قراءة نقدية في كتاب: صمت البيان

تأليف: رجاء بن سلامة
تحليل خطاب الصمت في ضوء المناهج الجديدة أمر نادر وجديد. وهذا المقال يكشف لنا عن هذا الجانب.

         يبدو أن مؤلفة هذه الدراسة القيّمة شغوفة بالموضوعات الجديدة والنادرة, وأبتدر قائلاً: تتمثل نقطة القوة في هذا البحث الذي نقدّم أبرز نتائجه في الجمع بين الجوانب المضيئة في النصّ التراثي المؤسس لصمت البيان وبين أحدث ما وصل إليه التحليل الفلسفي المعاصر, فهو يبدأ بالنص القرآني, وآراء علماء البلاغة العرب, والمتصوّفة من أمثال الجاحظ, وعبدالقاهر الجرجاني, وابن وهب الكاتب, وابن أبي الدنيا, والقشيري في رسالته ليصل إلى ما بيّنه الفيلسوف الفرنسي المعاصر جاك دريدا من خوف دفين في الثقافة الغربية من الكتابة باعتبارها نافية للكلام الحيّ, قاتلة للأدب, وهو وضع تختلف عنه الثقافة العربية, فقد نزلت الآية الأولى آمرة بالقراءة: سورة العلق، الآية: 1 اقرأ باسم ربك الذي خلق, واللوح المحفوظ هو لوح مكتوب بمعنى من معاني الكتابة, فبعد انقطاع الوحي, وانتهاء عصر النبوّة (فلا بدّ أن تتكرر القراءة , قراءة كتاب الله المسطور, وكتابه الحي المنصوب), فإذا كان الكون كله كتاباً للإنسان يقرأ فيه, فلابد أن يكتب كذلك بما يفعل ويبدع, فالفعل النافع, والإبداع الخلاّق هما المبرّران لرسالة وجود الإنسان: الإعمار, وتحقيق التقدم, ولكن عندما يتحوّل الكلام إلى ضرب من ضروب (التبرّج), ويبلغ حدّ الزيف لاستعباد الناس, واستغلال ضعف ملكة التمييز والإدراك كي يساقوا مثل قطيع الغنم, مستعملاً أحدث أساليب التبليغ, كما هو الشأن في الخطاب الرسمي العربي في كثير من الحالات, فيتحوّل الصمت عندئذ إلى فضيلة, بل يصبح أسلوباً من أساليب المقاومة حينما تستحيل الأساليب الأخرى.

         إن لأخلاقية الصمت في الثقافة العربية الإسلامية علاقة متينة بالعامل الديني, (العبادة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت), ولكن صمت العبّاد والعارفين يتحوّل في حالات اجتماعية معينة إلى صمت باعث على الخوف والقلق لأنه عدم, وكل حالة تبلغ درجة العدمية تنذر بالويل والثبور, فيغدو الصمت عندئذ نطقاً, ويتحوّل إلى بديل عن البيان, بيان الحقيقة المناهضة, والشعور المقموع.

         وتشير الكاتبة إلى أن للصمت منزلة اجتماعية في المجتمع العربي الإسلامي, فالمرأة لا تتكلم أمام الرجال, وعندما بلغ الجمود والتحجّر بالأمس, والتطرّف المسيّس اليوم درجته القصوى عدّ صوتها عورة, متنكّرين لتقاليد بيان المرأة العربية عندما ارتفع صوتها شعراً, أو غناء, أو رواية للحديث النبوي, أو احتجاجاً على الحيف والظلم.

         وللصمت كذلك بعد سياسي, فلابد أن يصمت الناس عندما يتكلم الزعيم, والقائد الملهم, وقديماً أمر العلماء طبقة الدهماء بالصمت, ومدحوه عندهم, وتجاوزت مصيبة الدهماء اليوم الصمت ليتحوّل قسراً إلى تصفيق وهتاف.

         يضمّ الكتاب بين دفتيه فصولاً متنوعة كتبت في فترات مختلفة, ولكن يجمع بينها الحديث عن صمت الناطق ونطق الصامت, وهي فصول مقدمات, ولكنها المقدمات التي تغني عن بقية الكتاب, وقد لمحنا إلى أن أهمية هذه الفصول تكمن في الغوص على دور النصوص المؤسسة في مظانّها المتنوعة, واستنطاقها حسب المناهج الحديثة دون تعسّف أو إسقاط. إن ولع الكاتبة بالدراسات الغربية المعاصرة لم يحجب عنها منهجياً ضرورة مراعاة التربية التي نبتت فيها النصوص وأينعت: (إننا ولا شك نقارب هذه النصوص مثقلين بواجب البحث عن معقوليتها, ولكن السرور بالتقنيات الحديثة التي تمكّن من أداء هذا الواجب قد يحجب عنا أمرين أبرزناهما في هذا البحث هما العالم الذي تنغرس فيه النصوص والذوات المضطربة الممتحنة التي تختلج فيها, فهذا الولوع بالمنهج وبالشكل نوع من النرجسية العلمية, وما قلناه على الشاعر ينطبق علينا  (إذا سلمنا بوجود تشاكل بين الخطاب وما وراء الخطاب)  فعلينا أن نبحث عن مجال تتحقق فيه القراءة الحيّة دون أن نتخذ النصوص مرآة ودون أن نعتبرها كتاباً كثيفاً و (موضوعاً) منفصلاً.

