باحثة البادية: ملك حفني ناصف

  باحثة البادية: ملك حفني ناصف
        

هل كانت ضد تحرر المرأة؟

         كان قاسم أمين, الشاب المصري الذي تختلط في عروقه دماء كردية بدماء مصرية جنوبية, في الثامنة عشرة من عمره, بينما كانت ثلاث سيدات عربيات يعانين من مشاكل الحمل. ثلاث نساء عربيات في ثلاث مدن مختلفة, الناصرة بفلسطين, وكفر الحكما بالزقازيق والجمالية بالقاهرة, أنجبن للمرأة العربية ثلاث فتيات كن من أوائل النساء اللائي حملن لواء الحرية, وطالبن بها وتعذبن من أجلها وحاولن أن يوقظن وعي بنات جيلهن وأن يحرضنهن كي يتشبثن بها. هل كانت آلام المخاض تفوق غيرها بينما روح متمردة تعبر ذلك الممر الوعر الذي يفصل بين الوجود والعدم?! أم تراهن قد انزلقن في سهولة ويسر مرحبات بالدور التاريخي الذي ستلعبه كل منهن, متشوقات لأدائه, متطلعات لاجتياز الصخور الوعرة والمنعطفات الخطيرة التي ستواجههن?!

         لم تعش أمهات ماري ونبوية وملك ليصفن لنا ما حدث بالضبط وما إذا كان هناك ثمة تشابه أو اختلاف بين ميلاد كل من تلك النسوة المتميزات. على أي حال لو عاشت الأمهات فما كان أحد سيهتم بسؤالهن, وليس علينا إلا أن نخمن ونفترض. كانت الطفلة الأولى: ماري إلياس سلامة الشهيرة بمي, قد سبقت ملك إلى الدنيا بعشرة شهور وأسبوعين, أما نبوية موسى فقد وصلت قبل أسبوع واحد. وأخيرا وقبل أن يرحل العام, وصلت ملك: أول فتاة مصرية مسلمة تحصل على الشهادة الابتدائية من مدرسة أميرية, كما كانت أولى الناجحات في أول امتحان يعقد بمصر لتخريج المعلمات, وأول امرأة مصرية تجمع بين الشعر والمقالة والخطابة, والنقد الاجتماعي.

         25 ديسمبر 1886 كان يوما غير عادي بالقاهرة. فالإنجليز الذين احتلوا البلاد منذ أربعة أعوام كانوا لا يزالون يمنون رجال السياسة المصريين بالوعد بالجلاء الفوري عن مصر ويزعمون أن احتلال جيوشهم لن يطول عن بضعة أشهر وربما أسابيع. وكانت خمر الانتصار الساحق على أحمد عرابي واعتذاره الذليل للخديوي توفيق ونفيه غير مأسوف عليه إلى أقصى بلاد الدنيا, كولومبو عاصمة سيلان, لاتزال تسكر الخديو وحاشيته ومؤيديه.

         وقد أراد الخديو أن يضاعف الفرحة فأعلن زفاف الأمير الشاب حسين كامل (الذي سيصبح سلطانا على مصر أثناء الحرب العالمية الأولى) إلى صاحبة العصمة الأميرة ملك. فالمدينة كلها في زينات وطبول كأنها ترحب بمقدم الطفلة التي سماها والدها على اسم الأميرة المحتفى بها: ملك.

         تجمعت في سماء القاهرة وغيومها في ذلك اليوم الشتائي البارد كل إرهاصات مصر الحديثة: مصر الخديو إسماعيل التي عمل على أن تكون قطعة من أوربا وصاح صيحته الشهيرة: (مصر ليست إفريقية!). جاءت ملك إلى الحياة لتجد في انتظارها عالما جديدا يختلف كل الاختلاف عن ذلك الذي نشأت به جدتها وأمها, فمنذ انتصف القرن التاسع عشر ومصر تفتح أبوابها وعقلها وعيونها على الغرب وترحب بهداياه: التصوير الفوتوغرافي (منذ 1851م), والسكك الحديدية (منذ 1856م), ومجلس شورى النواب (منذ 1866م), والصحف (منذ 1867م), والمدارس العليا (منذ 1868م), وافتتاح قناة السويس أو البوغاز (منذ 1869م), والأوبرا (منذ 1869م), والكتبخانة (دار الكتب) (منذ 1870م), والتياترو (منذ 1876م). وقد سبق ميلاد ملك افتتاح أول مدرسة أميرية لتعليم البنات في مصر أنشأتها في القاهرة زوجة الخديو إسماعيل وهي مدرسة السيوفية (منذ 1873م).

