه من خلالهم إلى داخل المدينة، ولكن هجومه كان أضعف من أن يجد ثغرة وسط هذا الحشد من الفرنجة.

أفاق صلاح الدين من حزنه وقال للعادل:
- أرسل إليهم الحمام الزاجل، أطلب منهم أن يصبروا حتى تأتي الإمدادات من الخليفة العباسي في بغداد، وسوف نفك الحصار.

وهذه المرة لم يجرؤ الملك العادل على إخباره بما حدث، فالخليفة الذي كان يعاني من شدة الحنق على انتصارات صلاح الدين لن يرسل أي إمدادات. كل ما فعله هو إرسال حملين من النفط وإذن منه أن يقترض من التجار عدة ألوف من الدنانير يستعين بها في الجهاد. كيف يمكن أن يقول له هذا؟ كيف يمكن أن يقول له إنهم ضبطوا رسولا موفداً من ابن المشطوب إلى ملوك الفرنجة يعرض عليهم تسليم المدينة مقابل أن يخرج هو وجنوده وأمواله سالمين؟. كان الأمر أسوأ بكثير مما يحسب صلاح الدين وقال الملك العادل في صوت مكتوم:
- الأمراء متذمرون، أمير الموصل وأمير سنجار يريدان العودة إلى ديارهما. كان السلطان يعرف أن أيام القتال قد استطالت على الجميع. قال:
- صبرا جميلا، ملوك الفرنجة كل واحد منهم يكره الآخر وتكفي هجمة جيدة نقوم بها حتى يغرق الجميع.

وبدأ يعد لهذه الهجمة بنفس دقة يوم حطين. كانت تضاريس أرض المعركة محفورة في أعماقه. ومهما كانت قوة الفرنجة مجتمعة فسوف تكون الطبيعة بجانبه ولكن يبدو أن الوقت كان قد فات. ارتفعت من خلف الأسوار صيحات عالية. وبدا الصليب عاليا وجليا فوق أسوار عكا. كانت صرخات الفرنجة مدوية تعلن انتصارها، لقد سلمت المدينة نفسها، أصابها اليأس وأصبح مصيرها محتوماً.

ارتعد صلاح الدين وهو يحس بالانكسار. أنشب الفرنجة أظافرهم في أولى المدن التي حررها. وغداً سوف تتساقط المدن. وبدلا من أن كان يطاردهم هو، فسوف يقومون هم بمطاردته. صعد إلى تل قريب، وراقب المدينة من فوق ظهر جواده، وشم رائحة البارود القادم من المدينة، وشاهد ألسنة النيران، وقال في حرقة:
- لك الله يا عكا..

الأسر..

في اليوم الأول من أيام الأسر قال ريتشارد قلب الأسد:
- ما أكثر ما لدينا من الأسرى، فلنفرغ المدينة منهم قليلا.

وهكذا تم قتل ألفين وسبعمائة أسير من الذين أسلموا أنفسهم في يوم واحد. وحاول كل ملك أن يثبت أنه أكثر شجاعة من قلب الأسد فأعمل سيفه في الأهالي العزل، كأن هناك سباقا محموما لزيادة عدد القتلى، تماما مثلما فعلوا في كل المدن التي دانت لهم.

"الرب يريدها.."
كانت هذه هي صيحة حربهم المقدسة، منذ أن خطب البابا "أريان الثاني" في مدينة لكيرمون الفرنسية كأنه يعطي الإذن لكل قوافل الحجاج المسالمين إلى بيت المقدس أن يصبحوا محاربين ولصوصا وسفاكي دماء يحملون علامة الصليب المباركة. حالة من السعار أصابت الجميع من النبلاء حتى أفقر الفلاحين، تركوا محاصيلهم دون جمع واندفعوا وراء راهب حافي القدمين يدعى "بطرس الحافي" عبر مدن أوربا. كانوا يهربون من ظلم نبلاء الإقطاع إلى حلم الثراء في الشرق الغامض، وإلى وعد الخلاص بالقرب من قبر المسيح. نهبوا كل المدن التي قابلتهم. وخربوا مدينة "بيزنطه" المسيحية دون رحمة. ثم اندفعوا عبر آسيا الصغرى إلى سوريا وفلسطين، إلى عالم إسلامي منقسم على نفسه لا يدري ماذا يحدث بالضبط. كانوا جوعى فاستطاعوا بسهولة أن يهزموا فرسان السلاجقة المتخمين. ولم يدر حكام بقية المدن الإسلامية الذين أحسوا بالشماتة في هزيمة السلاجقة أن الدائرة ستدور عليهم، وأن الفقراء العراة الذين اندفعوا من أوربا سوف يتبعهم الفرسان والنبلاء والملوك والقراصنة. سقطت "الرها" ثم سقطت "أنطاكية" وتكونت أول مملكة مسيحية قبل أن يستيقظ العالم الإسلامي من سباته. أدار الخليفة العباسي ظهره لما حدث. ولم يفق الخليفة الفاطمي في مصر لما حدث حتى سقطت بيت المقدس، وخرج الناس في الشوارع يصرخون في جزع على ضياع أولى القبلتين. أعد الخليفة جيشا سريعا ما لبث أن لقي هزيمة مروعة، وتخاذل كل الأمراء دفعة واحدة وبدأوا يخطبون الود ويرسلون الهدايا ويدفعون الجزية للفرنجة. ولكن الحملات الصليبية الجديدة لم تتوقف. اكتشف تجار جنوا والبندقية الجانب المربح في الحرب المقدسة فأخذوا يمولونها ويجنون أرباحها. وزادت شراهة فرسان الصليب فاستولوا على سروج وحيفا وقيسارية واللاذقية، وامتلأت السهول والوديان بأعداد الهاربين من مذابح الفرنجة. وطن هارب لا يجد من يغيثه. أدرك الحكام المتناحرون فجأة أن ما يحدث ليس مجرد غزوة عابرة ولكن الفرنجة قد جاءوا حتى يبقوا..

