الألم

  الألم
        

         فتحت لي الباب بابتسامة عريضة, كانت بيضاء, لامعة ونظيفة, تلم شعرها إلى الخلف, متكورا في كعكة كبيرة أعلى عنقها, تحركت إلى الداخل في خطوات سريعة, وتبعتها, ابنتي تمسك بيدي.

         قلت: لم أتأخر.

         راحت تكمل بعض الرتوش, تنظف الشقة, دون أن تلتفت إلي!!

         ـ عطلتك?

         ـ أبدا.. كنت في انتظارك.

         كانت تتحرك أمامي, وقد أعطت ظهرها لي, وأدركت أنها لم تصافح ابنتي, التي راحت أناملها الصغيرة المبللة بالعرق, تعبث بكفي.

         فكرت في أنها أطالت في الوقوف والحركة, دون أن تتفحصني ولو بنظرة مختلسة في لقائنا الأول هذا! جاءت رضوى من الداخل, وصافحتني ثم قبلت ابنتي باعتياد.

         همست إليها: يبدو أنني جئت في وقت غير مناسب.

         ـ أبدا, إنها شغوفة بالتعرف عليك.

         وتمنيت أن تلتفت حتى أراها جيدا, ولكنها ظلت في ركن بعيد تفعل شيئا ما.

         قالت رضوى: هل أحضرت الصوف?

         ـ لا, لم أكن أعلم أنك تحتاجين إليه اليوم.

         ـ  لا يهم, لم يبق سوى أكمام المعطف.

         تحركت إلى الداخل, وعادت بأكواب من المرطبات, وضعتها ثم وقفت كما كانت!! وفكرت أن هذا هو أول شيء يخص ابنتي, فراحت تشربه وهي تنظر ناحية حذائها وجاء صبي في العاشرة, وجلس أمامنا, وراح يختلس النظرات إلى طفلتي دون كلمة.

         ـ ماما: هل ألعب معه?

         انتظرت أن تلتفت أمه, وتحثه على اللعب ولكنها لم تفعل!!

         همست لرضوى: ألم تكن هي نفسها التي حدثتني في التليفون?

         ـ طبعا, هي نفسها.

         ـ يبدو لي..!!

         حاولت أن أجد الكلمات المناسبة, لأوضح شيئا ما, لكنني صمت, وأنا أراقب الصبي الذي جلس في غرفة بعيدة, يشير إلى ابنتي خلسة أن تذهب إليه.

         شعرت بالضيق يتسلل إلي, وكان الجو خانقا والنوافذ كلها مغلقة, وأشفقت على ابنتي الغارقة في عرقها.

         ـ سأنصرف.

         قالت رضوى: كيف هذا, ستنهي ما بيدها وتنضم إلينا, عاد الصبي إلى إشارته الصامتة إلى ابنتي, وسط محاولاتي في تذكر أي معلومات عن صاحبة الحكاية.

         همست رضوى: أتنامين هنا?

         ـ نعم, منذ أيام.. وهي أيضا تظل عندي مع طفلها أياما طويلة, ألم تحدثك من شقتي أكثر من مرة?

         فكرت أنني تسرعت بالمجيء, وكل منا لا يعرف الآخر, مجرد بضع كلمات في التليفون.

         قلت لابنتي وأنا أدفعها بنفاد صبر: اذهبي إليه.

         وخيل إلي أنها التفتت قليلا لتنظر في أثرها, وهي تهرول إلى حجرته.

         ونادتني رضوى لنجلس في الشرفة, تبعتها وأنا متلهفة إلى الهواء, كانت الشرفة مظلمة وضيقة, ولكنها تكفي للتنفس, ألقيت بجسدي فوق أول مقعد, أدركت أن الشرفة مثلثة بصورة مقبضة, وكانت البناية تتوسط بنايتين متشابهتين, لهما نفس الشرفات والنوافذ, وكان الشارع الممتد أفقيا, يرسل إلينا بعضا من ضوء خاطف مربك, ومصباح على أقصى اليمين مغبر يرتعش من آن إلى آخر. سمعت صوت ابنتي يأتي من نافذة مجاورة مغلقة, وهي تضحك, وخطوات تتحرك حولها, جاءت صاحبة الشقة, وجلست على يميني, وسمعت أنفاسها في الظلام, وسط صمتنا نحن الثلاثة.

