عبدالرحمن المعاودة الشاعر المعلّم

عبدالرحمن المعاودة  الشاعر المعلّم

كان لجاسم بن عبدالرحمن المعاودة، والد شاعرنا (ت. 1956)، والذي يهوى الشعر ويتذوّقه، مجلسٌ في بيته يستقبل فيه ضيوفه ويتسامر فيه مع أصدقائه.
 وفي إحدى الليالي داعبه أحد الأصدقاء وهو يغادر المجلس بأحد الأبيات الشعرية، وكان المعاودة الابن (ذو السنوات التسع وقتها) حاضرًا جانبًا من تلك الجلسة، فما إن غادر الضيف حتى قال لوالده إن هذا البيت من الشعر مكسور، وذكره على الوجه الصحيح، عندها استحسن والد شاعرنا هذا التعديل وردّ عليه بأن «أذنك أذن شاعر»، الأمر الذي تأثّر به المعاودة، فأصبح دافعًا له لنظْم الشعر، ومنها بدأ في محاولاته الشعرية، حيث قرأها على والده، فلقي دعمه وشجّعه على ذلك.

 

أخذ الابن يصقل موهبته بالاطلاع على كتب الأدب العربي وقراءة وحفظ القصائد لكبار الشعراء العرب، كالمتنبّي والمعرّي والبحتري وأبي تمام وغيرهم، حتى بلغ الخامسة عشرة من عمره وهو على مقاعد الدراسة، وإذا به يقرضُ الشعر الموزون المقفَّى، مما أهَّله لأنْ ينخرط ويشارك في المسابقات والنشاطات المدرسية بأنواعها.
نشأ الشاعر عبدالرحمن بن جاسم المعاودة (1911 - 1996)  الذي أبدع في ثلاثة حقول، هي التعليم والشِّعر والمسرح، وترعرع في مدينة أهله وأجداده؛ مدينة المحرق عاصمة مملكة البحرين القديمة ومركز النهضة الأدبية، كما يصفها الأديب الرحَّالة اللبناني أمين الريحاني في كتابه «ملوك العرب»، وفيها تلقَّى علومه الأولى، فقرأ القرآن الكريم وحفِظَه، وتعلّم مبادئ القراءة والكتابة لدى الكُتَّاب، ثم أدخله والده مدرسة الهداية الخليفية بالمحرق، وهي أول مدرسة نظامية في مملكة البحرين التي أنشئت عام 1919م، وكان ضمن أوائل الملتحقين بها، وبعدما أنهى دراسته بها ونجح بتفوق عام 1928م، جرى اختياره مع عدد من زملائه الطلبة الفائقين للانضمام إلى أول بعثة ترشّحها الحكومة للدراسة بالجامعة الأمريكية في بيروت، إلا أنه بعد مُضِيّ سنتين عاد هو وزملاؤه إلى البحرين دون أن يكملوا دراستهم هناك بسبب إلغاء البعثة، بتعليمات من مستشار الحكومة آنذاك، تشارلز بلغريف (ت. 1969 م)، إثْر معارضتهم وتنديدهم بقرار عزل بعض مدرّسيهم السابقين بمدرسة الهداية، الذين عارضوا تعديل المناهج الدراسية.
وعقب عودته من بيروت عام 1930م تم تعيينه مدرسًا بمدرسة الحد الابتدائية، لكنّه لمَّا فوجئ بمستوى المناهج التي لم تكن تتوافق مع الطموح والتعليم الحديث الذي تعلَّمه خلال دراسته القصيرة بالجامعة الأمريكية في بيروت، لم يتردد في تدريس طلبته موضوعات خارج المنهاج المقرر، كان يرى فيها أنها المناسِبة والمفيدة لهم، لكنّ ذلك لم يدُم طويلًا حتى اكتشف أمره ناظر المعارف وقتها، فائق أدهم، فرفع أمره إلى وزير المعارف آنذاك الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة (ت. 1966 م)، فطلب منه العدول عن ذلك، إلّا أنه لم يتجاوب، مما اضطره لتقديم استقالته.
وفي العام نفسه الذي عاد فيه من بيروت مشْبَعًا بحماس الشباب المتطلع نحو الثقافة والأدب، شارك المعاودة وبعض من زملائه طلبة البعثة مع نخبة من المثقفين والأدباء في إعادة إحياء النادي الأدبي بالمحرّق الذي أسس عام 1920م، وأُغلِق بعد مضايقات من السلطات البريطانية آنذاك، وهو النادي الذي ساهم عام 1927 م في تكريم أمير الشعراء أحمد شوقي وأهداه، باسم البحرين، نخلة من الذهب مرصَّعة بحبات من اللؤلؤ البحريني.

