الإسكندرية الغارقة تبوح بأسرارها

 الإسكندرية الغارقة تبوح بأسرارها
        

الإسكندرية .. تبوح أخيرا بما حجب الزمان من خباياها، تلك المدينة العريقة على شاطئ المتوسط والتي تحمل من التاريخ تعاقباته الفرعونية والبطلمية والرومانية والبيزنطية والإسلامية وحتى العصر الحديث.

         إنها حقاً مدينة الكنوز والمجد, التي حملت واحدة من عجائب الدنيا السبع, الإسكندرية الآن تحاول أن تخلع من عليها ركام الزمان وبعد أن كشفت طبقات أرضها العميقة عن بعض أسرارها نجدها الآن وقد ولت وجهها شطر بحرها الأزرق الجميل وشواطئها الخلابة تستنطقها بما تحمل وتحاول كشف ما سترته مياهها ورمالها وصخورها لتستعيد وضعها الأثري بين مدن العالم القديم والذي تسيّدته في أوقات ازدهارها وكانت فيه يوماً ما عاصمة النور والإشعاع الثقافي والعلمي إبان العصرين اليوناني والروماني.

         لقد اختار موقعها الإسكندر الأكبر عندما فتح مصر وزار معبدالإله بتاح في منف, واتجه إلى الشمال الغربي في زيارة لمعبد الإله آمون في واحة سيوه, واتخذ الفرع الكانوبي من النيل حتى الساحل ثم غرباً حتى وصل إلى قرية تعرف باسم راكوده (راكتيس), تواجهها في البحر جزيرة هي فاروس تقع في الجنوب منها بحيرة ماريا (مريوط) وهنا أشار الإسكندر إلى هذه البقعة اليابسة بين البحر والبحيرة وليوصل فيما بين الجزيرة الصغيرة والقرية في 25 طوبة 331 ق.م وتصبح عاصمة ملكه والتي تعتبر أعظم وأخلد أعمال الإسكندر في مصر, وظلت بعد ذلك مركزاً ورمزاً لحضارة العصر الذي ابتدأه الإسكندر, عهد في تخطيطها إلى دينوكراتيس الرودس الذي كان من أعظم معماري عصره, لكن الإسكندر مات ولم ير العاصمة, وكانت مصر من نصيب أسرة البطالمة.

المدينة تنمو

         بطليموس الأول (سوتير) 304-284 ق.م هو أول ملوك البطالمة في مصر والذي منح تشجيعه وتأييده لإتمام المشروع الكبير لمدينة الإسكندرية, تم تخطيط المدينة بأن مد الجسر بين جزيرة فاروس وقرية راكوده وعرف باسم (الهبتاستاديون) فأصبحت مدينة ذات مرفأين أحدهما إلى الشرق ويسمى الميناء الكبير, والآخر إلى الغرب ويسمى العودة الحميدة, واستحوذ الميناء الشرقي على الاهتمام لما يتمتع به من ميزة الأكثر أمناً.

         كانت المباني الملكية تقع على هذا الميناء الشرقي وتربط القصر الملكي المقام على رأس لوسياس (والتي هي السلسلة الحـالية) بالحي الواسـع للقصور والمعروف في العصر الروماني باسم البروكيون.

         حدد أحد المهتمين بطبوغرافية الإسكندرية مكان المكتبة الشهيرة والجامعـة واللذين كانا أيضاً في الحي الملكي مكانهـما على وجه التقريب في المنـطقة الواقـعة بوسط المديـنة بين شوارع شريف (صلاح سالم) وسـيزوستريس والنبي دانيال.