وبعد حوالي خمسين عاما كان الحال سيئا كما هو عليه. ثم ظهر في مدينة الموصل حاكم من نوع مختلف هو عماد الدين زنكي، كان أشبه بالشهاب وسط ظلمة حالكة، بداية لحلم الجهاد الإسلامي الذي طال انتظاره والاشتياق إليه، نموذج الملك المقاتل وليس الحاكم الرخو الذي سئم منه المسلمون. وعندما سار بجيوشه من الموصل إلى حلب لم يفطن الفرنجة أن القدر قد هيأ نوعا آخر من الرجال سوف يواجههم. استطاع أن يستعيد مدينة "الرها" أولى الممالك الصليبية، وأن يفتح جبهة القتال التي طال انتظارها، وأن يمهد الطريق لظهور صلاح الدين.

الخلاص..

كم عدد السنوات التي بقيت فيها عكا تحت الأسر؟.. مائة عام أم أكثر قليلا؟..

كم عدد الهجمات التي فشلت؟.. والمعارك التي انتهت إلى غير طائل؟..

لم يكن السلطان الأشرف خليل بن قلاوون مشغولا بذلك. كان ما يهمه أنه جلس أخيراً على عرش مصر. خضع له الأمراء المتنافسون وأقسموا يمين الولاء والطاعة أو على الأقل تظاهروا بذلك.

ولكن بقيت آخر المشاكل بالنسبة للسلطان.. "التقليدة".. أي الأمر بتقليده على العرش. وهي لم تكن أكثر من وثيقة يكتبها قضاة المذاهب الأربعة ثم يقدمونها للسلطان الذي يضع عليها ختمه ويكون بذلك قد حدد من سيتولى العرش من بعده حسماً لأي صراع. وكان القضاة يحفظون هذه الوثيقة حتى يموت السلطان ويأتي ولي عهده فيفتحوها ويقرأوا ما فيها حتى تكون سلطنته كاملة من كل الوجوه.

ولكن قاضي القضاة حين فتح "التقليدة" اكتشف الجميع أنها خالية من ختم السلطان الأب. زمجر الأشرف من الدهشة والغضب وأقسم القاضي أنه قدم الوثيقة للسلطان السابق ثلاث مرات وفي كل مرة كان يرفض ختمها وهو يقول:
- أيها القاضي أنا لا أولي خليلا على المسلمين.

لأمر ما لم يكن السلطان راضيا عن ترك العرش لابنه. ولكن كل الورثة كانوا قد ماتوا أو اغتيلوا أو أصيبوا بالجنون، ولم يبق إلا خليل الذي تناول التقليدة الخالية من الختم ومزقها وهو يقول:
- لقد امتنع السلطان عن أن يعطيني العرش ولكن الله أعطاني إياه.. وبدأ عهده..

ولكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فالتقليدة الناقصة جعلت سلطنته ناقصة. كان يحس بذلك في عيون الأمراء والأتابكة، وفي تفسيرات الفقهاء، وفي نكات العامة. قبض السلطان على القاضي ووضعه في أسفل السجون، وألغى نظام التقليدة، وقبض على معظم أمراء أبيه، ثم لم يجد بداً من أن يدعو الجميع للجهاد ضد الفرنجة.

