الرحلة إلى طُلَيْطِلة نسَق من السّرد والتاريخ

الرحلة إلى طُلَيْطِلة نسَق من السّرد والتاريخ

اتّجه الرحالة العربي في مطالع النهضة الحديثة إلى أن يكون جامعًا لروحين في إهاب واحد: أولاهما روح «الجغرافي المؤرخ» المكين في قدرته على رسم أبعاد المكان وطبيعته ومعالمه، وتتبُّع الأثر بعد الأثر، كاشفًا أخبار الأزمنة التي تقبع خلفه. وأخراهما روح «الإصلاحيّ المنتمي» في احتفائه بالفكر في وثَباته، والتقدم في أطواره، والانتصاف من الذات والآخر، ثم ها هو لا تشغله سحر المرائي عن الوطن ووجوده، وما يعتريه من وقائع، فيسكن منه العقل والعين والفؤاد.

 

رافقت الروحان معًا رجُل التحرر والوحدة والنهضة، أمير البيان شكيب أرسلان (1869 - 1946 م)، في كثير من رحلاته وأسفاره في الشرق والغرب؛ لكنّ رحلته إلى المدن الأندلسية التي تضمّها دولتا إسبانيا والبرتغال، فيما يُعرف بـ «شبه الجزيرة الإيبيرية»، هذه الرحلة استأثرت بنصيب وافٍ من التأريخ والدعوة إلى الاعتبار والنهوض، والجدارة بالاستقلال، في مزاج جامع بين إحاطة المؤرخ، وحصافة الجغرافيّ، ولغة المصلح الأديب.
المسافة الزمنية التي قطعتها رحلة شكيب أرسلان الأولى إلى الأندلس - وهي موضوع هذه السطور - قاربت الثلاثة أشهر من عام 1930م، وبدأت من حيث توقّفت الفتوحات الإسلامية في أوربا، أعني من الجنوب الفرنسي، فمكث لأيام في مدينتَي طلوزة (تولوز)، وقرقشونة، وفيها القلعة العظيمة أهم حصون الجلالقة، وقد فتحها العرب في عهد موسى بن نصير، وبقيت في أيديهم نحو نصف قرن (713 - 759 م)، وقد ضمّت الرحلة من المدن الأندلسية سَرَقُسْطة، وبرشلونة، ومَجْرِيط (مدريد)، وطُلَيْطلة، ورَنْدَة، وبَلَنْسيَة، ومُرْسية، وقرطبة، وأشبيلية، وغرناطة، ومالقة، والجزيرة الخضراء، وميورقة وأخواتها.
واتخذ تدوين الرحلة شكل المقالات، أو الرسائل الصحفية، ونُشرت في عشر حلقات بجريدة الشورى بمصر، مع احتفاء خاص من صاحبها محمد علي الطاهر - نشرت الأولى بتاريخ 16/7/1930، والأخيرة بتاريخ 24/9/1930م - وقد وفّق في جمعها وتحريرها والتقديم لها الأديب المحقق فهد بن محمد بن نايف الدبوس، وأصدرها في طبعة قشيبة، عن مركزه للتراث الأدبيّ بالكويت، تحت عنوان «الرحلة الأندلسية للأمير شكيب أرسلان» (1439 هـ = 2018 م).

إرهاصة أُولى
اللافت أن هذه المقالات كانت مهادًا أكيدًا، وإرهاصة أُولى لمشروعَي الأمير شكيب المرموقين في المكتبة التاريخية، وهما «تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر المتوسط» (1933)، و«الحلل السندسية في الآثار والأخبار الأندلسية»، الذي صدر في ثلاثة أجزاء (1936 - 1939)، وقد تمّت الإشارة إليهما في غير ما موضع من الرحلة.
ولعلّي أضيف الآن إلى الملمحين البارزين المشار إليهما بين يدي هذه السطور، ملمحًا ثالثًا جامعًا لهما، وهو تجلّي روح الباحث عن الجذور، وتتجلّى منذ البداية في وضوح الدافع أو الباعث على السفر، الذي يتمثّل في «استقصاء آثار العرب وأخبارهم أينما كانوا وحلّوا من القارة الأوربية»، «فالعرب قد كانت لهم جولة، بل دولة...» في هذي البلاد القصية، وهو تاريخ حقيق بالبحث والدرس والعرض؛ ليتعلّم العربيّ المعاصر مناقب أجداده، ويتدارس كيف حققت الهِمَم العالية، ما يدعو للعزّة والفخار، ويستنهض في الأجيال الجديدة إرادة البناء والتطور.
يتصل بذلك غرامه الصميم بالأندلس وحضارتها التي استمرت ما يقارب ثمانية قرون، تلك الغُرَّة الشامخة في تاريخ الأمة العربية، ثم يقول دون أن يخشى مراجعًا أو مغالطًا: «إنها أنفَس ما أثره العرب، بل من أنفس ما أثره البشر في الأرض»! (الرحلة الأندلسية، ص 71). وهو غرام قديم ممتد الأصول والفروع، فحين ترجم في ريعان شبابه رواية الكاتب الفرنسي شاتوبريان «آخر بني سراج»، ذيّلها بتاريخ للأندلس (طبعت 1920 م)، رافدًا إياها بما عثر عليه في مدينة جنيف من مصادر، ويؤرخ لسقوط غرناطة.