         ولا شك أن كل هذا كان له تأثير كبير في تفكير ملك التي شبت عن الطوق لتجد بمصر أكثر من مجتمع, مجتمع الأرستقراطية التركية وقد تحلقت حول الأوربيين الوافدين من فرنسا وإيطاليا واليونان وأخيرا إنجلترا, حيث ليالي الأنس و(الباللو) في قصر عابدين و(السرايات) والرجال الذين تخلوا عن الزي الشرقي التقليدي, العمامة والكاكولا, والنساء الأجنبيات السافرات المخالطات للرجال بلا ضوابط ولا حدود. ومجتمع القاهرة القديمة في الجمالية حيث ولدت, والسيوفية والأزهر وما حوله, حيث التمسك بالقيم والعادات الإسلامية, والحبرة واليشمك والمشربيات.

         بالإضافة إلى ذلك كان هناك تأثير والدها التربوي اللغوي والكاتب المثقف الأستاذ حفني ناصف عليها. تخرج حفني بك ناصف في دار العلوم وكان في بداية حياته يرتدي العمة والعباءة لكنه غيرهما بعد ذلك إلى الزي الغربي. عاصر رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك, وكان واحدا من تلاميذ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده, ومن رفاق سعد زغلول وحافظ إبراهيم وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد وغيرهم من رجالات الحركة القومية في مصر أوائل القرن العشرين. إن وجود تلك الشخصيات في حياة الوالد وترديده (الأفكار التنويرية), ومحاولاته إحداث تغيير في حياة أسرته, لأشك أن هذه العوامل كان لها تأثيرها في ابنته الكبرى والأثيرة لديه ملك.

كاتبات معاصرات

         ولدت ملك حفني ناصف, وبمصر كاتبتان لامعتان ملء السمع والبصر هما عائشة التيمورية (1840 ـ 1902م), وزينب فواز (1860 ـ 1914م). كانت الأولى تقرض الشعر بالفارسية, والتركية والعربية وكتبت قصة (نتائج الأحوال) بلغة المقامات, و(مرآة التأمل في الأمور), سبقت قاسم أمين إلى النقد الاجتماعي والدعوة للإصلاح. أما الثانية فكتبت العديد من الأعمال من أهمها: (الدر المنثور في طبقات ربات الخدور) (1893م), ونشرت روايتها الأولى (حسن العواقب) أو (غادة الزاهرة) في أغسطس 1892م, وهذا يعني أنها سبقت (زينب) الدكتور هيكل في ريادة الرواية, وسبقت قاسم أمين في المطالبة بتعليم البنات. وكانت زينب فواز, مثل عائشة التيمورية تحظى باحترام وإعجاب معاصريها.

         وكانت طفرة قد حدثت في وعي المرأة بحقوقها بعد صدور كتابي قاسم أمين وتوصيته لنساء الطبقة الراقية بأن ينشئن الجمعيات والصحف للدفاع عن حقوق المرأة. وقبل ذلك لم تكن بمصر سوى مجلتين نسائيتين, واحدة هي دورية (الفتاة) التي أصدرتها هند نوفل في الإسكندرية عام 1892م, ثم توقفت عن إصدارها بعد عامين بسبب زواجها. والثانية مجلة (أنيس الجليس) التي استمرت صاحبتها ألكسندرة أفرينو تصدرها حتى عام 1908م. وبعد كتابي قاسم أمين صدرت العديد من المجلات النسائية من بينها على سبيل المثال: مجلة (الهوانم) 1900م, ومجلة (المرأة في الإسلام) سنة 1900م, ومجلة (شجرة الدر) 1901م, ومجلة (السعادة) 1902م, ومجلة (السيدات والبنات) 1903م, ومجلة (فتاة الشرق) 1906م, ومجلة (ترقية المرأة) 1908م, ومجلة (فتاة النيل) 1913م. وبداية من عام 1915م بدأت مي زيادة تكتب خواطرها في جريدة (المحروسة) التي كان يملكها ويديرها والدها تحت عنوان (يوميات فتاة).

         ولكن كل تلك المجلات النسائية أصدرتها سيدات شاميات, كما أن عائشة التيمورية وزينب فواز ومي زيادة كن من أصول غير مصرية, الأولى ولدت لأم جركسية الأصول وأب كردي, وكل من زينب فواز ومي كانتا لبنانيتي الأصل والمولد. أما ملك حفني ناصف فقد كانت مصرية مسلمة تعود جذور عائلتها إلى القليوبية, وإن ولدت ونشأت بالقاهرة ثم تزوجت بالفيوم.

