عندما يغني الأقدمون

 عندما يغني الأقدمون
        

         تتميز الحياة الاجتماعية بالتطور الملحوظ الذي ينتج عن المؤثرات الكثيرة التي تطرأ على حياة أفراد الأسر والبيئة والمحيط الخارجي من جهة, ومن الناحية الدينية من جهة أخرى. ولقد تبين لي بعد الخوض في غمار حياة بعض الناس أنهم يبتعدون عن سماع الموسيقى والغناء, أو يحرمونهما على أنفسهم. وهنا يفسح في المجال لبعض الأسئلة: من فرض عليهم هذا التحريم? ومن منعهم من سماع الموسيقى والغناء? هل الأديان تفرض ذلك? هل التفاسير الدينية تترجم هذا الميدان? هل يقول الفقهاء بالاعتزال عن الموسيقى والغناء? حتى نجيب عن هذه الأسئلة يجدر بنا أولا أن نلقي الضوء على المعطيات القديمة من غناء ورقص وطرب وموسيقى وما أصابها من ضعف أو تطور منذ أيام الجاهلية حتى ظهور الإسلام وكيف كان الصحابة يستمعون إلى الموسيقى, أو كيف ينظرون إليها بالمنظار الديني.

         قد يقول البعض إن الإسلام لم يحل الموسيقى المحل اللائق بها حتى ادعى بعضهم أنه حرمها. ومن المعقول أن الإسلام, وهو دين الفطرة, لا يخرج عن حد العقل, فهو لا يقول بالإفراط في أي أمر من الأمور. فالموسيقى نشأت مع البشر ولازمتهم في حياتهم الخاصة والعامة في مظاهر السلم والحرب, وفيها يتجلى العقل البشري بإشارات وحركات وكلمات تعمل عملها في الأفئدة والوجدان, ولو صح ما يقال عن تحريم الإسلام لها لما رأينا من الصحابة والتابعين من لحنوا وتفننوا, ولو لم يجزها الشارع الأعظم في أوقات معينة فهل كانوا يجرؤون على الجلوس في مجالس الطرب, والدين غض, والعهد بصاحبه غير بعيد? ومما يروى عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قدم إلى الشام مع أبي عبيدة بن الجراح فلقيه المقلسون (لابسو القلنسوة) من أهل أذرعات بالسيوف والريحان. فقال عمر: امنعوهم فقال أبوعبيدة: يا أمير المؤمنين, إنك لو منعتهم منها يروا أن في نفسك نقضا لعهدهم. فقال عمر: دعوهم. ودخل الغناء والموسيقى إلى الحجاز عن طريق المغنيات والجواري من الموالي. ويروى أن كثيرا منهن اشتهرن بالغناء في المدينة, وكان يقصدهن بعض الناس من بغداد, وربما وافى الواحدة منهن وجوه أهل المدينة من قريش والأنصار وغيرهم, وكان منهن القارئة والقوالة, ولم تكن محبة الناس إذ ذاك لريبة أو لفاحشة.

         وكان لبعض الموسيقيين والموسيقيات, والمغنين والمغنيات, من أرباب النباهة والفضل, يد في إصلاح بعض الأحوال وتخفيف النوازل عند العظماء وكثيرا ما ارتجلوا ألحانا وأبياتا ظاهرها طرب وموسيقى وغرام وسلوى وباطنها وعظ وعبرة وتعريض, ذلك لأن الموسيقى كانت على الأغلب مرافقة للشعر والأدب, وكم من شاعر تدفقت الحكمة على قلبه, وجاش بها صدره, فهذب نفساً بل نفوساً بأبيات يقولها.

