الأديب الأردني محمد مقدادي: الشِّعر هو صانع أبجدياتي الأولى

الأديب الأردني محمد مقدادي: الشِّعر هو صانع أبجدياتي الأولى

 محمّد مقدادي كاتبٌ وشاعرٌ ومُفكرٌ، فسيفساءُ إبداعية باهرة الخطوط والألوان، كلّ أبجدياتها كتابة في الحُلم المتلوّ بيقظةٍ بهيجة، دفاعًا مستميتًا عن قضايا الإنسان الظامئ أبدًا إلى الأمان والسعادة والحرية! 
 مبدعٌ لا زمنيّ كما الإبداع حرّيتهُ القصوى، ومنطادُ النجاة لديه، الشعرُ بتفاصيلهِ الجميلة، رهانهُ الأبديّ، وأبجديتهُ الحُبّ والعلاقات الدافئة، ولحظات الهمسِ الكونيّ عندَ وسادةِ الوطنِ المثقلِ بأنفاسِ الصباح النديّ!
 وكاتبٌ من طرازٍ رفيع، وهو يتعاملُ مع بياض الورق المستَفِز بحذَرٍ وحنكةٍ وذكاءٍ، فهذا البياضُ يجمعُ بين أقصى درجات التحرّشِ بالكاتبِ، وأعلى درجاتِ البوحِ المضني.

 

  الكتابة لدى مقدادي مسؤولية، وبأبجدية صدقٍ بلا حدود، وهي مقدّمة تنويرية لصناعة كلّ مشروع إنساني - حضاري، رهان على الخلود والمستقبل والحياة!
 محمد مقدادي الكاتب والمفكّر والشاعر المشّاء، تارةً على خُطى شاعرِ الحداثة الكبير آرتور رامبو، امبراطور المغامرة في كشف المجهول، وتارةً أخرى على خُطى مفكّري عصره مهما امتدت أو بعُدت المسافات، وهو يُؤرّخ لمواطنِ الأنينِ، ومصادرِ الجراح، مُبشرًا بالفجر، وتظاهرات النُّور في كلّ مكانٍ تطؤه قدماهُ في طربِ روح وخطوات واثقة منغمة بهمومهِ.
البروفيسور مقدادي كاتبٌ ومفكرٌ وصاحبُ مشروع إنساني حضاري غير قابلٍ للتجزئة... وهو الساعي - فكرًا ونثرًا وشعرًا - بكلّ نزاهةٍ ورُقيٍّ إلى إمكانية تحقيق «عولمة عربية» إيعازِ إنسانِ المستقبل الذي لا شيء يستعبدهُ غير الحُريّة... ولديه الكثيرُ ممّا هو مُثير وجاذبٌ في حديثهِ الدافئ إلى مجلة العربي.

أدعو لأنسنةِ كلّ وجوه الحياة البشرية 
● شعر، مسرح، فكر، حوارات، ويوميات ثقافية... أيّ مغامرة هذهِ؟ أينَ وجدتَ نفسك؟ بلْ أيّ فنون الكتابة هذهِ مَنْ يجيب أكثر عن أسئلتك الإنسانية - الحضارية؟
- أعتقد، بكل تواضع، أنني كل هؤلاء معًا، فأنا أعتبر نفسي شاعرًا وكاتبًا ومثقفًا عربيًا وإنسانيًّا، نذر نفسه بكامل وعيه وإرادته ومخزونه المعرفي والثقافي ومحمولاته العقديّة والأخلاقية، للدفاع عن قضايا الإنسان حيثما حلَّ بغيٌ أو ظلم أو تهميش، وأينما وجدت قيودٌ تحرم البشرية من حقها الطبيعي في ممارسة الحياة بحرية وكرامة، وأدعو إلى أنسنة كل وجوه الحياة البشرية وأدواتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليظل الإنسان كائنا مُكرَّمًا كما أراد له خالقه أن يحيا، بصرف النظر عن لونهِ وعرقهِ ولغتهِ وانتماءاتهِ ومسقطِ رأسهِ، كما أنني أعتقد ألّا شيء بمفرده يجيب عن الأسئلة الإنسانية ذات الأبعاد المركَّبة، ولهذا فقد تعاظم دور المثقف تحت ظروف استثنائية ارتفع فيها منسوب القهر والاستعباد، خاصة في ظل تقدُّم نموذج القوة على قوة النموذج في هذا العالم المنكوب بالسياسات الرعناء التي يتبناها العديد من صناع القرار السياسي والمتحكِّمين بزمام الأمور على هذا الكوكب، لهذه الأسباب يعيش المثقف مغامرتَهُ الكبرى في سباحتهِ ضدّ التيار الذي يجرف كلّ ما يعترضهُ في سياق تهورهِ واندفاعه المجنون لتحقيق المنافع المادية البحتة على حساب كل ما هو جوهري وأصيل.
إن الواقع المعقد يحتاج فكرًا مركّبًا يعمل على تفكيك ذلك الواقع وإعادة بنائه وفقًا لمعايير إنسانية سامية، ومثل هذا الدور لا يضطلع به أحد غير المثقف المنحاز تمامًا لهذه المعايير. صحيح أن المثقف لا يستطيع بمفرده أن يعمل على تغيير الواقع ليكون مطابقًا لحلمه المتجدّد، لكنّه يعمل على كشف مكونات هذا الواقع وفضح الأدوات التي تعمل على تلويثه وإفساد الحياة فيه، بإشاعة مظاهر الظلم والاستبداد والتعسف التي تطول الفئات القابعة في الصفوف الخلفية في مسرح الحياة، والتي غالبًا ما تعيش في جيوب تعاني الفقر والتهميش والعزلة والحرمان من أبسط شروط العيش الكريم ومقومات الحياة الإنسانية.
إن هذا الدور المنوط بالمثقف يمثّل العتبة الصلبة لتعميق الوعي المجتمعي بالواقع، ويشكّل المقدمة الضرورية للثورة عليه بهدف تغييره وتحقيق التحولات التي تقود إلى تمكين كل فرد - مهما صغُر شأنُهُ أو كبُر - من الحصول على حقوقه، والقيام بواجباته في دولة القانون والعدل والمساواة.