مصر في مفترق الطرق

         كانت سنوات بداية القرن العشرين تموج بتيارات متعارضة وأفكار متباينة, وكانت مصر برجالها ومفكريها وساستها تقف في مفترق الطرق لا تدري أي سبيل تسلك. لقد ضاقت ذرعا بتحكم العثمانيين وتخلفهم الفكري وأفقهم الضيق وسياساتهم الفاشلة التي جرت البلاد إلى المهالك, وفي الوقت نفسه كانت قوى الاستعمار الغربي, متمثلة في إنجلترا وفرنسا, تتربص بمصر وتتصارع على فرض حمايتها عليها, وتذويب هويتها الإسلامية في تيارات التغريب والتمدين.

         هكذا صارت مصر بين المطرقة والسندان, الأتراك من ورائها والإنجليز من أمامها, وإذا بفئة من المصريين يميلون نحو الأتراك, يتزعمهم مصطفى كامل ورفاقه, وفئة أخرى تنشد الخلاص من عنجهيتهم وتحكمهم في المصريين وسيطرتهم على حكامهم ولا تجد مفرا من سلوك مسلك الغرب واتباع أساليبه ومهادنة رجال الاحتلال الإنجليزي. وقد ظهرت تلك التيارات واضحة مع تأسيس أول أحزاب سياسية في مصر عام 1907م. وقد عاصرت ملك المناضل الشاب والزعيم الوطني مصطفى كامل (1874 ـ 1908م) ولا بد أنها تابعت مقالاته الملتهبة وخطبه الحماسية وأيدت أو عارضت بعض أفكاره. فإلى أي مدى كان تأثير ذلك الشاب الذي كان يكبرها باثنتي عشرة سنة تقريبا في أفكارها, ومن المعروف أنه لم ينشغل بقضية المرأة بل كان واحدا من معارضي قاسم أمين ومن مؤيدي الناقدين له ومن بينهم طلعت حرب.

         كانت ملك من أوائل الذين تنبهوا للمعركة الدائرة بين الوطنيين المصريين من ناحية, ورجال الاحتلال البريطاني, يساندهم بعض رجال البلاط من ناحية أخرى, حول استقلال مصر. لقد ولدت في عصر الخديو توفيق من (1879 ـ 1892م) الذي سلم مصر للاحتلال البريطاني, وعاصرت الخديو عباس الثاني من (1892م ـ 1914م), وتابعت بدايته الوطنية نتيجة لعلاقته القوية بالزعيم الشاب مصطفى كامل ثم النهاية الحزينة لهذه العلاقة بعد توقيع فرنسا معاهدة الاتفاق الودي (سايكس ـ بيكو) عام 1904م الذي اتفقت فيه فرنسا على إطلاق يد إنجلترا في مصر مقابل إطلاق يدها في مراكش.

         وكانت ملك في العشرين من عمرها يوم حدثت (واقعة) دنشواي في 13 يونيو 1906م, ولا شك أنها تأثرت بتلك الحادثة التي اهتز لها ضمير العالم في ذلك الوقت, وإن كنا لا نجد صدى لها في كتاباتها, ولا لقرار فرض الحماية البريطانية على مصر عام 1914م, ذلك أنها ركزت كل جهودها ومقالاتها ومحاضراتها حول القضايا الاجتماعية.

         عالجت ملك موضوع السفور والحجاب في أكثر من مقال, مما يدل على انشغالها بتلك القضية, كما انشغل كتاب ومفكرو عصرها. ولكن مشاعرها الوطنية يتضح تأثيرها في موقفها من قضية السفور عندما تكتب:

         (أترى لو كنا سافرات يوم ضرب الإسكندرية بالقنابل أكان يرتد على أعقابهم المحتلون? وهل كان ينفع إشراق وجوهنا في تبرئة مظلومي دنشواي?).

         وحول المعركة الثقافية التي بدأت تشتعل بين المطالبين باتباع التمدين الغربي والمتمسكين بالقيم الشرقية, تقول ملك في نفس المقال:

         (فإننا لو سلمنا بما يقترحه الكاتب من ضرورة تقليد الغربيين في أمور معاشنا ولباسنا وزي بلادنا مما قد لا يوافق روح الشرق فإننا نندمج ونفقد قوميتنا بمرور الزمن, وهذا هو ناموس الكون إذ يفنى الضعيف في القوي).

