العابرة

  العابرة
        

تأليف: إيريك هولدر

         صار الأصحاب حالمين عندما أتوا لزيارتك, ودعوتهم إلى الشراب, فتمنوا لو أنهم كانوا في مكانك, أي أن يقوموا بعمل النادل الذي تقوم به في هذا المحل, عندما رأوا الفتيات الشابّات اللائي يكشفن عن سيقانهن الطويلة السمراء, وهم, بالطبع, ليس بمقدورهم أن يضعوا أنفسهم في مكانك, فليس بوسعهم تخيّل أنك لا تقع سوى في غرام النسوة الناضجات الهادئات, خاصة في هذه البلدة, بالخريف, عندما يتسبب المطر في طغيان رائحة الصنوبر بكل الأنحاء, ويهجر الصيادون البحر, لقد كن هناك طيلة هذا الموسم, وكانت أقل حركة تحدث حولهن تصيبهن بالاضطراب, وكان بوسعك أن تقضي ساعة كاملة تراقبهن يقرأن, واضعات معاطفهن على أفخاذهن, وهن يرتشفن شراب الشيكولاتة الساخن, وينفخن بأفواههن بنعومة في الأقداح التي يتصاعد فوقها الدخان, على حين تصخب الريح بين أسلاك الهواتف بالخارج, وتظهر عبر الزجاج شجيرات العنب التي احمرت ثمارها وهي تمتد حتى تلامس الغابة الخضراء.

         أجل, لقد ذهب خيال الأصدقاء لأبعد مما ذهب إليه خيالك, حتى وإن حدث, في بعض الأحيان, في الخامسة صباحاً, أن انسحبت جمهرة المنحلين, تاركة الفتيات الشابّات على دكتهن, يتمنين أن يصطحبهن أحد, فهل دعوتهن? لقد كن يدعين إلى هذه الفيلا أو تلك, وربما كان لدى الواحدة منهن فيما مضى مشروع كبير تسعى إليه, وحقيبة صغيرة, ثم لم يعد لدى أيّ منهن الآن, من زاد المسافر, سوى هذا الزوج من الأخفاف تحمله في يديها بشكل لا مبال, وتلك الساعة الميكانيكية التي أهداها لها شخص ما, وذلك السجاف الذي كان فراء فيما مضى, وهذا الثوب المكشوف الذي يشي بالبراءة في محتواه.

         كن لا يحتملن النوم كثيراً في الصباح, فيرحن يقلبن أغلفة الكتب, ويستندن إلى الحوائط كما لو كن غسيلاً قذراً, ويقلن وهن ينظرن إلى الشمس الباهتة, أو الساطعة, أو الملوّنة بكل ألوان الطيف, كل هذا جميل, ولكن, أليس مضجراً?

         وكن يفردن أجنحتهن عند حلول المساء, مع اقتراب فتح أبواب الملهى, وهو موعد انتهائهن في الوقت نفسه من حصة مكياجهن الطويلة, وكان الليل يجعل خدودهن تتفتّح كالخوخ, حتى أن البعض كان يتحسّر على أن الخريف لم يحن أوانه بعد. ولا أحد يدري إن كن يتمتعن بالتنزه بين الأكواخ المقفرة على الشاطئ الذي لم يعد بعد شاطئاً خاصاً? لكن الملهى الذي يعطين أنفسهن له كان يستحوذ عليهن. ولم يكن أحد ليلحظ اختفاءهن. حتى يتسللن في السيارات المكشوفة, ويتحسّرن بعد ذلك في نهاية الشغل, كسعاة البريد, على أن الطريق القويم ليس سهلاً وقصيراً, وعلى أن أحداً لم يقل لهن عند رحيله إلى اللقاء.

         في ذلك الصباح الباكر, ألقى الجزر بناتالي بالقرب من المرقص, بالحلبة التي وصفها البعض بأنها (ملكية) في تراتبية أماكن الليل, حيث لا يقبل, لأسباب غبية, أن يجد نفسه في مكان أقل من ذلك, جاءت بصحبة كائن قصير غامض مشوّه القامة, لم يكن هو قوادها, فواقع الأمر أن قوادها, كما اتضح ذلك فيما بعد, تركهما بعد أن هددته هي بالصفع.

         لم تكن ذات مستوى رفيع فحسب, وإنما ذات شخصية كذلك, كما لو أنها يجب أن تتوّج ملكة للعابرات, فقد حملت في جواز مرور نهديها وحقويها وعينيها شيئاً إضافياً, شبيهاً بتلك البطاقات التي يضعها البعض في الأوراق المختومة, عند عبورهم حدود بعض جمهوريات الموز, لكي يسرع من الإجراءات الطويلة المطلوبة.