الإصلاح 
   لعل ما فعله ناظر المعارف كان فأل خير على عبدالرحمن المعاودة، فبعد أن استقال من دائرة المعارف افتتح عام 1935م مدرسته الخاصة وأسماها مدرسة «الإصلاح الأهلية». وفي حديث أجراه معه الأديب أحمد المناعي نشرته مجلة كلمات (العدد رقم 3، يونيو 1984م)، الذي يُعَدُّ من أفضل المراجع التي تتحدث عن المسيرة الإبداعية للمعاودة، ذكر أن ما قصده من تسمية مدرسته بهذا الاسم هو إصلاح ما أفسدته السياسة الإنجليزية بتدخُّلها في مناهج التعليم، ورَدًا عمليًا على ما فعله معه ناظر المعارف (السيد أدهم)، مُحققًا بذلك رغبته في ممارسة عمله الوطني بحُرية وتجرُّد.
ركَّز المعاودة في منهاجها على المفيد والمهم في مواد اللغة العربية والحساب واللغة الإنجليزية والجغرافيا والتاريخ، إضافة إلى غرْس العادات والاتجاهات الحسنة وبثّ الروح الوطنية والقومية في نفوس الطلبة عن طريق التوجيهات والنشاطات الأدبية والثقافية التي تقام في المناسبات الدينية والوطنية، ومن أهمها المسرحيات الشعرية التي تُعرض في المناسبات الدينية أو في نهاية كل موسم دراسي، والتي يقوم بتأليفها وإخراجها بنفسه، ويمثّلها طلبة المدرسة، وكان المعاودة بهمته ونشاطه وما يهدف إليه من عمل وطني وخدمة اجتماعية يقدّمها لأبناء وطنه يلقى جُلَّ الاهتمام والتشجيع من الوجهاء والموسرين الذين كانوا يقدّمون الدعم المادي والمعنوي للمدرسة، في حين يساهم البعض من أصدقائه في التدريس من دون مقابل مادي، كما أنه يراعي ظروف الطلبة من أبناء الأسر المحدودة الدخل، فمنهم مَن يدفع نصف الرسوم الدراسية المقررة، والبعض الآخر يتسامح معهم ويعفيهم من الدفع. وإضافة الى ذلك تقدّم لهم المدرسة معونات على شكل كسوة موسمية.
وقد انعكست تلك الجهود المنصبّة على رفع مستوى التعليم بالمدرسة على معظم طلبة المعاودة، الذين يتخرّجون فيها حاملين الشهادة الابتدائية، والتي تعادل شهادة المدارس الحكومية وباعتراف من دائرة المعارف آنذاك. وقد واصل بعضهم دراسته بعد ظهور التعليم الثانوي، والتحق المتفوقون منهم ببعثات دراسية في الخارج، ونالوا الشهادات العليا وتبوأوا أعلى المناصب في القطاعين الحكومي والخاص، وكان من أبرزهم السيد يوسف أحمد الشيراوي (وزير التنمية والصناعة الأسبق)، والدكتور علي محمد فخرو (وزير الصحة ثم وزير التربية والتعليم الأسبق)، الذي وصف المدرسة وهو يتذكر بواكير تعَلُّمِه فيها بـ «المدرسة التليدة التي كانت آنذاك من المدارس الخاصة الأولى»، وذلك خلال حديثه مع د. عبدالحميد المحادين، ونُشِر بمجلة البحرين الثقافية (العدد رقم 29، يوليو 2001م)، وكذلك الأستاذ علي سيار (أحد روّاد الصحافة في مملكة البحرين)، والذي استعرض ذكرياته على صفحات مجلة صدى الأسبوع (العدد رقم 960، 22 مايو 1990م)، قائلًا: «إن نشوة الفرحة بقرب الدخول لمدرسة المعاودة كانت كاللمسة السحرية التي هزَّت المياه الراكدة في خيالي».
لذلك حظيت مدرسة الإصلاح الأهلية بإعجاب الأهالي وأولياء الأمور وتقديرهم، وأضحت مضرب المثل في المستوى التعليمي المرتفع في ذلك الوقت، ليحقق المعاودة بذلك طموحه بتأسيس وإدارة مشروع تعليمي تنويري، وليصبح بعدها أحد رجالات التربية والتعليم المؤثّرين في البحرين، وتقديرًا من الدولة، فقد تم تكريمه عام 1994م كأحد رواد التعليم في المملكة خلال احتفال رسمي كبير بمناسبة عيد العلم السابع والعشرين، ومرور 75 عامًا على بدء التعليم النظامي برعاية وحضور المغفور له أمير البحرين السابق الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة (1961 - 1999م).