مظاهر الفرح والبذخ

         وكذلك أخذت تشيع في الحجاز في البيئات الإسلامية مظاهر الحياة المادية من بذخ وترف ولهو وغناء, فأقبل شبابه ممن توافرت لهم عوامل الغنى والفراغ على الاستمتاع بالحياة الجديدة المترفة اللاهية, فسكنوا القصور المزينة بالرسوم والصور, وأخذوا يأكلون ويشربون في أوان من الذهب والفضة, كما لبس الشباب الخز والديباج والإستبرق والحلل الموشاة حتى لبس الأتقياء منهم الديباج والقلانس, وتعطروا بالمسك, واتخذوا الخدم من الجواري, وتشبهوا بالنساء في ثيابهن, وعاداتهن, كتضفير الشعر, وصبغ الأظافر بالحناء, مما اضطر معه,الخليفة سليمان بن عبدالملك إلى أن ينزل بهم عقابا شديدا. وما أشبه ذلك بما نشاهده الآن على شاشات التلفزيون من عري في المسلسلات, وفي الدعايات مما يتنافى والذوق الحميد والأخلاق الفاضلة, والدين المجيد, ونحن في مجتمعنا نقلد ما فعله الأقدمون آنذاك حين أقبلوا على الغناء, يغشون مجالس الجواري والمغنيات ويقلدونهن في كثير من الانفعالات والميادين, ويعملون بوحي من حبهم للهو والغناء على ترقية هذا الفن وتطويره حتى صار لهم فيه نظرية خاصة تعرف بهم, وكاد يستبد بوقت أبنائه حتى العلماء والفقهاء والعباد منهم. ويروي ابن خلدون في مقدمته: (لما ملك العرب فارس استخدموا أبناءهم وبناتهم, ولم يكونوا في ذلك العهد في شيء من الحضارة فقد حكي أنه قدم لهم المرقق فكانوا يحسبونه رقاعا وعثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم. فلما استعبدوا أهل الدول السابقة قبلهم واستعملوهم في مهنهم وحاجات منازلهم, واختاروا منهم المهرة في أمثال ذلك, والقومة عليه, أفادوهم علاج ذلك, والقيام على عمله والتفنن في أحواله, فبلغوا الغاية في ذلك, وتطوروا بطور الحضارة والترف في الأحوال, استخدموا المطاعم والمشارب والملابس والمباني والأسلحة والآنية فأتوا في ذاك وراء الغاية).

         ولعب الغناء دورا خطيرا في المجتمع الحجازي, وشارك فيه العرب, والموالي والجواري, والمغنيات, وكذلك كان أهل الشام يمارسون حياتهم الطبيعية, فالجميع يقبلون عليه, ويغشون مجالسه, وصار الكثير من المغنين والمغنيات يتنقلون بين الحجاز والشام مما أثار اهتمام بعض الخلفاء الأمويين, فاقتنى الخليفة عبدالملك بن مروان وابنه يزيد ربات الغناء من الجواري. وهكذا تطور الغناء في الحجاز والشام كما تطور الشعر تبعا له, فصار الشعر الغنائي يعبر عن خلجـات القلوب وعن أهوائها, وصار الكثير من الشعر يؤلف للغناء خاصة. ويروي المبرد أن معاوية بن أبي سفيان لما دخل على ابن جعفر يعوده وجده مفيـقـا وعنده جارية وفي حجرها عود. فسأله معاوية: ما هذا يا ابن جعفر? فقال: هذه جارية أرويها رقيق الشعـر فتزيده حسنا بحسن نغمتها. فقال مـعاوية: فلتقل. فحركت عودها, وكان معاوية قد خضب, وغنت الأبيات التالية:

أليس عندك شكر للذي جعلت

 

ما أبيض من قادمات الرش كالحمم

وجددت منك ما قد كان أخلقه

 

ريب الزمان وصرف الدهر والقدم

         فحرك معاوية رجله, فقال ابن جعفر: لِمَ حركت رجلك يا أمير المؤمنين?

         فقال معاوية: كل كريم طروب. ومثله كان عمر بن عبدالعزيز, وناهيك به من رجل كامل, فقد دونت له صنعة الغناء أيام إمارته على الحجاز سبعة ألحان يذكر فيها سعاد, وكان أحسن خلق الله صوتا, ومن أصواته في سعاد:

ألا يا دين قلبك من سليمى

 

كما قد دين قلبك من سعاد

هما سبتا الفؤاد وأصبتاه

 

ولم يدرك بذلك ما أرادا

قفا نعرف منازل من سليمى

 

دوارس بين حومل أو عرادا

         ويروي المبرد أن معاوية استمع ذات ليلة إلى ما عند يزيد من الغناء فأعجبه. فلما أصبح قال يزيد: من كان ملهيك البارحة? فقال له يزيد: ذاك سائب خاثر. فقال له معاوية: فاخثر له في العطاء. ومن الحلفاء الأمويين من كان له صوت حسن, ويضرب بالعود, ويوقع بالطبل, ويمشي بالدف على مذهب أهل الحجاز, ومنهم من صنع في شعره غناء يزيد بن عبدالملك. ومن ألحان الوليد بن يزيد قوله:

أنا الوليد الإمام مفتخرا

 

أنعم بالي وأتبع الغزلا

أهوى سليمى وهي تصرمني

 

وليس حقا جفاء من وصلا

أسحب بردي إلى منازلها

 