اهتمام مبكر
على أن أجدر ثمار الغرام الأندلسيّ، وأَوْلاها بالعناية والإلماح ما نجده في ربط ذلك كلّه بقضية التحرر والاستقلال الوطني، والاهتمام المبكر بالقضية الفلسطينية، وهي القضايا الكبرى التي كانت تشغل العرب والمسلمين، حين كانت أقطار شتى من الأمة ترزح تحت نير الاحتلال الأوربيّ في القرن الفائت، يقول في مستهل الرحلة:
«ليس بعجب أن يكون مثلي مُغرمًا بالأندلس، وآثار العرب فيها، فإنها من أجمل ما أثّر العرب في الأرض؛ ولذلك حقَّ لكل عربي أن يُعجب بها، وينقِّب عنها، ويشدّ الرحال إليها، ويأخذ العبرة اللازمة منها، فإنها ليست الشاهد الناطق والبيّنة القاطعة على مجدنا الماضي فقط، وما قدرنا أن نعمله في الأعصر السالفة، بل هي الحُجّة الملزمة والدليل الباهر على جدارتنا بالاستقلال، وعلى ما نقدر أن نعمله في الأعصر المستأنفة».
في رحلة «طُليطلة» - وهي مثال دالّ على البناء السرديّ للرحلة الأندلسية عند شكيب أرسلان - يأخذ البحث عن الجذور أكثر من مسار:
● مسار المشاهدة والعيان
 وفيه يظهر حرص شكيب على مشاهدة كل الآثار العربية بطليطلة، في نحو ثماني ساعات من المطالعة والتحديق في هذا القصر، وذلك الجسر، وتلك المنارة، حتى شفى الغليل من طليطلة، تلك المدينة التي تتوسط شبه جزيرة إيبريا، والتي سمّيت بالثغر الأدنى في مقابل مدريد التي سمّيت بالثغر الأعلى؛ وهكذا تبدو طليطلة في عين رائيها الرحّالة: «فرأيتُها كما قيل: بلدة عالية مشرفة على نهر كبير هو نهر تاجه، الذي ينتهي إلى البحر المحيط عند أشبونة (ليزبون)، وقد انخفض النهر المذكور عن طليطلة، وأحاط بها من الجهات الثلاث، فهي لا تساوي البرّ إلّا من جهتها الشمالية، وعلى النهر بساتين وأشجار، وفي ضفافه غياض وجنان، ومنظر هذا النهر وما يليه من بسائط طليطلة من أبدع المناظر التي سرَّحتُ فيها طَرْفي على رأي الكُتّاب. وكذلك حصانتُها ظاهرة للعِيان، وقد قلتُ لمّا دخلتُها: إنه لا يمكن أن تُؤخذ إلا بجوعٍ أو خيانة، ولاسيما في الأعصر التي أُخذت فيها» (ص 123 - 124).
   يتصدّر هذا الوصف الجغرافيّ بيتان من محفوظه الشعريّ:
زادتْ طُليطلة على ما حدَّثوا    
بلـــدٌ عـــــلــيــه نَــضْــــرةٌ ونــعــيــمُ
الله زيــــَّنـــَه فــــــــوشَّـــحَ خَـــصـــــْرَه     
نهرُ المجرَّةِ والغصونُ نجوم

  وقد ورد البيتان في كتاب «نفحُ الطِّيب من غصن الأندلس الرطيب»، غير منسوبين لشاعر محدد، ثم يختم وصفه برأي وحدسٍ؛ ليتجه بعده إلى المسار الثاني.