موقف وسطي

         وقد عاصرت ملك حفني ناصف صدور كتابي قاسم أمين (تحرير المرأة) 1899م, و(المرأة الجديدة) 1900م, ولا شك أنها قرأتهما في بداية صباها وتأثرت سلبا أو إيجابا بما طرحه قاسم أمين من أفكار حول وضع المرأة المسلمة في عصره ومطالبه التي كانت صادمة وتصادمية في ذلك الوقت. إلا أن عوامل سياسية واجتماعية عديدة أدت إلى موقف ملك الوسطي من قضايا المرأة وبالذات قضية التخلص من الحجاب العثمانلي (النقاب الأبيض), أو ما كان يسمى بمسألة السفور التي ثارت بشدة في تلك الأيام, وسببت لها نقد وهجوم بعض الرجال في عصرها, الذين اتهموها بالرجعية واعتبروها مستسلمة لتخلف المرأة ومناهضة لتحررها. ونتأمل ردود ملك على تلك الاتهامات ومحاولاتها المستميتة لإيجاد طريق وسطي تسلكه المرأة المسلمة بحيث لا تفقد هويتها الإسلامية أو تندفع في تيار التغريب الذي بدأ في تلك الفترة. أو كما عبرت هي: (طريقا وسطا بين الظلام الدامس الملقي إلى التهلكة وبين الضوء الشديد الخاطف للأبصار).

         فنجدها تعترف: (إذا لم تخني الذاكرة فلم يبق من منتقدي إلا حضرة (الحقوقي الحر), وقد استغرب سكوتي عن مسألة النقاب وخصوصا الجديد منه, وأنا شخصيا ممن يعجب بذلك المئزر التركي, ولكن يتساوى عندي الجديد والقديم...), ثم تعود فتقول في نهاية الفقرة: (وعندي أن المرأة السافرة الجادة في أخلاقها وسيرها خير من المؤتزرة بأثقل الحرير وأمنع النقاب وهي خليعة لعوب..).

         ثم تؤكد على ما سبق أن أكد عليه قاسم أمين بأن التربية الصحيحة هي خير حجاب: (ومن يتصفح الخطبة أو غيرها مما أقول وأكتب, يجدني لا ألح على النساء بأكثر من اتباع الحشمة, ولا على القائمين بأمرهن إلا أن يحسنوا تربيتهن من الصغر حتى ينشأن على الفضيلة).

         وفي رد على مقال لعبدالحميد حمدي, رئيس تحرير مجلة (السفور), الذي طالب بسفور المرأة المصرية وندد بالحجاب وكان يطلق عليه لقب (زعيم السفوريين), تكتب ملك:

         (فناشدتك الله أيها الأديب كيف تأمرنا الآن بالسفور ونحن إذا مشت إحدانا في طريق لا تزال تنصب عليها العبارات الوقحة ويرشقها هذا بنظرة فاجرة وذاك ينضح عليها من ماء سفالته حتى يتصبب عرقها حياء, فمجموع رجال مثل مجموعنا الحالي لا يصح بحال أن يوكل إليه أمر امرأة وتترك عرضة لسبابه وقلة حيائه, ومجموع نساء كنسائنا الآن لا يفهمن إلا ما يفهمه الرضيع يصبح سفورهن واختلاطهن بالرجل بدعة لا انتهاء لشرها).

المرأة تقرر مصيرها

         ومن ناحية أخرى, نرى أن ملك ترفض أن يملي الرجال على النساء ما يفعلن, فالنساء وحدهن صاحبات الحق في تقرير مصيرهن, فهي تعلن:

         (وعليه فلسنا متبعات رأي من يأمرنا بالحجاب ولا رأي من يقول بخلعه لمجرد أن هذا تعب وكتب, وذاك نقب وخطب, إلا إذا تبينا الرشد من الغي, وعلمنا من التجارب أولى الخطتين بالاتباع). (إن الرجال لا يشعرون بما يثور بين أضلع النساء, كما أننا نحن النساء لا نكاد نشعر بحاجاتهم ولا نتنبأ بما بين أضلعهم, فكيف بهم يبتون في مسائلنا الخاصة بت من شعر بالداء وعرف الدواء)?

         إن هذا هو موقف مصر التي ترفض أن تفرض بريطانيا أو فرنسا حمايتها عليها, وترغب في أن تختار طريقها بنفسها.

         وعندما تعلن نبوية موسى موقفها الرافض للحل الوسط من الحجاب العثمانلي (فإما السفور وإما الحجاب) تكتب ملك:

         (إنما أريد أن نوجد مذهبا وسطا بين السفور الغربي والحجاب المصري القديم, بحيث لا يكون اختلاطا يبعث على الشطط ويفنينا في الإفرنج ولا حبسا يضايق الجسم والعقل ويضيع المصلحة).