الشعرُ هوَ صانعُ أبجدياتي الأولى
● يبدو أن الشعر منزلك المخمليّ الأزليّ الآمن، بل وسادة أحلامك، والبوابة الدافئة التي تمرّ خلالها كلّ فنون الكتابة لديك... من «أوجاع في منتجع الهمّ» ديوانك الأول عام 1982، ومرورًا بـ «سلالة الطين» (2010)، و«كتاب الموت» (2013)، وانتهاء بـ «قلة الياسمين» (2015) أكثر من ثلاثين ديوانًا... قل لي ماذا أخذ الشعرُ منك؟ وماذا أعطاك؟
- الشعر هو صانع أبجدياتي الأولى ورفيق المراحل المتلاحقة من العمر النابض بالحب والحياة، هو ذلك الكائن الذي لا طاقة لي على غيابه أو التوقف عن مشاكساته، إنه كائنٌ مستفِزٌّ ومُحَرِّك لسكوني، وموقظ لكل حاسّةٍ مسترخية أو في طريقها إلى الاسترخاء، وحينما تضيق بي الأرض على رحابتها، أهتف بالشعر كي ينقذني من متاهتي في هذا السراب الجحيمي، فيأتي الشعرُ، بكامل زهوهِ، فيأخذني عاليًا كي أحلِّق كغيمة تتأرجح في فضاءاتها على أسِرّة الريح، ثم تعود إلى عالَمها الأرضي، محمّلة برذاذ الحلم الجميل في أن يكون العالم أكثر وئامًا وإشراقًا وحبورًا، ويكون العيش فيه ممكنًا على نحو سَويّ وقويم.
أخذ منّي الشعر ذلك القلب الخداج، النيِّئ، وقذف به في مرجلهِ العذب، وأعاد تشكيله وقولبته على النحو الذي يكون فيه وفيًّا لرسالة الشعر وتطلعاته في بناء كل ما يجعل الحياة أكثر حميميّةً وجدوى، ولاكتمال المعادلة، لقد أعطيت الشعر - بشكلٍ طوعيٍّ - كلّ ما أراد، وجعلني أمتلك ما لم يكن بوسعيَ امتلاكه من غير أن نكون، الشعر وأنا، في سفْرِ الإبداع والرؤى، والوقوف معًا على مشارف الحكمة والحلم الذي، وإن بدت الشقّةُ بعيدةً بيني وبينه، لكنّ ملامحَهُ وإرهاصاته واقعةٌ في مدى البصر وفي مدارات البصيرة، وإذ يحسبه البعض بعيدًا، فإنني أراه قريبًا، لأنّ الحياة لا بدّ أن تنتصر على كل ما يعبث بها، ويفسد صفاءها وتورّدها.
أخذ منّي الشعر السكينة والاطمئنان، لكنّه منحني، عن طيب خاطر منه، الإرادة التي لا تلين، والموقف الذي لا تهزمه ريحُ الباطل وحرابُه، منحني قوة الانتصار للحق حينما لا يجد الحقُّ مَن ينصره، وحينما يكون أهله قِلَّةً ومستضعفين في الأرض. وبعد كل هذا، فقد ألبسني الشعر هذا البياض الذي أرى انعكاسه في عيون الناس البسطاء وأسمعه في حديثهم الموصول عن عفّة القلم وحصافة اللسان وسموّ الموقف.

