ستفعلون

   صاحت ساعة المنبه بعلو صوتها (استيقظوا أيها النيام) وكررت صياحها مرات ومرات حتى نجحت أم محمد في الوصول إلى مكانها الرفيع فتخرس صوتها لكن النيام استيقظوا فعلا, ألقوا باللحاف جانبا, تحسس محمد طريقه إلى الحمام ومارس أبو محمد تمارينه الرياضية المتواضعة ريثما يحين دوره. قذفت أم محمد بطبق الفول وشرائح الخيار أمام زوجها وابنها ورغم السحنة المقطبة على وجه الرجل الكبير والآخر الصغير بررت أم محمد عملها (يجب ألا نلقي بباقي الفول الذي صنع بالأمس وستأكلونه) أكلوا جميعا وأخذ محمد اللحسة الأخيرة من الطبق بسبابته الصغيرة, أدخلها في فمه بالكامل وأخرجها نظيفة.

         تحسس أبومحمد محفظته الضئيلة وأخرج ورقة مهترئه نفضها مرتين قبل أن يقدمها لزوجته (اشتر لنا لحما للغداء).. (ولكن).. حاولت أن تقول شيئا.

         (ستشترين لنا كيلو من اللحم الضاني وستطبخينه مع الخضار اليوم) (سأفعل), قالت ثم أدخلت كتاب الحساب, وكتاب القراءة والمصحف الشريف في حقيبة محمد وطلبت منه حملها, تذمر الولد من ثقل الحقيبة وأن يده أضعف من القدرة على حملها, (ستحملها) قال الأب والأم بصوت واحد فما ردد الولد تذمره ثانية, طأطأ رأسه ثم رفعه مرة واحدة (أمرنا مدرس الرياضة بشراء ملابس رياضية جديدة بيضاء وحذاء جديد يتماشى مع بياض البذلة الجديدة) وقبل أن يفتح الوالدان فمهما بكلمة (ستشترون لي بذلة رياضة جديدة مع حذاء وإلا لن أذهب إلى المدرسة فأسمع تقريع المدرس).

         طأطأ الاثنان رأسيهما وشوش أبومحمد زوجته فأعادت له الورقة المهترئة وأخرى أكثر اهتراء, أمسك بيد ولده وخرج.

         استلقت (أم محمد) على الكرسي الكبير, تقلبت, بحلقت في السقف نصف ساعة, اعتدلت, تنهدت, تلفتت, وقع نظرها على سيجارة أطفأها أبو محمد في منتصفها وأخرى باق فيها ربع, أشعلت النصفية, امتصت هواءها بتلذذ, ثم الربعية شفطتها بحسرة, فتحت جهاز التلفزيون, خرجت على الشاشة فتاة كل يوم وليلة تراقص خصلات شعرها الطويل وتشوش الشاشة: إنه شامبو (حرير) (اف) قالت أم محمد, قفزت الفتاة من الشاشة ووقفت أمام أم محمد واخشن صوتها وهي تقول (ستشترين شامبو حرير وستقتنعين أنه يحول شعرك المجعد إلى حرير وسأبقى أمامك دوما حتى تفعلين).

         (حاضر) قالت أم محمد وتسمرت أمام الشاشة حتى مرت أمامها فتيات ممسكات بعلب صابون وشيكولاتة وشاي وقهوة وبطاطس محمرة ولحم مجمد ورموش صناعية وأحمر شفاه وزيتون مستورد وسمك مدخن جاهز للأكل.

         تذكرت أم محمد الأكل فأسرعت إلى المطبخ, أخرجت باذنجانة منتفخة وسكينا طويلة, وحاولت غرس النصل في الباذنجانة, فصرخت الباذنجانة (لقد زرعت باذنجانة دون إرادتي وشربت سمادا محملا بمواد كيميائية ذات تأثير سمي لانتفخ دون إرادتي وقطفت وأنا بعد طفلة ولم أعترض وعرضت للبيع بسعر أكبر من مؤهلاتي وجئت لأسكن ثلاجة قديمة مع أناس ليسوا من عشيرتي وأرفض الآن أن أقطع بسكين غير حادة) ابتسمت أم محمد  وأمسكت نصل السكين وبقوة انغرس النصل في بطن الباذنجانة عدة مرات فصارت شرائح, غمرتها أم محمد في زيت لم يغل بعد, قالت الباذنجانة (لن أستوي) ضحك الزيت الذي بدأ في الغليان (ستستوين سوداء الوجهين في ثوان) صارت الباذنجانة سوداء من جميع الوجوه.