شاعر الشباب
ظهرت أولى محاولات المعاودة لقرْض الشعر مبكرًا وهو على مقاعد الدراسة، وذلك عندما نظَم أبياتًا شعرية يمتدح فيها فضل العلم والتَّعَلُّم، وألقاها خلال أحد الاحتفالات المدرسية التي أقيمت برعاية الأديب الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة (ت. 1964م)، والتي حازت إعجابه، واستحسنها أساتذته الذين تأثر بهم، ومنهم الشيخ عبدالعزيز العتيقي وعثمان الحوراني ومحمد الفراتي وعبدالرحمن اليماني، وعليه فقد نال جائزة أحسن تلميذ بمادة اللغة العربية.
وكانت إطلالته لأول مرة كشاعر عندما ألقى قصيدة أمام المغفور له حاكم البحرين السابق الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة (1932 - 1942) في 11 فبراير 1933م بمناسبة احتفالات تتويجه حاكمًا للبلاد في قاعة بلدية المنامة، وذلك بحضور كبار شيوخ الأسرة الحاكمة والمقيم السياسي بالخليج العربي، والمعتمَد السياسي في البحرين، وجمْع من رجالات البلاد. يقول في مطلعها:
لعرشك ترنو كل عين وتنظر
وباسمك هذا الشعب يعلو ويفخر
ويومك هذا في الزمان محجّل
وتاجك محروس وعهدك أزهر
ثم يقول:
وهذي بلاد الدُّرِّ فاض نعيمها
علينا وخيرات بها تتفجر
ربوع بها حُسْنُ الطبيعة باهرٌ
وروْض بهيج الطَّلْع يصفيه كوثر
ولا زلتَ محروسًا بعين عناية
من الله ما قد قيل الله أكبر
  أما القصيدة التي اشتُهِر بها فهي قصيدة رثاء ملك العراق فيصل الأول، وألقاها عام 1933م، في حفل التأبين وسط تجاوب كبير من الجماهير المحتشدة، ومنها قال:
دموع يعرُب حارت في مآقيها
أذعَقها الدهر في أسمى أمانيها
ناحَ العراق فضجَّت مصر وانتحبت 
نجدٌ وهزَّت بلبنان رواسيها
مواطن العُرْب مازالت توحِّدها
 أمّ اللغات وتزهو في مغانيها 
يا يوم نعي أبي غازي ومصرعه
ما أنْ وجدت له في الدهر تشبيها
دار السلام تحيّات معطَّرة
إليك بالود يا بغداد نُهديها
  ومنها انطلقت آمال المعاودة وتدفقت قريحته، ليعبّر من خلالها عن مشاعره، وليحاول غرْس نهجه الفكري والتنويري عبر شخصيته المُحِبة لدينه ووطنه وقوميّته العربية، وليرفع صوته منبِّهًا وناقدًا للأوضاع السائدة في تلك الأيام محليًا وعربيًا، وأخذ يبثّ الحيوية والحماس في نفوس الشباب ويداعب مشاعر الجماهير بشعره الجزْل، ويدعو أمته الإسلامية والعربية إلى اليقظة ويذكّرها بمجدها السالف المزدهر، مما دعا صديقه الحميم ورفيق دربه الأديب عبدالله بن علي الزايد، إلى أنْ يلقِّبه بشاعر الشباب، عندما قدّمه ونشر قصائده في جريدته «البحرين»، التي أصدرها مع مطلع شهر مارس 1939م، وكانت أول جريدة أسبوعية سياسية تصدر في منطقة الخليج العربي، ثم عند تقديمه لديوانه الأول «ديوان المعاودة»، الصادر عام 1942م. في حين ذكر زميله الأديب إبراهيم العريض في كلمة خاصة نشرتها له جريدة الأيام (العدد رقم 2631، 19 مايو 1996م)، «أنه كان يمثّل لسان حال الجميع، واللقب الذي أطلق عليه كان أصدق تعبير للواقع، فكانوا يسمّونه شاعر الشباب، وفي ذلك الوقت، فإن الشباب بكل ما كان يحيط بهم من هموم كان المعاودة يعبّر عنهم، والذي حمل علم الشباب وخدم البلاد عن طريق التعبير عن رغباتهم وتطلعاتهم».