الشِّعر والحياة توأمان لا انفصام بينهما
● إنَّ الشعرَ والحياة شيءٌ واحدٌ... «الشعرُ حياة» و«الحياة شعر» مَن الأقرب لرؤاك من العبارتين، كشاعرٍ كبيرٍ لهُ حضورهُ في ديوان الشعر العربي؟
 - الشعر حياة... حياةٌ بكل تجلياتها وأسرارها، بتقلبات فصولها، بصفوها وكدرها، بضوئها وظلمتها، بصفرتها واخضرارها، بأحلامها البيضاء وسوداوية كوابيسها، والشعر حالة خلق جمالية تضيف إلى الحياة معانيَ أكثر عمقًا، وأبعادًا أكثر شمولية، إنه ولوجٌ في النصّ الوجداني، وتفكيكٌ للمركَّب الإنساني المعقّد، وتشريحٌ للذات المكتنزة بالعديد من الأسرار والمكنونات والصور، وإذا كانت الحياة منظومة متكاملة من العلاقات الإنسانية المتشابكة، فإنّ الشعر هو الجامع الناظم لهذه المفردات، على حِدّة التباينات القائمة بينها، إذ يُشكّل ما يشبه المايسترو في جوقة الموسيقا، يوزّع الأدوار ويمنح الفرص بما يجعل سيمفونية الحياة تأتي على الوجه الأكمل، طافحة بأحلام لا تنتهي، وبنبوءات لا تخيب.
وفقًا لهذه المفاهيم الجامعة، فإنّ الشعر والحياة توأمان لا انفصام بينهما، إنهما مرتبطان بحبل سريٍّ أزليٍّ، ولا أستطيع أن أتخيّل عالمًا لا شعر فيه، وأرى أن غياب الشعر عن الحياة يجعلها خاوية على عروشها وخالية من الألوان والموسيقا، مما يعني إصابتها بالعقم والشلل والجفاف.
 
الورقة البيضاء حالة تحرّش قصوى يتعرّضُ لها الكاتب
«الورقة البيضاء، إنها أصعب ما يُمكن أن يواجهه الكاتب» (همنغواي)
«الورقة البيضاء جسدٌ، وعلى الكاتب أنْ يكونَ بمستواها الحضاري» (نزار قباني).
● قلْ لي كيف تتعامل مع استفزاز بياض الورق؟ اللغة، الحلم، العاطفة، هل تكفي لدرءِ خطرِ هذا البياض؟ وهل الكتابة لحظة تحرُّش مشروع بالورقة؟
- أعتقد أن بياض الورق يمثّل حالة تحرُّش قصوى يتعرّض لها الكاتب الأعزل إلّا من قلمه ومفرداته المتقافزة حين يفاجأ بهذا البياض ممتدًّا على دروبه الموحشة، ومفترشًا أسرَّته الخالية، وقابعًا في زوايا مكتبه، فالورقة البيضاء بين يدي الشاعر تشكّل مساحة شاسعة للبوح بأسرار عصيَّة على الانكشاف لولا إحساس كاتبها بالطمأنينة والأمن والسلام، وتهيئ تلك المساحة، فضاءً آخر للحلم الذي ينجو من مرايا الواقع التي يملؤها العالم بالسواد والوحشة.
إن الاعتقاد بأننا قد نعيش عالمًا افتراضيًا مطلقًا بكامل المواصفات والمقاييس، حيث يصبح الورقُ فيه مادةً غير متداولة في الكتابة والنشر والقراءة، هو اعتقاد يلغي تلك الخصوصية القائمة بين أصابع الكاتب وأفكاره ومشاعره وأحلامه المؤجّلة من جهة، وبين بياض الورق وقوامه ورائحة السليولوز فيه من جهة ثانية، إنه فقدان للحميمية التي يخلقها ذلك التماسّ، كتلك الشحنة الكهربائية الساحرة التي تتولد حينما تتلامس أصابع عاشقين على حين غفلة عند حافة رصيف مهجور، حيث لا يكون أيّ منهما في حالة من البراءة وإن ادّعاها، لكنّ التلقائية هي سيدة الموقف.
الورقة البيضاء هي الحبيبة، والكاتب هو العاشق المفتون بعناقها، والبوح لها حتى الصراخ، والنزف حتى القطرة الأخيرة من رحيق العمر.

الكتابة رسالة من رسائل الحياة الجوهرية
● كتبَ جان غوستاف لوكليزيو في رائعته «الباحث عن الذهب»: «الإنسانُ يولدُ مرتين، مرة وهو مجرد من أي شيء، ومرة أخرى عندما يكتب لغته في عالم الكلمات»... والكتابة بفقهِ الروح الظامئة ولادة... وهناك مَن يراها انتحارًا! كيفَ ترى الكتابة؟
- لا يمكن للكتابة أن تكون انتحارًا إلّا إذا كانت كتابة عبثيّة لا طائل تحتها ولا قيمة مضافة لحضورها، ولا جدوى من تداولها أو التعاطي معها، وفي المقابل، وحينما تحمل الكتابة رسالة من رسائل الحياة الجوهرية، فإنها لا تبحث في رحلتها الشاقة عن ولادة فحسب، بل تسترسل في البحث عن كيفية تحقيق حالة من خلود لا يتحقق إلّا بالكتابة الجادّة نفسها، لأنها تعبير عن الوعي الكامل بما يجري، ونبوءة بما يمكن أن تكون عليه الحال في الزمن غير المرئيّ، وهي بهذه الصفات تأتي محمّلة بمشاعر الوحشة والاغتراب والقلق، وبهذا المعنى، تمثّل حالةً من التعرّي الذاتي، أو التعرية للآخر أمام مرآة الوجود، والآخر هنا لا يعني بالضرورة أن يكون بشرًا، بل سلوكًا وممارسة ورؤى، حينما ينحاز الكاتب إلى قيم العدالة والحرية والجمال، فإنه، بشكل تلقائي، يجد نفسه في مواجهة قوى الظلم والاستبداد والقبح والكراهية، وهذه القيم والأدوات هي المنظومة التي تؤسس للحياة الفضلى التي هي غاية الكتابة ووسيلتها للخلود.