         فعلى قدر ولوعنا بالنجاعة يجب أن يكون بحثاً عن الحقيقة وعن القوى الدلالية الفاعلة فينا, وفيما نقرأ وإلا ما وجدنا في اليد بعد التنقيب والتفكيك سوى قبضة من الرماد المتكلّس قد بلغ جموح النرجسية, والتمسك بقشور الحداثة في صفوف بعض الفئات الاجتماعية في المجتمع العربي الإسلامي إلى المطالبة بقطيعة مع نصوص الماضي كي يتحرّر الإنسان العربي من الشدّ إلى الوراء فلم تجد في يدها بعد أربعة عقود من الزمن سوى قبضة من الرماد المتكلّس, بل تحوّل بعض رموزها إلى أبواق دعاية لأكثر الأجهزة العربية سوءاً وتخلّفاً. إن التنقيب على الجوانب المضيئة في النصوص المؤسسة, والتعرّف في ضوء المناهج الحديثة إلى ظروفها التاريخية الموضوعية, وإلى المعوّقات التي حالت يومئذ دون تحقيق الأهداف خطوة ضرورية نحو التجاوز والبناء الجديد, الكاتبة واعية بهذه الرسالة في هذه الدراسة, وفي أبحاثها الأخرى التي يميّزها موقف نقدي واقعي.

الحياء المعرفي

         المقصود بصمت البيان هو  السلبية الأساسية التي تسم النصوص اللغوية المنجزة فتجعلها دائماً وأبداً تبيّن, ولا تبين ,تقول ولا تقول إن للقراءة الجديدة, وما تفرضه من مقاربات هي بدورها جديدة أخلاقيات يمثّل الحياء المعرفي أسّها الصلب, كما تفصح عن ذلك الكاتبة في عبارة جميلة, ووعي عميق فتتحدث عن ضرورة التحلي بنوع من الحياء المعرفي الذي يجعل معرفتنا معرفة بحدود المعرفة, وعلمنا بالنصوص وقوفاً على بعض أسرارها لا هتكاً لجميع حجبها, فالحياء المعرفي يشبه خجل الفتاة الجميلة الواعية, إذ وعيها يجعلها تدرك أن الصامت في جمالها أشدّ جذباً, وأبلغ دلالة من الناطق فيه, فهتك جميع الحجب يفقد النصوص بيانها الصامت, كما يفقد جمال المرأة سرّه الساحر.

         وتتحدث الكاتبة في فصل (مقدمات لدراسة الكتمان والإظهار) عن ضرورة انكشاف السرّ بحال من الأحوال لكي يتأسس باعتباره سرّاً, فهو يتغذى بنقيضه الكشف, ذلك أن السر إذا لم ينكشف يوماً ما دخل دائرة العدم, وهو أمر غير سائغ أن يكون الموجود معدوماً, كما يقول أبو سليمان المنطقي (ولو بقي (يعني السرّ) مكتوماً خافياً أبداً لكان والمعدوم سواء, وهذا غير سائغ أن يكون الموجود معدوماً), فالسر يحمل في ذاته, وفي تعريفه البوح والكشف, فلو اتعظ الحكام بنظرية الخفاء والظهور في عالم العشاق لأمكنهم اتقاء هفوات قاتلة, فهم يضعون خططاً سريّة تصل إلى حد تصفيات جسدية لمعارضي سلطتهم, أو لأقليات عرقية بأسرها معتقدين أنها ستبقى سريّة إلى الأبد, وأن يتحوّل موجود العين, وثابت الذات إلى شيء معدوم, فليس غريباً أن يتحوّل زعماء كبار إلى أقزام صغار النفوس عندما ينكشف السرّ, وتفوح الروائح الكريهة, كما أماطت اللثام عن ذلك في الأعوام الأخيرة وثائق رسمية سريّة سمح للباحثين بالاطلاع عليها.

لعبة الجسد

         إننا نميل إلى الاعتقاد بأن التطوّر الاقتصادي الاجتماعي للمجتمع العربي الإسلامي, وما أفرزه من حاجات جديدة منها حاجته إلى استيراد الرقيق كقوّة عاملة, وما ارتبط بها من كثرة الجواري في المجتمع المديني قد أعطى للمرأة في مجتمع طبقة العامة حريّة واسعة الحدود سمحت بالانصهار بين إيروسيّة القول الشعري, وإيروسيّة لعبة الجسد بصفة مطلقة, أما إذا مسّت إيروسيّة القول الشعري جسد المرأة في مجتمع الخاصة حيث تمارس لعبة الجسد في سريّة كاملة لا يسمح للغزل البوحي بهتكها, وإزالة الحجب عنها, فإن الأمر يتعقّد, ويفضي في بعض الحالات إلى حتف الهاتكين, وتطلّ علينا الأخلاق الدينية برأسها لتضع حدّاً للفوضى المنجرّة عن هتك الحجب, وتجاوز الخطوط الحمراء.