         قالت رضوى: نلعب الآن.

         قلت: نعم, ولكني لا أسمع صوته.

         صمتت للحظة قصيرة ثم قالت: هو هادئ بطبعه.

         ـ أيمكن أن أدخن?

         ـ  طبعا, رضوى تدخن هي أيضا.

         أفكر أن نبرات صوتها اختلفت عما كانت عليه في التليفون, رحت أشعل سيجارتي, ورأيتها في الضوء المرتعش لعود الثقاب تحدق إليّ فيما يشبه الكراهية!! أعطيت سيجارة لرضوى, وأشعلتها لها ثم قلت: أتأخذين واحدة أنت أيضا?

         ـ  لا أدخن, جهزي العشاء لصديقتك يا رضوى.

         ـ لا سوف أمضي سريعا.

         ـ لم أجلس معك بما يكفي, أظن أن الهواء أفضل هنا من الداخل.

         ـ نعم وإن كان الظلام!!

         ـ ألا تحبين الظلام?

         ـ أحبه أحيانا.

         وشعرت بارتباك هائل من كل ما يحدث, والعيون التي لم تتصافح إلى الآن.

         ـ تصنعين معطفا جديدا كما أخبرتني رضوى.

         ـ نعم.

         ـ هل تفضلين المعاطف المصنوعة من التريكو?

         ـ لا, مجرد صدفة.

         ـ رضوى بارعة جدا في هذه الحرفة.

         ـ أجل, وأنت هل تحبين المعاطف التريكو?

         أفلتت منها ضحكة, متقطعة عصبية, ثم قالت: أنا لا أحب التريكو على الإطلاق وصمتنا من جديد, وترددت صيحات ابنتي, وسط حشرجات الصبي, الذي كان يجاهد ـ لأمر ما ـ في أن يخفض من صوته.

         قالت المضيفة: مبسوطين.

         وضحكت رضوى ثم توقفت فجأة عن الضحك, كأن لا شيء يخصها! وأطل من شرفة على يميننا في البناية المجاورة شبح رجل عار تماما, راح يتملل في وقفته, وسط الجو الخانق, وظل لامرأة عارية يتأرجح يمينا ويسارا ثم صبي مغطى نصفه الأسفل بشيء ما قلت: يبدو أن هؤلاء الناس عرايا.

         قالت رضوى: هؤلاء اليوغسلاف, دائما عرايا أيام الصيف.

         ـ يوغسلاف!!

         ـ نعم البنايتان لهم.

         رحت أفكر في إلحاح المضيفة الذي كان شديدا, لرؤيتي, ثم جثتها الملقاة بجواري دون أي ترحيب. وتعالت صيحات ابنتي, والصبي خلفها يصرخ في دفقات متوالية كأنه في الغابة. قفزت صاحبة البيت من فوق المقعد, وهرولت إلى الداخل, ثم سكتت الأصوات فجأة!! بعدها عادت لاهثة وجلست من جديد. قالت إن ابنتي تصعد فوق المقاعد وتقفز من عليها, وإنها نصحتها بألعاب أخرى أكثر هدوءا.

         هي حمقاء بما يكفي, سآخذها وأمضى.

         ـ لا, أرجوك.

         ورأيت عينيها في اتجاه الشارع البعيد, ورحت أتسلى بمراقبة الأشباح العارية تحت الظلام وكان يخرج رجل في شرفة ما, فيتبعه رجل آخر, ثم امرأة أو رجل ثالث, يتململون في وقفتهم قليلا, ثم يمضون إلى الداخل بثقل.ورضوى تحكي عن سوق التريكو, وكيف أنها أحبتني في وقت قصير, ولم أعد بالنسبة إليها مجرد (زبونة) وسط قفشات حاولت بها أن يتسرب إلينا بعض المرح, وأخذت السيدة صاحبه البيت تضحك بعصبية أرهقتني, وعادت ابنتي إلى صخبها مع الصبي مما زاد من ارتباكي.

         فجأة هرولت صاحبه البيت من جديد إلى الداخل, ثم سمعت صوت بكاء ابنتي, أعقبه نشيج متقطع, فأسرعت إليها, وراحت ترتعش في صدري والصبي مبهوتا يحدق وراحت ناحية أمه التي راحت تكرر أنها لم تفعل لها أي شيء, وأنها حذرتها فقط من صعودها فوق المقاعد وهي تنظر عند حذائي طويلا ثم اختفت في الشرفة!!