الكتابة مُقدمة تنويرية لصناعة المشروع الإنساني
● هناك ما يسمّيه آرنست همنغواي «المسؤولية المرعبة للكتابة»... وما يُسمّيه صمويل بيكيت «الهوس السيكولوجي للكتابة»... والعبارتان في بلاغة شديدة البراعة والتأثير... أيهما الأقرب لرؤاك ككاتب ناثر من طراز رفيع وشاعر كبير؟
- الكتابة مسؤولية أمام الله والنفس والناس والتاريخ، بحكم ما يفترض أن تتصدّى له من أدوار في الاستقصاء، والكشف عمّا ليس بوسع غير الكاتب اكتشافه أو الكشف عنه، وهي فن التعبير عمّا ترى وتعايش، وعمّا تحتمل وقوعه قبل وقوعه، في حالة تجمع بين الحدس وتحليل المقدمات ذات العلاقة بسيرورة الحياة والربط بين المقدمات والنتائج، ولا يكفي أن يقدّم الكاتب كتلة صماء ومنتفخة من القراءات الفائضة والتي يتم اجترارها على الساحة الثقافية، بل عليه أن يقدّم وجبته الفكرية الثريّة والمركّزة على النحو الذي يسهل على المتلقّي فهمها وتداولها والاندغام في مضامينها، وتمكّنه من مشاركة الكاتب رؤاه وأفكاره، وإيجاد سبل للحوار والمراجعة.
ولأنّ الكتابة تمثّل مقدمات تنويرية لصناعة المشروع الإنساني، فإنها لا بدّ أن تجمع بين البراعة في الصياغة وبين سمو المحمولات والمدلولات لاستكمال دور رسالتها في التأثير، وهو ما يُلزم الكاتب بضرورة الاعتناء بما يكتب، والحرص على جوهرية المضامين وجودتها وتماسّها المباشر مع القضايا الحياتية الملحّة.
صحيح أن الكاتب - أي كاتب - لا يستطيع أن يجيب عن أسئلة الحياة كلها، كما أسلفت، بحكم تعدُّد هذه الأسئلة وتغيّرها ودرجة إلحاحها، بل وخطورتها أحيانًا، خاصة في ظل هذه الفوضى الكونية الطاحنة، لكن من بين أهم واجباته أن يتلمّس الواقع، وأن يعمل كل ما بوسعه للتفاعل مع معطياته ومحاولة إيجاد سبل وأدوات تجاوزه والنهوض به بما يحقق أحلام الناس وتطلعاتهم.

الفنّ والإبداع التعبير الواعي والحقيقي عن الواقع
● هل الإبداع والفنّ حدس فعلًا؟ أمْ لحظات غليان عاطفة وفكر وحلم... ماذا تقول؟
- الفن والإبداع هما التعبير الواعي عن الواقع المعيش، لأنهما توقٌ دائمٌ للتغيير، وحلمٌ يلتقي مع التطلعات والأماني التي قد يراها البعض عصيَّة على التحقق، وهنا لا بدّ أن يصرخ الفن والإبداع في وجه المغاير الذي يصادر نسغ الحياة فيمنع ينبوعها من التدفق، ويحرم العالم من كل ما يبعث فيه فتائل البهجة، لا بدّ لهما من الصراخ لاجتراح الأدوات وابتكار الوسائل الكفيلة بمواجهة واقع الانكسار والتخلّف، والانتصار عليه بتغيير شروط رداءاته ونسف المكونات المؤسسة له وتجاوز الظروف الضامنة لاستمراره وتجذّره في تربة المجتمع الذي يعاني شروره وآثامه وعناصر إفساده المستشرية في العالم المعاصر الذي يبدو وكأنه بات مستسلمًا لإرادتها العمياء على نحو مريع.
●حينَ قرأ بوشكين رواية «الأنفس الميتة» للعبقري غوغول قال بصوتٍ جارحٍ: «يا إلهي! كم هي موحشة بلادنا روسيا»... هل صادفك عمل شعري أو سردي عربي بهذه المرارة الناقدة الموقظة، يمكن أن تضعها على غلافه الأخير؟
- وأنا أقرأ النص العربي المتقدِّم - بسرعة الضوء - إلى الوراء، أصرخ بصوت مبحوح وأقول ما قاله بوشكين ذات يوم، ويغمرني إحساس أقرب إلى الاختناق، فهو نصٌّ - في المدى المنظور - لا يشي إلا بالموت والدم والدمار والتبعيّة وانعدام الوزن، ولا يقود إلّا للمزيد من الفجائع والخسارات المتلاحقة، والتي لم تعد قابلة للحصر والمتابعة.
«مدن الملح» للروائي عبدالرحمن منيف، ورواية «متاهة الأعراب في ناطحات السحاب» للروائي مؤنس الرزاز، والأعمال الصادمة للمبدع سعدالله ونّوس، وقصائد اللوعة لدى مظفر النواب قادتني جميعها من يدي إلى شفرة المقصلة التي رأيت عندها العربيَّ يغرق في بحار من دمه ودموعه وانهياراته، ويضيع في مجاهل الحياة، حيث يبحث عن أبجدياتها الضائعة والمضيَّعة، فلا يجد شيئًا منها، ولا يعثر على دليل يقوده إلى بعض ما يريد.
 