         كانت الإسكندرية مركزاً اقتصادياً ساعدها على بلوغه منارتها الشهيرة التي أقامها المهندس سوستراتوس بن ديكسيانس من جزيرة كنيدوس وبنيت في عهد بطليموس الأول وانتهت في عهد بطليموس الثاني 280 ق.م, وارتفعت إلى أكثر من 135 متراً لتصبح منارة للملاحين, كانت الإسكندرية مركزاً ثقافياً مشـعاً في الـعالم القديم, فها هي جامعتها (أو دار الحكمة) مركز للبحث والدراسة, ومكتـبتها والتي أسـسها أحد زعماء السيـاسة في أثينا ديمـتريوس الفـاليري, وكان يُستجلب لجامعـتها أهل الكفايات في كل فرع حتى بلغوا في فترات العـصر الذهبي نحو مائة مفكر.

         أما المكتبة, فكانت تغذي هذه الجامعة, وذاعت شهرتها بدرجة لم تتمتع بها منشأة علمية معاصرة لها, علماً بأنها كانت مكتبة عامة, وهي أول مكتبة تملكها الدولة في العالم القديم, بلغت ثروتها ما يقرب من 128 ألف مجلد حديث.

         ظلت الإسكندرية تحمل في العصر الروماني (30 ق.م - 323م) نفس سماتها السابقة ترفع راية العلم والفلسفة, وظلت الديانة والتي يمثلها الثالوث الإسكندري (سرابيس - إيزيس - حربوكرايتس) والذي كان من وضع البطالمة أو تحويرهم ظل هذا الثالوث بمكان الصدارة في عهد الرومان, وها هو ذا معبدإيزيس الذي اكتشف في منطقة الرأس السوداء بالإسكندرية أثر باق جادت به أعماقها البرية,  وها هو مسرحها الروماني بمدرجاته وأروقته وحجراته دالً على فنونها المتوهجة.

من البحر إلى الشاطئ

         هكذا, سلسلة تفضي كل حلقة منها إلى الأخرى, كم هو مدهش أن تسلم اكتشافات شوارع وميادين الإسكندرية راية من راياتها إلى البحر, إلى الشاطئ القريب, ذلك الزاخر الآخر الذي كشف عن أعماقه حينما تنبّه العالم إلى ما يسمى الآثار المطمورة تحت الماء, كم هو مدهـش ما أسـفر عـنه بحـرك يا إسكندرية.

         لقد أرخ الجغرافي اليوناني القديم سترابون لمدينة الإسكندرية حين زارها في عام 25 ق.م ووصف ميناءها الشرقي ومنطقة لسان لوخياس والقصر الملكي عليه, والقصور الملكية الداخلية في يسار ذلك اللسان والميناء المختفي عن الأنظار والخاص بالملوك وجزيرة أنتيرودس والتي عليها قصر (يعتقد الآن أنه قصر كليوباترا) وميناؤها الصغير والميناء الصناعي الذي يقوم عليه مسرح ثم معبد بوسيدون, وإضافة ماركوس أنطونيوس لحاجز الأمواج وحتى منتصف الميناء والذي يطلق عليه لسان التيمونيوم وعليه المقر الملكي (والمعتقد أنه قصر أنطونيو), هذا الذي وصفه سترابون قد ضربته الزلازل المتتابعة منذ عام 251م وأشهرها زلزال القرن الرابع عام 365 الميلادي الذي أغرق ودمّر المدينة, وزلزال عام 1303 الذي هدم فنارها, لكن البحر كان رفيقاً بهذا التاريخ وبقى حافظاً لبعض آثار ما كان.

         ومع الاهتمام العالمي بالكشف عن تلك الآثار الغارقة في البحار, كان تسلسل الكشف بداية من عام 1866 وخريطة الإسكندرية القديمة التي رسمها محمود باشا الفلكي لما رآه في الميناء الشرقي في أوقات هدوء البحر, ثم عام 1910 مع المهندس الفرنسي جونديه Jondet واكتشافه لأرصفة الموانئ غرب جزيرة فاروس, ثم عام 1933 واستخراج رأس من الرخام للإسكندر الأكبر, ثم عام 1963 والغطاس كامل أبو السعادات وانتشال تمثال المعبودة إيزيس فاريا حامية البحارة وربة الموانئ بمساعدة البحرية المصرية وتقديمه لخريطتين للآثار الغارقة في الميناء الشرقي حدد فيهما جزيرة أنتيرودس وبعض البقايا الأثرية.