ولا أبالي مقال من عزلا

         صحيح أن العرب أتقنوا الموسيقى والغناء, واتخذوا المجالس لسماعها, إنما كانت هذه المجالس ليس للغناء فحسب, إنما كانت للأدب, يهذب فيها الشعر وينقح, ويصفى ويرقق, بما يتماشى والذوق الموسيقي, وكان للنساء أيضا مجالس يؤمها المغنون والشعراء كقصر (الثريا) الذي كانت تعقد الندوات فيه,ولكنها لم تبلغ مستوى مجالس الخلفاء, ومجالس الولاة وعظماء الدولة, إلا أنها كانت تفوقها في حرية القائلين والمغنين والسامعين, وفي إطلاقهم القول على سجيته دون قيد, مما كان له تأثير كبير في الأدب والفن. ولم تقتصر هذه المجالس على الغناء واللهو والطرب والسماع, وإنما كانت أيضا منتديات للمحاضرات والمساجلات الأدبية, والقصص الجميلة الشائكة, والملح والنوادر الممتعة, والتسابق بين الشعراء والأدباء للشهرة. وهكذا نتج عن هذه المجالس فن بديع في الغناء والطرب والأدب استحدثت فيه نظرية الغناء التي اعتمدت على ستة ضروب هي: الثقيل الأول, والثقيل الثاني, وخفيف الثقيل, والرمل, وخفيف الرمل, والهزج, وميزوا مجرى الصوت فيها بحسب الأصابع مثلا: ثقيل أول بالوسطى, وخفيف الثقيل بالسبابة, وخفيف الرمل بالبنصر.

الخوف من التصريح

         هذا والشعر الغنائي الذي اتسم بكل هذه السمات في عصر صدر الإسلام وعصر بني أمية لم يكن يختلف كثيرا عنه في العصر الجاهلي, إذ كان الشاعر لا يتغزل أو يشبب في غير محبوبته أو خطيبته, وكثيرا ما كان يسميها بغير اسمها صيانة لها من الابتذال, أو خوفا من أن يفتضح أمره فيمنعه أهلها من التزوج بها, وكان غيرهم يقولون الشعر في من يحبون لا خائفين ولا متورعين في أكثر الأحيان عن التصريح بأسمائهن. ومن النساء من كان يسرها أن يشبب بها شاعر مشهور, وإن لم تكن ترجو التزوج به, لأن في مطلق التشبب بها شهرة لها. وكان الأمراء والكبراء يغضبون لنسائهم إذا شبب بهن أحد الشعراء, بل ومن الخلفاء من كان يكبر عليه أن يظهر غضبه على الشاعر إذا شبب ببعض أهله, فينتقم منه بالإهمال كما كان يفعل معاوية وعبدالملك بن مروان, ومنهم من كان لا يستطيع أن يكظم غيظه كالوليد بن عبدالملك الذي كان يتوعد الشعراء, وقد شبب وضاح اليمن بامرأته فقتله.

         هذا وقد اشتهر بالشعر الغزلي في العصر الأموي عمر بن أبي ربيعة الذي اشتهر شعره بالسهولة, وشدة الأسر, وحسن الوصف, وإرساله القصائد قصصا غزلية حتى كان يدون فيها تاريخ قلبه, إنه شعر تلعب فيه المرأة الدور الرئيسي, ويبدو فيه تهافت الشاعر عليها وانشغاله الدائم بها, وافتنانه في التعبير عن تجاربه العاطفية معها, كما كان يصور دقائق الحب في عواطف المرأة التي عشقته, واتخذت الأسباب لاسترضائه, عند انصرافه عنها. ونظرا لانتشار الغناء كان ابن شريح وابن محرز ومعبد, ومالك بن عائشة وغيرهم يغنون في الحب.وعلى هذا الأساس أحال الغناء شعر الحب إلى عملية فنية يشترك فيها الشعراء, والمغنون والمغنيات, واتخذ الشعراء من الحب موضوعا يميلون إلى التركيز فيه مستخدمين الأساليب السهلة, والمعاني الجديدة المستمدة من واقع تجاربهم العاطفية والوجدانية, والألفاظ الشعرية مع السماح للمغنين والمغنيات بتهذيب ألفاظه إلى الحد الذي يطوعه للغناء.

         وخلاصة القول, إن الحياة دون شعر وموسيقى وغناء لا معنى لها عند الكثيرين, على حين أن هذا الشعر يعبر عن خلجات النفس بشكل يفتخر الشاعر والمغني بانتشاره في الميدان الذي يصلح ولا يفسد, ويكرم ويرشد, ويهذب ويحبب, ويقرب ولا يبعد, ويبني ولا يهدم, وحتى يداوي القلب ويبرئ الجسد, ولا يكون كالذي يبتعد عن الموسيقى والغناء بحجة أن ذلك ينافي التعاليم الدينية. وإلا انطبق عليه قول الشاعر:

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى

 

فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا

 

عزيزة فوال بابتي