الشعرُ العظيمُ فنٌّ لهُ خصوصيته لدى المُتلقي
● «إنَّ الرواية آخذة بالإخفاق» (خورخي بورخيس!)
كيف تقرأ هذه العبارة من كاتب عبقري وسارد من طراز رفيع، أمام ما يروّج لهُ النقاد من ادعاءات انفعالية والحديث عن «زمن الرواية»... قل لي هل هناك فنّ يُمكن أن يتنازل عن كرسيه الوثير لفنّ آخر؟ هل تؤمن بالأزمان والأجيال؟ أمْ أنَّ فنون الإبداع يكمّل بعضها البعض؟ حدثني!
- لست ميّالًا لمشاركة من يقول: هذا زمن الشعر وذاك زمن الرواية، فالناس في كل زمان ومكان، يمتلكون ميولًا متباينة خاصة في ظل هذه الفردية التي تكرّسها العولمة وما بعدها كنمط سلوكي يصنع الفرد فيه عزلته وعالَمه من غير أن يلتفت إلى أحد سواه، إذ لم يعد لمفهوم التشاركية قيمتها العالية إلّا في المستوى النظري الرومانسي، ففي كل زمن يرتقي به الوعي الإنساني الجمعي، يرتقي في الوقت نفسه مستوى المنجز الإبداعي في شتى الأنماط، وبقدر ما ينأى البعض عن نمط إبداعي معيّن، بقدر ما يقترب منه آخرون، صحيح أن الالتقاء بالشعر والتعامل معه أمرٌ لم يعُد يسيرًا، خاصة أنه يحتاج إلى جهد ذهنيّ وصفاء روحي فائض عمّا تتيحهُ اللحظة الصارمة التي يعيشها إنسان هذا العصر الذي انحاز قليلًا وفي وقت ما إلى الأعمال الروائية التي غالبًا ما تقدّم وجبات جاهزة لما فيها من المباشرة والوضوح، وحيث يمكن للمتلقي أن يعيش دورًا ما في الأحداث الروائية. لكنَّ الشعر ليس فنًا مستقلًا بذاته أو لذاته، بل يظل ذلك البساط الذي يتشكّل من خيوط ملوّنة تنتمي في الأصل إلى جملة من الفنون الإبداعية المتشابكة ليشكّل مجموع هذه الخيوط تلك اللوحة الشعرية المثيرة لدهشة المتلقي والباعثة لديه جملة من التساؤلات المؤرَّقة لحالة السكون السائدة، ويظل الشعر العظيم - من غير انحياز للشعر- فنًا له خصوصيته الاستثنائية لدى المتلقي، حتى وإن تغيب قليلًا عن المشهد لما يشوب الساحة الشعرية من عبث تعمل على تعميقه منابر ومنتديات ومؤسسات مشبوهة لإفساد الذائقة المجتمعية، وتفريغ الشعر من مضامينه الكبرى، مما يسهم في تشويه المكوِّن الشعريّ برُمّته، فينزع عنه القداسة التاريخية والنضالية والرّؤيويّة، ويُخرِجُهُ من دوائر اهتمامات الإنسان العربي واحترامه.