         بدأ العمل الجاد منذ عام 1992 للمعهد الأوربي للآثار البحرية الغارقة في الميناء الشرقي لتحديد مواقع التراث الغارقة, وكانت المفاجأة! ظهرت تحت الماء تلك الإسكندرية التي وصفها سترابون عام  25 ق.م, لكنها اليوم أثر بعد عين, فهذا هو خط الساحل القديم بدقة كبيرة, والصخور الغارقة وجزيرة أنتيرودوس والألسنة البحرية الممتدة من خط الساحل القديم داخل البحر والأرصفة الصناعية التي بناها البطالمة وأطلال القصر الذي عاشت فيه كليوباترا وأطلال مقر التيمونيوم لمارك أنطونيو وهاهو ذا فناء على مساحة 6000م2 تغطيه بلاطات الحجر الجيري وآلاف القطع الأثرية سواء الأعمدة ذات الأبعاد المختلفة من الجرانيت الأحمر وتماثيل أبو الهول وأجزاء المسلات وتيجان الأعمدة - 2500 قطعة على عمق خمسة أمتار, عصور مختلفة تمتد من الملك سيتي (1297-1291 ق.م) إلى الملك إبريس (589-570 ق.م) إلى الإمبراطور كومودس (180-193م) والإمبراطور كاراكالا (313م), تماثيل ما بين تمثال الكاهن وتماثيل الأباطرة وغيرها لرجال ونساء, أما المفاجأة الثانية في نهاية عام 1997 العثور على حطام سفينة كاملة يبلغ طولها 30م وعرضها 8.25 متر تؤرخ إلى 30 ق.م - 40 م, وذلك في قاع الجزيرة الغارقة أنتيرودس, ورغم مرور أكثر من ألفي عام فإن أخشاب السفينة التي قطعت بدقة متناهية لاتزال بحالة ممتازة من الحفظ, وقد وجد بها خاتمان ذهبيان وعملات وجرار كثيرة, إنها سفينة تجارية تؤكد الدور المتميز للإسكندرية كمركز تجاري عالمي.

         أثر الجهود التي قام بها المجلس الأعلى للآثار بالتعاون مع المركز الفرنسي للدراسات السكندرية أسفرت نتائج المسح الأثري وعمل الحفائر والدراسات في منطقة قايتباي أظهرت أن الموقع يحوي كتلاً من مبنى فنار الإسكندرية وبقايا لمباني جزيرة فاروس ومجموعة من الآثار الفرعونية واليونانية والرومانية من أعمدة ومسـلات وتماثيـل أبو الهول وتيجان وتماثيل ضخمة, إنه التاريخ المتـعاقب.