         كانت عيناها, بالأخص, واسعتين, سوداوين, عنيفتي النظرة بعض الشيء, بعد ذلك بقليل, تناولنا طعام الإفطار على الميناء, وطلعت الشمس التي سطعت بحيث يمكن القول أنها نظفت الشقوق, فلم يعد من الممكن رؤية خواصر البيوت ذات الطابع المغاربي, فظلت قممها غير المستوية والناعمة تشكّل معاً سطحاً أصفر شاحباً, كان الولد يدعى, ربما, بوريس, وشرعت هي في تقديمه على أنه أخوها, ثم كفت فجأة عن ذلك, وهزت كتفيها. وفي لحظة ذهابها للنوم ألحت في ألا يصطحبها بوريس. كانت لديهما سيارة ماركة رينو 11 خضراء, عليها أرقام باريسية, وقد تقشر طلاؤها من الأمام, وكان بصندوقها لحاف.

         - سينام بالسيارة, قالت, أنتم تجعلونه محل اهتمامكم, على حين أن طوله بالكاد يبلغ طول المقعد الخلفي.

         عند استيقاظها, قرفصت ناتالي على الطريقة العربية, عارية, ومدت يدها تقلب في الكتب المكدّسة, وبدا أن أحد الكتب قد فاجأها, في حين أنها تعرف الكتب الأخرى.

         عبرت شمس الظهيرة, من خلال النوافذ المفتوحة بشكل موارب, وألمعت البشرة الذهبية لذراعها قبل أن تنسحب وتغيب في الشعر الأسود. وقرأت هي صفحات عدة كيفما اتفق من العمل, وانعكس على وجهها تعبير غريب, أشبه بتعبير وجه إحدى الأمهات أمام أطفالها, وكنت في عمق سريرك الذي تتظاهر فيه بالنوم, تحسّ, كما في الماضي, وأنت تستعيد أنفاسك, بأنك تبدأ الشعور بتلك القرصة الشهيرة للخريف, وأنت تعرف أنها ستختفي ذات يوم, وربما بعد قليل, فتغلق عينيك, وتعض شفتيك.

         واستحالت معرفة, أو فهم, ذلك الذي يربط بوريس بناتالي. فقد كان يمارس مهنة غريبة, هي أن يكون دائماً ظلها. فلم يشتك أبداً من كونه ينام بالسيارة, ولم يكن للتعاسة أو السعادة أثر باد يذكر عليه, فكان يواصل بشكل ملحوظ الفعل الذي ارتبط بالحياة - وهو الأكل والشرب والتمشي - لدرجة تثير الاعتقاد بأنه لن ينتهي أبداً من هذه الأفعال. وربما لم يكن يأتيه نوم بالرينو 11. كانت تسليته الوحيدة, هي الاستلقاء على مرتبة الشاطئ التي ثمنها ثلاثون فرنكاً, وممارسة حل الكلمات المتقاطعة, وهو يرتدي الفانلة مقاس 12 سنة, التي لم يكن يخلعها أبداً, خوفاً من أن يظهر أي رداء آخر تشوّهاته الجسدية, فكان يغرق تماماً في مجلات فورس 1 وفورس 2 وفورس 3, ويسود بشكل لا ينتهي مربعات الأحرف.

         أنت لا تعرف البلاج, والصيف, كان ثمة بعض التحذلق, فيما بيننا نحن الذين نعيش هنا بالشتاء, في ذلك الشعور بتفضيل الخواء من الناس, عندما تتسرّب الطحالب الجافة تحت الأقدام في الريح, وقد جعلتك ناتالي تكتشف سحر راحة الرأس, والمنضدة المنخفضة البيضاء التي يضع عليها البعض كئوس الكوكتيل المخفوق, بينما تضج المظلات التي تتباهى بإعلانات الليمونادة, وكانت هي تقرب فيما بين الغطاءين المخمليين المحززين بالأزرق, كما لو أنه من غير المعقول أن تكون هناك أسرّة منفصلة.

         لقد علمتك ناتالي هكذا معنى الإجازة, إنها يد تزداد سطوة كل يوم, وتزداد تحديداً, وهي موضوعة على كتفيك, هكذا كانت تقول, بغير أن تكذب أبداً, هذه المرة, صرت متأكداً, من أن تلك اليد هي يدها.

         ولكن عندما كان اللون البنفسجي يغمر الأكواخ, وتبدأ الفيللات في الالتماع, كانت تظهر كأنها خارجة من الحمام, ويكون بوريس منتظراً على مقود السيارة في صبر.