كتاباتي تتقاطع معَ قضايا العدالة والحرية وحقّ الإنسان
● اعترف لورانس داريل بفضل هنري ميللر عليه، وخاصة كتابه «ربيع أسود»... مَن له الفضل عليك طوال هذه المسيرة الإبداعية المشرّفة، وأنتَ تتفجّر نثرًا وشعرًا راقيين؟
- ليس ثمّة كتاب واحد أو كاتب معيّن له الفضل على مسيرتي الإبداعية، بل ثمّة مخزون ثقافي تشكّل وما زال يتشكّل عبر هذه المسيرة الطويلة في مختلف الموضوعات التي كتبتُ وأكتبُ فيها وعنها، وأنا مثل أيّ شاعر تتلمذتُ على مدارس الشعر العربي منذ العصر الجاهلي حتى الحديث، إلّا أنني كمتخصص في الاقتصاد الدولي، قدّمت تصورًا مبكرًا في مسألة العولمة وبحثت في قضايا التنمية ومعالجة الفقر، وتقاطعت كتاباتي مع قضايا الحرية والعدالة وحق الناس، أفرادًا وجماعات، في العيش بكرامة بأوطان آمنة ومستقلة، وآمنت بالمثاقفة والتبادل المعرفي وبالحوار الحضاري، ليتمكّن الجميع من إِعمار هذه الأرض بما ينفع الناس ويمكث فيها. والثقافة، التي تبقى حين تفنى الأشياء جميعًا، هي القادرة على إخراج الناس من ظلمات الجهل والاستكانة إلى نور المعرفة والحكمة، و«مَن يُؤتَ الحكمة فقد أوتيَ خيرًا كثيرًا».
دعني أعترف بأنني ابن (المكان)... فلكل مكان عندي وقع استثنائي، أنا من عشاق الأمكنة، أتعلّق بالمكان وإن نأيت عنه، لأنني أنخرط فيه وأتماهى، في محاولات لاستكشاف مكوناته وعناصره المختبئة في الظلال، وتراني أبحث في الأزقة والحارات والحواري والأحياء، حيث يتراكم في الزوايا العمياء كمٌّ هائلٌ من الأنين غير المرئيّ، وتتعاظم الشكوى، ويكون بمقدور الباحث أن يستمع للهمس الذي يدور في بيوتات مهجورة في التاريخ العميق، إنها متعة الكشف عمّا يجري السكوت عنه في المدن التي كالغانيات، لا يُبدين للزائر إلّا زينتهن وأدواتهن في الإغواء والمراوغة.
إنني مسكون حدَّ الشغف بالتطواف، وأنا مَشَّاءٌ لا يَكِلُّ ولا تخيفه المسافات، لأنني أعتبر أن الكائن البشري يظل إنسانًا ما دامت قدماه على الطريق، ومع كل خطوة يخطوها يكون قد أضاف مفردات جديدة لقاموسه المعرفي، وحلمًا نوعيًّا لقائمة الأحلام التي تظل مزهرةً في شرفاته المُشرعة على كلّ ما هو منتَظرٌ ومأمول.

هناك مثقفون راقصون ماهرون على حبال المناصب والمكاسب
● وصف سارتر المثقفين بـ «الفئران اللزجة» من دون أن يستثني نفسه، وكاتب آخر قال «إنَّ بائع خضار واحد أفضل من دستة مثقفين»... لماذا؟ ما سلبيات المثقفين؟ هل يقف الخلود الذي سرق حياتهم في المقدّمة، أمْ ماذا؟
- هذه مسألة ذات علاقة بتحديدنا - كمثقفين - للدور الذي يفترض أن يضطلع به المثقف إزاء مجتمعه والعالم، وهو دور يتمثّل في وقوفه إلى جانب المستضعفين والمهمّشين وفاقدي السَّند، وأن يكون جنديًا صلبًا في الجبهة المناوئة للظلم والاستبداد والتعسف والفساد، وأن يكون مخلصًا في القول صادقًا في العمل، ويشكِّل قدوةً ويقدِّم مثلًا أعلى في التضحية والاستبسال، وأن يحمل البُشرى بالقادم الأجمل الذي ينتظره الناس بعد هذا العناء والمكابدة، وأن يظل وفيًّا لمنظومة القيم التي يطرحها في البُعد النظري للحالة الإبداعية، وألّا يكفّ قلمُه ولسانُه عن تبنّي المسائل الأكثر مساسًا بحياة الناس وقضاياهم المعيشية، وألّا يتخلّى عن هذه المسؤوليات أو يتراخى أداؤه إزاء مغريات المال والمناصب والامتيازات الزائفة التي أغرت - مع الأسف والأسى - العديد من المثقفين صغار النفوس ومحدودي الرّؤى، وأوقعت بهم في فخاخها، والأنكى من ذلك، أنهم راحوا يبرّرون - ثقافيًا - سقوطهم المدوّي في براثن البريق الزائف والثمن البخس الذي قبضوه نظير هذه الخيانات الصارخة، والتي أصبحت برأي مُقترفيها مجرد وجهة نظر وحريّة اختيار، وهو ما أفقد الناس ثقتهم بالمثقف، وتراجع إيمانهم بأهمية الثقافة ومصداقيتها وجدواها.
هذا السقوط المفزع يتحمّل مسؤوليته الراقصون على حبال المناصب والمكاسب من المثقفين قنّاصي الفرص والمتاجرين بقضايا الناس ومستقبل أجيالهم.
 