كان الفرنجة ما زالوا رابضين كالأخطبوط القديم، جسده في عكا وأذرعته ممتدة إلى صور وصفد وأنطرطوس. أخطبوط عجوز قطع له صلاح الدين ذراعاً فنبتت عشر أذرع، وقطع السلطان بيبرس خمسا فنبتت عشرون. وعندما وقف السلطان فوق منبر الأزهر وطالب الناس بالخروج معه تذكروا جميعا أن السلاطين وحدهم لا يمكنهم قتل الأخطبوطات، وإنما يقدر على ذلك حرافيش المدن وصعاليك الشوارع وفلاحو الريف وصيادو السواحل. رغم مماليك الأشرف الكثيرة فقد كان المتطوعون من عامة الشعب هم الأغلب. ليم يبال أحد إن كان السلطان يريد أن يلفت الأنظار بعيداً عن بيعته الناقصة أم لا. المهم أنه يدعو الجميع إلى شيء جدير بالاستجابة.

صنع النجارون المنجنيقات الضخمة التي تستطيع أن تحمل طنا من الحجارة، وصب الحدادون دبابيس من الصلب قادرة على اختراق أي جدار، وجدل الصيادون الحبال الطويلة ووضعوا في أطرافها الخطاطيف، وحمل الفلاحون الفئوس وساروا جميعا إلى عكا.. فلك الله يا عكا.

كان الفرنجة على استعداد لأن يفقدوا كل شيء إلا هذه المدينة. تجمع خلف أسوارها كل فرنجة الشام بعد أن تناسوا خلافاتهم، وجاء إليها عبر البحر الملك هنري الثاني ملك قبرص، فاحتفلوا بقدومه وأشعلوا ناراً عالية لعل السلطان الأشرف يتراجع حين يراها، ولكن لم يكن لديه طريق آخر..

ولكن الملك هنري هو الذي أدرك - منذ أن صعد إلى الأسوار - أن المعركة خاسرة. أرسل يسأل السلطان عن شروط الصلح. وكانت بسيطة وواضحة: الاستسلام بدون قيد ولا شرط، على أن يؤمن خروجهم وأموالهم من عكا.. وكان الجواب هو الرفض، فبدأ السلطان القتال على الفور. ظل جيشه يرتطم بالأسوار كل يوم، يملؤها بالثقوب والنشابات، ويقذف المدينة بالأحجار وكريات النار، ويقترب منها بالأبراج، ويغرق كل السفن القادمة إليها. وأسرع الملك هنري بالفرار واقتحم جنود السلطان المدينة في يوم الجمعة.. الساعة الثالثة عصراً.. نفس اليوم والساعة التي سقطت المدينة فيها من قبل.

لم يكن هناك بعد ذلك ما يمكنه وقف الملك الأشرف. سار إلى مدينة "صور" المنيعة، لم يكن أحد قد تعرض لها منذ أن أخذها الصليبيون حتى ولا صلاح الدين. ولكن منظر الجيوش المهيبة وذكرى سقوط عكا جعل المدينة تسقط دون قتال. ثم سار إلى "صفد" فخرج ملك الفرنجة وهو يبكي من القهر. وهرب أهل "أنطرطوس" وألقت حاميتها بأنفسهم إلى البحر قبل أن يصل إليهم. انهار بناء الفرنجة الهش تحت قدميه، كأن قلاعهم رمال تذروها الريح. حتى صلاح الدين نفسه لم يفعل بهم كما فعل الأشرف في هذا العدد القليل من الشهود.

كان متعبا، منهكا من كثرة القتال. ورغم ذلك مازال خائفا من العودة إلى القاهرة حيث توجد مزق التقليدة الناقصة، فضل أن يتوجه إلى الشام.. دخل إلى دمشق في منتصف الليل ولكن ما أن ظهر من باب النصر حتى وجد أهلها جميعا في انتظاره. لم ينم منهم أحد حتى الأطفال والشيوخ والمرضى، جميعا خرجوا إليه كل واحد منهم يمسك شمعة ليضيء بها طريق السلطان المجهد وطريق جنوده الذين حاربوا بلا هوادة. خيم على المدينة جو من الجلال المهيب بعد صخب المعارك، أحاطتهم أضواء الشموع المرتعدة كأنها وجيب كل القلوب. كانت دروب المدينة كلها مضاءة من باب النصر حتى باب الوقيد، وألسنة اللهب ترسم في الظلام حروفاً مجهولة كأنها حروف تقليدة.. ولكنها هذه المرة بيعة جديدة وكاملة تتوجه سلطانا رغم أنف كل الأختام الناقصة.