● مسار التاريخ
وفيه يراجع شكيب أرسلان - بدأب الباحث العالم - مظانّ التاريخ، مدققًا ومحررًا للخبر التاريخيّ؛ ليروي للقارئ: كيف كان ضياع طليطلة؟ ذلك أن القادر بالله بن ذي النون الخائب الذليل «كان ضعيف التدبير، فائل الرأي، فطمع فيه جيرانه من أمراء المسلمين وطفقوا يعتدون عليه ويتجاوزون، فذهب إلى ألفونس السادس ملك قسطيلية، أو على حسب قول العرب الأذفنش، بجيش ومعه القادر بن ذي النون؛ ليفتح له بلدته التي كانت هي أيضًا تمرّدت عليه، ووعده ألفونس بأن يفتحها ويقرّه فيها، فلما دخلها بسبب تفرّق كلمة أهلها قلب له ظهر المِجَنَّ، وأقطعه بلادًا أخرى»، واستولى ألفونس على طليطلة، وجعلها حاضرة المملكة، كما كانت يوم فتح العرب الأندلس.
   لقد كان سقوط طليطلة الحصينة نذيرًا مبينًا، وبداية حقيقية لانفراط عقد الأندلس كله، وتداعي بقية المدن، فبعد أن كانت المدينة الواصلة بين الممالك الأندلسية، أضحت - بعد حصار طويل - إقليمًا فاصلًا بين قرطبة وغرناطة من الغرب، وسرقسطة ولاردة وقلعة أيوب من الشرق، وهذا هو الشاعر الأندلسيّ ابن العسّال، محبطًا يائسًا، يجسّد صدمة السقوط:
مَنْ جاوَرَ الشرَّ لا يأْمَنْ بَوائِقَهُ    
كيف الحيـاةُ مع الحَيَّاتِ في سَفَطِ؟
الثوبُ ينسلُّ من أطرافِه وأرى   
 ثوبَ الجزيرة مَنْسولًا من الوسَطِ

   وكما تدلُّ الجغرافيا على التاريخ، يدلُّ التاريخ على جغرافيا المكان، وما يكتنز من دلالات، فقد كانت صفة البيوت في طليطلة - حين رآها شكيب أرسلان في أغسطس 1930 - في ضيق شوارعها، ودخول بعضها في بعض «لا تزال كما كانت، كأنما العرب لم يخرجوا منها إلا من خمسين سنة».

● مسار الانطباعات والسرد الذاتيّ
 ولعل أظهر ما تجسّد هذا المسار تلك الاستعارة الأدبية، في مطلع الرحلة على لسان الرحالة شكيب: «وأقبّلُ ذا الجدار، وأتمسّحُ بذلك الركن، حتى شفيتُ غليلي من طليطلة، فقد كان في نفسي منها ما كان في نفس الفرّاء من حتّى»!
 وهي إذ تتثاقف مع مورثين من الشعر والنحو (بيت شهير لقيس بن الملوح، وقصة الفرّاء النحويّ الكوفيّ الذي ينسب إليه القول المشهور: أموت وفي نفسي من حتى شيء!)؛ فإنها تكشف - في الوقت نفسه - عن ذلك الشغف الشديد الذي يتملك الأمير شكيب تجاه تلك البلاد، والحنين الذي يتجاذبه بين أفقين؛ الشرق الحاضر بآلامه، والغرب الأندلسي الماضي بأمجاده.
   وكيف لا يتجاذب شكيب ذلك الشعور؟! وهو يصل نسبه الشخصيّ بآخر ملوك بني عبّاد في أشبيلية، فقد كان المعتمد بن عبّاد (431 - 488 هـ)، على حد قوله، «لخميًّا»، أي منسوبًا إلى قبيلة لَخْم العربية، و«كنّا نحن ننتهي إلى أرومة واحدة»، وذلك في معرض الإشادة والتعقيب على انتصارات يوسف بن تاشفين (500 هـ)، القائد المرابطيّ الذي وحّد المغرب، وضمّ الأندلس إلى دولة المرابطين، ونفى المعتمد بن عباد إلى «أغمات» (قرية بالمغرب)، وهنا يقول شكيب باقتضاب ناقد لابن تاشفين: «فقد كان يمكنه أن يرفّه عيشه (وضمير الغياب عائد على المعتمد)، أو يسدُّ خَلّتَه (حاجته)، ولو كان منفيًا»!
   وربما يشفع لشكيب هذه الأمنية وهذا النقد الذي يمسّه الحزن والأسى، ما أُثر عن المعتمد حين أيّد الاستنجاد بالمرابطين والاستعانة بهم، ورده على المعترضين بمقولته التي أضحت مثلًا سائرًا: «رعي الجِمال خير من رعي الخنازير»!
 ولا تخفى دلالة الكناية في هذه العبارة، وما يتصل بها من تعلُّق بالعروبة والإسلام، فإذا كان الشك يذهب بهم إلى أن ابن تاشفين سيضم الأندلس إلى مُلكه، ويكون أسيره، فخير له أن يَرعى الجِمال في الصحراء العربية لدى ابن تاشفين، من أن يكون أسيرًا لدى ألفونسو السادس يرعى الخنازير في قشتالة!
ولا تنقضي رحلة شكيب دون ثمار علمية يانعة، تتمثّل في لقائه المستشرق الإسباني الكبير آسين بالاسيوس، الذي أطلعه على أربعة مجلدات مطبوعة، تتضمن الوثائق والصكوك العربية الباقية، وقد استدلّ منها على أن اللغة العربية كانت اللغة السائدة بين أهل طليطلة وما جاورها إلى نحو سنة
 1580 م، أي بعد خروج المسلمين منها بنحو خمسمئة سنة (1085 م)! ■