الوطنُ مساحة نفسية تحتلُ القلوب والضمائر
«الوطن المكان الهندسي للعقل الكلي» (تيري أيجلتون)، وهناك مَن يرى «الوطن كذبة بالغة الخطورة»...
● ما رأيك في العبارتين؟ هل الوطن متورّط بنا أمْ نحن المتورطون به؟ ألا نبدو، بفقه القصائد، مواطنين مجازًا في أغلب الأحيان؟ 
- الوطن ليس مساحة تشكّلت وفقًا لمعطيات واعتبارات سياسية في المقام الأول، وليس جغرافيًا مسيّجة بحقول الألغام والدُّشم العسكرية العالية، ومرصّعة أرصفتها وطرقاتها المتآكلة بصور السادة والنبلاء والساسة، ومزدحمة فضاءاتها بالهتافات العمياء، بل هو مساحة نفسيّة تحتلّ القلوب والضمائر، وتحقق الأمن والحرية والكرامة لكل مَن يتنفس عطرها ويغتسل بقطرات الندى في صباحاتها البكر، وحينما لا تتحقق هذه الشروط يصبح ما يُسمى بالوطن الجغرافي / مسقط الرأس/ عبئًا ثقيلًا لا يمكن احتمال العيش فيه، لأنّه يتحول إلى سجن مفتوح، تضيق الرِّئات بهوائه، ويتعاظم الإحساس فيه باليُتم والاغتراب.
لقد بات العالم، في عصر العولمة وما بعدها، يطرح - وإن نظريًا - مفاهيم إنسانية وحضارية متقدمة على المفاهيم الضيقة للأوطان والمواطنة، إذ بات مصطلح الإنسان العالمي، الذي يجد في العالم - على تعدُّد كياناته ولغاته وثقافاته - وطنًا يحقق له الحرية التي ينشدها والشروط الإنسانية التي يحلم بالعيش في ظلالها، من غير قيود من سلطة، أو مِنّةٍ ممّن يدّعون الفضيلة ويمتهنون تقديم المكرمات. وهو أمر يستحق التأكيد على المفهوم الأعمق للوطن والممارسة الحقّة للمواطنة.

كُلّ أعمالي شعرًا ونثرًا هي غرفة عقلي السريّة
● وصف بودلير رواية «مدام بوفاري» لفلوبير قائلًا إنها «غرفة عقلهِ السريّة»... وأنت من النثر المستفِز بسيلوفانهِ السياسي إلى الشعر/ نبيذ القضية، أي أعمالك يُمكن أن يُطلق عليه غرفة عقلك السريّة؟!
- أكاد أجزم بأن كل أعمالي التي أنجزتها، في الشعر والنثر والفكر، في واقعها هي غرفة عقلي السريّة على نحو ما، لأن كلّا منها إمّا أن يكون حاملًا لإجابات مُعتنى بها على أسئلة يفرضها الواقع وترتطم بمراراتها المجتمعات، وإمّا أن يكون مولِّدًا لتساؤلات ذات زوايا حادة، تستفزُّ الصمت والمواربة، وتقاوم بشراسة، أو تحثُّ على مقاومة الركود والمداهنة والاستسلام، ووقف سيل المراهنات الخاسرة على خيريَّة القادم، والدعوات المشبوهة إلى التصبُّر الاحترازيّ على هذا الكمّ الهائل من الضّيم والتجبّر.
  إن مشروعي الإبداعي -  في تصوّري - هو مشروع متكامل وغير قابل للتجزئة، فهو يتوزع على مساحات إبداعية متنوعة الأنماط والبنى، فما لا أستطيع ملامسته أو التعبير عنه بالشعر أسبر أغواره نثرًا، وما أفتقده في الحالتين تعوّضني عنه الكتابة في الفكر الإنساني، وقضايا التخلف والفقر والتنمية والوقوف إلى جانب الحق والعدالة، والكشف عن أكذوبة الصراع الحضاري التي روّج لها وعمل على إذكاء جمارها كل أعداء الإنسانية من مستشرقين وقادة، يحيلون العالم تحت هذه العناوين، خاصة في منطقتنا العربية المستهدفة أصلًا بهذا الصراع المفتعل، إلى ساحة مفتوحة للفناء والموت المجاني تحت جملة من الذرائع المفتعلة والحجج الواهية، ومنظومة كيديّة أُحسِنَ حبكُها من المبرِّرات التي يقدّمها فكر مريض بداء الاستكبار والغلو.