         وهكذا تقف ملك في منتصف الطريق وقد أمسكت العصا من وسطها, فهي تعارض السفور وتراه (بدعة لا انتهاء لشرها), لا لأنها تحبذ الحجاب وإنما لأنها ترى أن الوقت لم يحن بعد لمثل تلك الطفرة (في بداية القرن العشرين). فالفتيات لم يتسلحن بعد بسلاح العلم والفتيات في حاجة إلى التأديب والتهذيب. وتشرح ملك موقفها الوسطي من قضية السفور, فتقول: (أكثر من كتب عني إنما كان يظن أني من رأيه وشيعته فأصرح بأني مستقلة تماما عن رأيهم, فلا أنا (قاسمية) متطرفة كما يريدني حضرة الكاتب (هيكل) ويحرضني في رده (بالجريدة) أن أجهر برفع الحجاب, فإني لا أوافق على ذلك الآن, وربما أيده المستقبل في رأيه, ولكني حكمت على حسب الأحوال الحاضرة, ولا أنا ممن يرمين إلى تقليد الفرنجة كما يخاف حضرة (الغزالي أباظة).

         نفس الموقف الوسطي من قضية السفور اتخذته نبوية موسى التي ولدت في نفس عام ميلاد ملك (1886م أو 1890م) وقطعت معها نفس الطريق في العلم فلحقتها عام 1903م وحصلت على الشهادة الابتدائية, ثم سبقتها إلى شهادة البكالوريا لتصبح أول فتاة مصرية تحصل على هذه الشهادة, ثم حصلت على دبلوم المعلمين عام 1908م. وبينما تخلفت ملك في منتصف الطريق لكي تتزوج عام 1907م, أكملت نبوية موسى المشوار حتى نهايته متخلية عن الزواج وما يتبعه من تكوين أسرة وإنجاب.. إلخ. وأصبحت من أعلام التربية في مصر فهي أول امرأة مصرية تعين ناظرة مدرسة ابتدائية عام 1909م, ثم أول ناظرة لمدرسة معلمات (بالمنصورة) عام 1910م. وهي أول امرأة مصرية ترقى إلى درجة التفتيش في وزارة المعارف وقد شاركت نبوية موسى الرائدة المصرية هدى شعراوي ورفيقاتها عضوات اللجنة المركزية لنساء الوفد في كفاحهن ضد الاحتلال الإنجليزي وكانت بين وفد السيدات المصريات المشاركات في المؤتمر النسائي العالمي اللائي تمردن على الحجاب العثمانلي بعد عودتهن من الخارج. كذلك كانت نبوية موسى تنتدب مثل ملك في الجامعة المصرية كل يوم جمعة لإلقاء المحاضرات في موضوعات مختلفة لتثقيف سيدات الطبقة الراقية. وقد التحقت بكلية الحقوق عام 1912. منتسبة ووصلت إلى السنة النهائية ولكن المستشار الإنجليزي دنلوب أقنعها بعدم دخول الامتحان النهائي بزعم أن تلك كانت رغبة وزارة المعارف.

         وعلى الرغم من هذه الأفكار فقد التزمت نبوية موسى بالحجاب وأسفرت عن وجهها وكفيها فقط, على اعتبار أن هذه هي الحشمة في الزي واعترفت:

         (كنت أخشى إذا تكلمت في السفور أن ينسب إلى جهلاء الناس ما نسبوه ظلما إلى قاسم أمين)..  (لكني مع ذلك أعطيت تلميذاتي مثالا صادقا للسفور الذي أريده.. الذي يدل على حشمتها ووقارها فهي تخرج لعملها سافرة حتى لا يعوقها الحجاب (النقاب) عن حسن تأدية ذلك العمل ولكنها تظهر في ملبسها بمظهر الجد فلا زينة ولا تبرج).

         ومع هذا الموقف المتحفظ الذي سلكته نبوية موسى في مسألة الحجاب فإنها لم تسلم من الانتقادات الشديدة لكشفها عن وجهها ويديها فقد كان المحافظون يرفضون ذلك ويعتبرونه خروجا عن الشرع حتى أن الشاعر المعروف حافظ إبراهيم في زيارته للمدرسة التي تعمل بها نبوية موسى تصادم معها وانتقدها انتقادا شديدا لكشف وجهها فقد كان وجه المرأة في نظر هذا الفريق فتنة يجب إخفاؤها.

 

إقبال بركة