         همست لي ابنتي وسط نشيجها أن هذه السيدة قد صفعتها فوق وجهها! عدت إلى الشرفة وأنا لا أدري ماذا علي أن أفعل بالضبط, ووجدتني واقفة أمامها أردد كلمات خرقاء عن المصباح البعيد الذي يرتعش, وأندهش  من نفسي وأنا أسمع صوتي, ثم ألقي بجسدي فوق المقعد, ليبدأ صمت طويل بيننا نحن الثلاثة, وعلى نحو غامض أشعر بالرغبة في مكوثي دون أن أغادر!!

         ـ لم أضربها!

         ـ ........

         ـ كيف أضربها?

         ـ .........

         أشعلت لرضوى سيجارة وأخرى لي, ورحنا ننظر في اتجاه السيارات التي تعبر سريعا في الشارع الأفقي دون كلمة.

         قالت: كان لي أنا أيضا طفلة!!

         كررت رضوى بآلية: نعم كان لديها طفلة.

         قلت بخفوت: كان لديك!!

         حركت المنضدة الصغيرة التي بيننا, فأحدثت صريرا صاخبا, فأخذت أعيدها إلى مكانها من جديد وكانت أرجلها غير متساوية, فشعرت بضيق هائل وكنت في تلك اللحظة, أفكر بثقل وغموض في الطفلة التي كانت!! وأخذت رءوسنا ترتفع صوب نافذة أضيئت فجأة, خمنت أننا نحن الثلاثة سنفكر الآن, وبإلحاح, في من سيطل منها! واستطعت من خلال خيط رفيع, من ضوء تسرب إلينا, أن أرى عيني صاحبة الشقة, واللتين بدتا لي موحشتين بدرجة مؤلمة, بل خيل إلي أن لا لون لهما, وأنهما غارقتان فيما يشبه الرماد, وأن هيأتها التي قد رأيتها في أول الأمر ناصعة ونظيفة أصبحت الآن مقبضة.

         أظلمت النافذة من جديد, وسمعت ضحكات ابنتي والصبي يحكي لها شيئا ما, تمنيت أن يتوقفا الآن.

         قالت بهدوء: كيف أضربها? إنني أحب البنات جدا صدقيني.

         ـ إني أصدقك.

         ـ ........

         ـ  كانت أجمل طفلة في الحي.

         ـ ........

         ـ اختارها الله.

         ـ ........

         هرولت إلى الداخل, وتعالت دقات قلبي, وأنا أسترق السمع, وتوقفت ابنتي عن الضحك قالت رضوى: ماتت في العاشرة من عمرها.

         ـ ........

         منذ عام فقط.

         منذ عام!!

         تمنيت أن أخبئ ابنتي في تلك اللحظة وشيء وحشي أخذ ينهش في صدري دون رحمة, أفكر الآن, كيف أنها تجاهلتها منذ اللحظة الأولى, ثم ساد صمت في الداخل!! عادت تجلس بجواري من جديد صامتة, ثم قالت: ابنتك سمراء, ولكن لها ملاحة وجهك.

         ـ ........

         ـ ابنتي كانت بيضاء.

         ـ ........

         ـ بيضاء جدا.

         رحت على نحو غامض أنتقص من ابنتي, أقول إنها عصبية وضعيفة, وغاضبة طوال الوقت, تمرض كثيرا دون أسباب واضحة, وأشياء أخرى.

         قالت: أنا لم أضربها.

         ـ بكل تأكيد.

         ـ أنا أحب البنات.

         لا أدري لماذا اخترعت كل ذلك عن الضعف والمرض, فكرت في أن ذلك قد يضيف إليها آلاما أخرى وشعرت أنني لا أتنفس.

         تمنيت أن ألمسها, أمسك بيدها أو احتضنها لكني قمت وصافحتها دون أن أقترب منها, هرولت إلى ابنتي وسحبتها من يدها, وسط دهشة الصبي, وفتحت الباب, وكانت هي وراءنا, تراقبـنا ونحـن ننزل فوق الدرج, وكنت أعتصر يد ابنتي, دون أن التفت إلى الوراء.

 

هناء عطية