الثقافة العظيمة هي الرحمُ الذي يُنجبُ مثقفينَ عظامًا 
● رُغم الخلاف الفكري بين سارتر وكامو، جاء رثاء سارتر لهُ وفيًا حتى الألم وهو يقول: «الشيء الإنساني في كامو يمسي جزءًا من الإنسانية بمعناها العام»... قلْ لي في أيامنا هذه التي سادت فيها الأنانية وحبّ الذات بين الكتّاب، هل يمكن أن نلمسَ مثل هذا الوفاء الأسطوري؟!
- هناك ثمّة معادلة قابلة للقراءة في اتجاهين، وأعني بها أن الثقافة العظيمة هي الرحم الذي ينجب مثقفين عظامًا، مثلما أن المثقفين العظام ينتجون ثقافة عظيمة كذلك، وعظمة المثقف لا تقاس بمقدار ما يُسهم في البناء الثقافي على نحوٍ كمّيّ ونوعيّ فحسب، وإنّما بقدر ما يحققه مشروعه الإبداعي من علاقات تشاركية مع العناصر الفاعلة معرفيًّا في عملية إنتاج الثقافة التي تعمل بدورها على إعادة توليد الفرد وتنشئته بكامل خصائصه الإنسانية تحت سماء الوطن والعالم.
مثل هؤلاء المثقفين الكبار، ليس بالضرورة أن يجمعهم خطٌّ فكريٌّ واحد، بل، ووفقًا لضرورات الإبداع الثقافي، لا بدّ أن تتعدَّد الرؤى وتتباين المفاهيم وتختلف الوسائل، لأنّ هذه التباينات والاجتهادات هي ما يُثري المشهد ويعمِّق الإحساس بالمسؤولية المؤمنة بأن الغايات لا بد أن تلتقي في إطار المعادلة الجامعة، ولكن، وفي ظل الانهيارات التي لحقت بالبنية الشاقولية والأفقية للمنظومة الأخلاقية في العالم، وانقياد المنظومة المعرفية، بما فيها التكنولوجيا والاتصالات ووسائل الإعلام، وراء العنصرية البغيضة التي تمارس السطو الممنهج على كلّ ما هو جميل. ونظرًا لما أصاب العلاقات البينية في المجتمعات من عطب، أرى أنّ من الأولى للمثقفين أن يسلكوا دروب الإنصاف لبعضهم بعضًا، وأن يعملوا على تثمين المحتوى الأخلاقي والإنساني لإبداعات كل منهم، والبحث عمّا يجمع بينهم من وشائج ومشتركات تعينهم على مجابهة الواقع المحمّل بهذا المنسوب العالي من الكراهية والأحقاد العمياء، التي جعلت المجتمعات تحتكم لمفاهيم القوة وتتغذى على مخرجاتها.
إن الظواهر التي تبدو ماثلة للعيان، وشارات الغمز واللمز التي تجري بين بعض المثقفين، الذين اختلفت بهم السبل وارتبكت لديهم الغايات وغامت عندهم الرّؤى، هي ظواهر غير متعفّفة ويراقبها عامة الناس ويلحظون حجم التناقضات القائمة بين المثقفين، ويعرفون كيف تُدار السجالات العلنية المهينة - أحيانًا - على منابر الفكر والإعلام، وهو ما يضيف لدى العامّة مبررات جديدة لردم جسور الثقة والإيمان بالمثقفين وهم يرونهم على هذا النحو من التمترس في دوائر الهزال والخور.

 الناس هم أصحاب القضية الأولى
● كان شولوخوف يُنهي رسائله إلى ستالين كيْ يتّقي غضبه بعبارة «أنتَ أملنا الوحيد»... كيفَ تُقيّم المثقف العربي من السلطة؟ أعني هل بالإمكان رسم بورتريه للمثقف العربي وعلاقته بالسلطات والأنظمة؟
- يؤلمني القول بأن النظام السياسي العربي، في معظم أحواله ورموزه، قد فشل في بناء علاقة سويَّة مع شعبه، تقوم على قواعد الحق والواجب، ولم يُنجز - رغم مرور زمن طويل على استقلال الأقطار العربية - مشروع الدولة المدنية ودولة القانون، التي تتحدد فيها مفاهيم العيش المشترك والمواطنة وتداول السلطة والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات المتعلقة بحاضر الشعوب ومستقبل أجيالها، والعيش في ظل نظام يحقق السلم المجتمعي ويضمن العدالة الاجتماعية والفرص المتكافئة، وهي مفاهيم لا يمكن بلوغها إلّا بالقبض على أبسط أدواتها المتمثلة بالديمقراطية والحرية في دولة القانون والمؤسسات.
هذا الفشل الموجع ناجم عن إيمان النظام العربي وتمسّكه بنظرية الباب الواحد، وهي سياسة حالت دون إيجاد سبل للحوار بين المثقف المؤمن بمبادئ وأساسيات الدولة المدنية، وبين السلطة التي تعتقد بأن منح مساحة أكبر من الحريات والديمقراطية للشعوب، من شأنه أن يُفقدها هيبتها، ويحرمها بالتالي من أحد أهم أدوات تسلُّطها التاريخي ومبررات وجودها واستمرار هيمنتها الكاملة على المشهد برمّته، من خلال تعميم ثقافة القطيع المذعن المستكين، والباحث عن أبسط الحقوق التي تبقيه على قيد العيش، ليعطي السلطة المتحكمة بمصيره المجهول، شرعية وجودها واستمرارية إحكام قبضتها على كل مفاصل الحياة.
المثقف العربي الذي ينافق «الستالينية»، خوفًا من سطوة سياط جلاّديها، ويمالئُ «السلطان الستاليني» المتغطرس، طمعًا بمكارمه وأعطياته، هو مثقف خائن للفعل الثقافي الملتزم بقضايا الحرية وما يخص جوهر الحياة، ولا يمكن أن يكون منضويًا إلا تحت لواء السلطة، فيظلّ بوقًا من أبواقها لا يسمع إلّا ما تسمع ولا يرى إلا ما تراه.
 إلا أن ما يحمل البُشرى، وما يُبقي على جذوة الأمل متَّقِدَة في عالَمنا، أن الناس، وهم أصحاب القضية الأولى، على الرغم من انشغالهم باليومي الطاحن لأحلامهم، قادرون على التمييز بين الغثّ والسمين من بين هذا الكمّ الهائل من المستهلكات ■