         وإذا تركنا الميناء الشرقي وقلعة قايتباي, وانتقلنا إلى خليج أبي قير, فسوف يطير بنا الزمان إلى القرن الثامن عشر حيث معركة الأسطولين الفرنسي بقيادة نابليون والإنجليزي بقيادة نلسون لينتصر الأخير ويغرق أسطول نابليون أمام سواحل أبي قير, وجاء دور الكشف عن السفن الغارقة بواسطة بعثة المعهد الأوربي للآثار الغارقة بالتـعاون مع المجلس الأعلى للآثار, وكشف عن موقع السفينة الفرنسية أورينت ويبلغ طولها 45م وارتفاعها أربعة أمتار, وهو الجزء الظاهر فوق الرمال, كذلك سفـينة أخـرى طـولها 35 متراً عثر بها على مواسير لمدافع حديدية يبلغ طولها 3 أمتار وقـطرها مـن الأمام 30 سم ومن الخلف 50 سم, وعثر على دفة السفينة محتفظة بالسلسلة الحديدية, أيضاً عثر على مدافع من البرونز تحمل نقشاً دائرياً على مؤخرة المدفع يسجل اسم الصانع وتاريخ الصنع لعام 1788 بمدينة تولون الفرنسية, وإلى موسم آخر معه تتجدد الاكتشافات والتي يقول عنها الأسـتاذ الدكـتورجـاب الله علي جاب الله أمين عام المجلس الأعلى للآثار (إن المجلس إذ أنشأ ودعم إدارة الآثار الغارقة بدفع الشباب من الأثريين للتدريب المستديم على أعمال الغوص, وإذ يمنحهم كل التسهيلات حتى أصبحت الإدارة تضم ثلاثة وثلاثين أثرياً غواصاً وهو بالشيء الصعب والنادر حيث إن المجلس لا يتوانى في اعتماد كل ما يتطلب امتلاك إدارة الآثار الغارقة لإمكانات المسح الأثري ومعدات الكشف الحديثة, إنما يعي تماماً  ما يمكن أن تقدمه الآثار الغارقة من ثراء لحضارتنا, ووصل ما أجادت به التربة المصرية من أسرار إلى ما يحمله بحراها سواء الأبيض المتوسط أو البحر الأحمر, إن ما لم يكتشف في الإسكندرية كثير كثير, ما أحوجنا إلى أن نزيح عنه الركام لنعرض مجد الإسكندرية القديم متوّجاً بما يقدمه لها الأبناء حتى يبرز هذا التاريخ الحافل, لذا فإن ما يدور في خيال رئيس المجلس الأعلى للآثار وزير الثقافة فاروق حسني يقول عنه إنه من منطلق الإدراك بأن الآثار الغارقة تحت الماء والتي بدر الاهتـمام العـالمي بها من الأهمية بمكان وافقت فوراً منذ عام 1992 على بدء عمليات المـسح والبحث والإنقاذ في الميناء الشرقي وقلعة قايتباي وأبي قير في الإسكـندرية, والذي تلاه الساحل الشمالي حتى مرسى مطروح, ثم بعد ذلك البحر الأحمر, وتقوم خطتنا على مشروع تصوّري للإسك ندرية لإعداد متحفين أحدهما المتحف البحري ليجري فيه عرض كل ما ينتشل من آثار غارقة, أما الثاني فهو متحف تحت الماء, أتصوّر أنه سوف يكون عبارة عن أنابيب واسعة تمر تحت الماء تسمح بالرؤية والتجوّل عبر مناطق الجزر الغارقة بما عليها من بقايا أثرية ومعمارية وطرق, والحقيقة أن هذين المشروعين تقام لهما دراسات الجدوى بالاتفاق مع الدول التي تعنى بهذا الموضوع, وهو مشروع مهم جداً ولافت للنظر ويحافظ على المنطقة من ناحية أنها تعتبر مسرحاً للإسكندرية الغارقة, وقد يأخذ المشروع وقتاً نظراً لوجوب تكامل جميع الدراسات العلمية حوله, ونحن نقدم كل المتاح والممكن حتى تتكامل للإسكندرية كل عنـاصر إبهارها بإنقاذ آثارها الغارقة.

 

يسرية عبدالعزيز   

 




تمثال كاهن إيزيس يحتضن الآنية الكانوبية (أاواني تحنيط احتشاء الموتى) يخرج منها رأس أوزوريس





احد تماثيل أبوالهول وجد تحت جزيرة غارقة في الميناء الشرقي ربما كان موضوعا في مدخل معبدخاص بايزيس





المدافع البرونزية التي اكتشفت من السفينة الفرنسية





احد حروف الطباعة التي اتت بها الحملة الفرنسية





مجموعة من العملات الذهبية على السفينة الغارقة في خليج ابو قير من المعركة البحرية





من العملات الإسلامية المكتشفة من السفينة الفرنسية الغرقة في خليج ابو قير (عملة ذهبية)





الوجه الآخر للعملة الإسلامية





قطعة من الجرانيت ترجع إلى عهد الملك ابريس من الأسرة 26