         إن سقوط الأقنعة عن الوجوه البشعة المتربّصة بقيم الخير والجمال أمر إيجابي ينبغي أن تناضل من أجله قوى الحرّية والحق, أما سقوط جميع الأستار عن جسد المرأة وانكشاف عناصر الجذب والنفرة معاً, فإنه يفضي إلى فقدان اللغة بيان صمتها, وصمت بيانها, ويحلّ محلها عري الصورة وتخديرها, فلا غرو - إذن - أن يناصب أصحاب الأقنعة الزائفة بيان التعبير وحريّته العداء.

صوفية العشق

         يعتبر الفصل عن (رياضة الصمت أو صوفية العشق) قراءة نقدية جديدة لكتاب (المصون في سرّ الهوى المكنون) لإبراهيم الحصري, ويقدم هذا النص ضرباً خاصاً من ضروب العشق في التراث العربي الإسلامي يكون الاتحاد بين العاشق والمعشوق عبر رياضة الصمت, ورياضة الذكر الصامت هو الغاية المثلى, فتفقد اللغة معناها في هذه الحال:

ومن بلغت منه المحبة جهدها

 

رأى نطقه ضرباً من الهذيان

         وهكذا يتحوّل العشق الإنساني المرتبط في عصر الشعراء المحدثين بوصف الجسد, والسعي إلى أن ينقلب إلى حقيقة إيروسية معيشة إلى عشق صوفي تنعدم فيه اللغة, ويفسح فيه المجال للكشف النوراني الصامت.

         إن تنظير القدماء لهذا الصنف من العشق مثلما فعل إبراهيم الحصري في كتابه المصون, ليس منعزلاً فيما نرى عن تفشي ظاهرة التصوّف ابتداء من القرن الخامس الهجري, (لقد كتب الكثير عن دخول العشق في التصوّف, فكان هذا الكتاب (تعني كتاب الحصري), في الإمكانية الأخرى, أي دخول التصوّف في العشق).

         أما (غراب البين) الذي أفردته الكاتبة بفصل ثري, فله تاريخ في أخبار العرب قبل الإسلام, وفي القصص الديني, وفي الشعر العربي, فارتبط ذكره في القرآن الكريم بالموت والدفن, فقد أرسله الله ليعلّم قابيل قاتل أخيه الدفن,  سورة المائدة، الآية: 31 فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه , ورغم رمزه للفرقة والموت والسواد, فقد (يؤنسن) فيتحوّل إلى معلم للإنسان في عصر الهبوط, أو يتحوّل إلى واعظ خطيب يلبس السواد حداداً على نفسه, وعلى الإنسان وعلى المجتمع الذي يصبح فيه الواعظ الخطيب نصلاً في أيدي سلطة غاشمة, فقد أنطق المقدسي الغراب في كتابه (كشف الأسرار):

أنوح على ذهاب العمر مني

 

وحقّ أن أنوح وأن أنادي

وهأنا كالخطيب وليس بدعا

 

على الخطباء أثواب السواد

         وقبل أن يؤنسن الشعراء العرب الغراب أنسنوا الحمامة فهي تنوح وتنتحب, وتحنّ, ويصادف السامع لها هوى في قلبه فيطرب لها, يقول ابن المعتزّ:

وصوت حمامة سعت بليل

 

وقد حنّت إلى إلف بعيد

فمازلنا نقول لها أعيدي

 

وللساقي: ألا هل من مزيد

         وهكذا يزول التضاد بين الحمامة والغراب في كثير من صور الشعر العربي.

         إن الحديث الموضوعي عن المرأة الإنسان, المرأة المبدعة يقتضي اجتناب الماقبليات البيولوجية التي هيمنت على الفكر قديمه وحديثه, وجعلت المرأة وعاء سلبياً, والرجل فاعلاً إيجابياً, المرأة العربية المبدعة تعاني من سلطة الرجل وسلطة المجتمع, وتسعى الكاتبة جاهدة أن تجعل سلطة الرجل على المرأة نسبية, واختلافها عن الرجل باهتاً,ولكن المشكلة أن قواعد اللعبة في المجتمع العربي الإسلامي شديدة التعقيد بالأمس واليوم, وإذا أصبحت المرأة طرفاً, فإنها تدخل أساساً من البوابة البيولوجية فتصبح لاعباً تابعاً, وتفقد سلطتها كإنسان مبدع, ورائد تقدّم المجتمع.

 

الحبيب الجنحاني