          (إنهم هنا), يقول الزملاء, مندهشين من حدوث ذلك, ففي كل صباح, كان الجزر يتباعد بغير حضورهم, وكانت رؤيتهم هنا, هذه الفتاة الجميلة وهذا القزم, على حافة الحلبة, بينما البعض ينصب المناضد, تصيب بالراحة, وتمثل نوعاً من التشفّي, فيالبؤسنا نحن الندلاء.

         كان أحدنا يقدم زجاجة بيبسي لبوريس - الذي كانت له طريقة لا تبارى في أن يظل يشرب فيها حتى الفجر, وكان آخر يجلس بالقرب منها, مشعلاً سيجارة يدخنها بغير أن يستتر. بينما تكشف الأضواء الخشنة للمبات, في ميدان الأعمدة, قذارة المكان, وكان هذا يمثل بعض النشاز, مما يدعو للقول بأن صبية المقهى كانوا يشكّلون عائلة ليست سيئة الخلق, ومهذبة.

         كنت تضع أوراق النقد التي يدسّها البعض في جيبك, ثمناً للوجبات, بحالتها على طاولة المطبخ, وتقوم هي أو لا تقوم بشراء الطلبات, وتدفع أو لا تدفع, وهي تحب السلاطة المليئة بالفلفل الأخضر, والطماطم, والجبن, والزيتون, والألوان, وكان بوريس يبدو عليه أنه لا يأكل شيئاً, وتكتشف, بما يدفع التسرية إلى نفسك, أنه أكل كل شيء.

         في بداية شهر سبتمبر, عادت الحرارة تدب بعض الشيء على طرقات الشمال, وكان هذا موعد مجيء الكارافانات, والجو المائل للبرودة, فكنا نغلق في الساعة الخامسة.

         كانت تضع صداراً صوفياً واسعاً جداً عليها, بغير أن تهتم بمظهرها, بحيث يمكنك تصوّرها مغامرة لا تصدّق كونها مازالت على قيد الحياة بعد غرق السفينة, وهي في ثياب الصيادين, أو فتاة صغيرة تعقص شعرها وتلفّه داخل قبعة بحرية لتقوم بدور الكابتن بلود.

         لقد عادت بالخريف, عندما بدأت التراكتورات تحميل قطوف العنب الأولى إلى التعاونيات, وقد اصطف قاطفو العنب الذين لم يحصلوا بعد على أماكن إيواء على قارعة الطريق. ومع انتهائك من العمل بشكل مبكر, راح الرفاق يتحدثون إليك كما تحدّثوا من شهرين, وعندما يحل نوفمبر, لن تكون هناك سوى بضع مقاه قليلة مفتوحة بميدان السوق, ويكون عليها أن ترفع ياقة بلوزتها بالشرفة, وعلى بوريس أن يكون ماهراً في لعبة الإسكرابل.

         لم ينصرم سبتمبر بعد, كان اليوم هو العاشر أو الحادي عشر منه, وكان يوم سبت, قبل ذلك اليوم, مارس الصيف المتأخر رحيلاً زائفاً, وكنت طوال اليوم كسولاً خاملاً, وحل بالطرقات جو غريب, وتراءى المصيّفون من جديد, فأعادت المحلات التي تحيا على الشمس فتح أبوابها, هكذا انتشرت بعض الهوام التي يوقظها اليوم المشمس, وخلعت ناتالي إزارها الذي كان يغطي بطنها الجميل, كانت متعة لك أن تراها خلسة, مع أنه لم يكن هناك شيء يمنعك من اقتحامها بالنظر إلا حرصك على راحة بالها, كانت السيارة الرينو 11 قابعة في مكانها, وفي المساء, كان الجو بعد حاراً.

         وازدحمت الليلة, شأن عطلة نهاية أسبوع في منتصف أغسطس, واكتظ البار, حيث راح الصف الأول يفسح مكاناً للثاني, ثم للثالث, بالشكل الذي يتيح لحظة للقادم إليه أن يعيد ملء كأسه.

         وعند انصراف آخر زبون, بحثنا عبثاً عن بوريس وناتالي, وبدا لنا المكان أكثر قذارة من المعتاد, كانت هناك كئوس فوق المقاعد, وكانت المناضد تلتصق باسفنجة التنظيف, وقد أفرغ أحدهم ما في جوفه قرب باب الخروج.

         ورحنا نحدث بعضنا قليلاً, ونحن منهمكون أكثر من أي يوم سبق بالتنظيف, كان يجب, لا ندري لماذا, أن تسترد الحلبة بهاءها, وأن تستعيد جوانبها وممراتها رونقها, وأن يتحوّل البار إلى مكان ارستقراطي, ولم تكن تلك المسافرة قد قالت لنا, حتى, إلى اللقاء.

 

محمد سيف   




غلاف الكتاب