         جلس أبومحمد إلى كرسيه الخشبي وتناول أول ملف من الكومة الكبيرة فوق مكتبه, تعجب من ارتفاع الملفات أمامه فسأل زميله (هل هذا كله عملي) رد الآخر ببرود (بل عملي وعملك ولكنك ستقوم به وحدك يا أبومحمد) وقبل أن يرد أدار الزميل قرص الهاتف وهو يوجه حديثه لأبو محمد (سأكلم زوجتي وسأقول لها إن زميلا لنا قد توفي والده وسنذهب لأداء العزاء ولذا سوف أتأخر عن العودة وسأستشهد بك لتحدثها وتؤكد ما قلت).

         (سأكذب) (ستكذب يا أبو محمد) فكذب أبومحمد, خطوات تلتقطها أذن الزميل أولا, فيخطف كومة الملفات ليضعها أمام مكتبه ويظل أبومحمد فقير المكتب, نظرات المدير دارت ثم استقرت على الفقير, فأسقط أمامه ملفا ضخما (هذه ميزانية العام الماضي, تعيد حساباتها الليلة وتأتيني بتقرير مفصل عن مواضع التبذير فيها غدا).

         (ولكن سيدي, أنا لم أقم بهذا العمل الآن لأني ضعيف في الحساب) (ستقوم به من الآن يا سيد وستنتهي منه الليلة, مفهوم) هز السيد رأسه وغاص فى أرقامه.

         اختطف طارق القلم الرصاص من يد محمد وهو يصر على أنه قلمه, فلم ينطق محمد وعاد يستمع إلى المدرس (يتكون العالم من خمس قارات).

         ـ ما معنى قارة يا أستاذ, أحدهم تجرأ فنطق.

         ـ ستحفظون ما أمليه عليكم دون أسئلة سخيفة, وعاد يكتب على السبورة أسماء القارات الخمس المكونة للعالم والقارات الخمسين التي غمرتها مياه النسيان.

         بعد الجغرافيا دخل ضابط المدرسة (في الفسحة يا أولاد ستقومون بتنظيف فناء مدرستكم الجميلة لأن الوزارة استغنت عن العمالة الزائدة وانتم عماد الوطن في كل المجالات).

         هز بعض الأولاد رءوسهم إعلانا لعدم الموافقة, أخرج الضابط الوسيم عصاه (ستكنسون الفناء وستعلقون الصور على الجدران وستغسلون المراحيض وزجاج النوافذ) هزّ الجميع رءوسهم موافقة, فخرج مبتسما.

         هزوا رءوسهم موافقة ولم يسأل أحدهم عن معنى (مأمول).

         توقف سائق أتوبيس المدرسة أول الشارع وقال لمحمد (ستنزل هنا لأنني لا أريد أن أدخل هذا الشارع الضيق) ترجل الولد وأكمل مشواره سيرا, دخل محمد وأبومحمد البيت, خلعا الأحذية أسقط محمد حقيبته الثقيلة ليتناول كيس البلاستيك المتواضع والذي يحوي ملابسه الرياضية الجديدة, أسقط أبو محمد الملف الضخم من يديه وتحسس بطنه (ماذا سنأكل اليوم) جاءت أم محمد بالباذنجان المقلي, والفجل المخلل والجبن القديم وأغصان الجرجير وبعض الأرغفة, قفز محمد على كرسيه (هيه, سنأكل).

         جرس شديد اللهجة على الباب يرن, قفزوا من على الطاولة, تجمهروا حول الباب وفتحوا ببطء ففتح بقوة شرطي مقطب الجبين (مقبوض عليكم جميعا).

         فتحوا أفواههم (لماذا) (لقد كذب أبومحمد على الهاتف وتخلى محمد عن حقه في القلم الرصاص وقطعت أم محمد الباذنجان بسكين غير حادة, سأعتقلكم حتى تعترفوا, وستعترفون) أمام الشرطي في مخفره جيء (بأبومحمد) وأم محمد ومحمد والباذنجان المقلي.

         (والآن يا أوغاد ستعترفون).

         (بماذا سيدي) الباذنجانة قالت:

         (بما كان من السيدة الخمسينية وفتاة الإعلان والزيت البارد والسكين غير الحادة وطارق ومدرس الجغرافيا والضابط ومدرس اللغة العربية والمدير والزميل وآخرين, كل الآخرين الذين هم أيضا سيعترفون..).

         هزوا أكتافهم (نعترف).

         النافذة المفتوحة أدخلت عطرا نسائيا مفخخا وصورة شقراء ذات عينين ملونتين وشفة مزمومة, نظرت للشرطي ابتسمت ثم مضت.

 

هدى النعيمي