قضية المديح والمناسبات
  وعما ذُكِر بأنه شاعر المناسبات، يقول المعاودة في لقاء أجراه معه الأديب كارنيك مينسيان بجريدته الخميلة (العدد 7 - 1 /11/ 1951م)، «إنهم أرادوها نقدًا وأنا أعتبرها شرفًا وحمدًا، فلا يُسمعُ شعر إلا إذا هاجت العاطفة لذكرى دينية أو لمناسبة وطنية أو قومية، أقف فيها أمام جموع الناس مناديًا بالإصلاح، ومذكِّرًا بالماضي السعيد، مجابهًا بالحقائق التي لا غبار عليها، خدمة لديني وتفانيًا في سبيل رِفعة شأن قومي».
أما عن المديح فيقول «إنني لا أمدح إلّا مَن يستحق أو له علاقة طيبة معي، وهو جواز مرور للمناداة بالإصلاح والحديث عن الأماني والتطلعات الوطنية والقومية». وخير مثال على ما ذكره شاعرنا يتمثَّل في قصيدته التي ألقاها أمام حاكم البلاد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة (1942 - 1961)، وذلك بنادي البحرين في المحرق، بمناسبة الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج عام 1952م، وفيها يقول:
يا أشرف الخلق حسبي اليوم مفخرة
أنّي بمدحك قد أكمدت حُسّادي
لي من شفاعتك الفُضلَى عظيم رَجا
يا خير مَن سار في سهل وأنجادِ
ثم يخاطب حاكم البلاد في نهايتها قائلًا:
يا أيها العاهل الميمون طالعُه
يا وارث المجد من سيد وأسياد
هذي بلادك لا ترجو سواك لها
لدى الحوادث من عون ومن هادي
لكم أيادٍ على البحرين شاملة
من حاضرين بها في الناس أو بادِ
إنَّا لَنرجوك إتمام الجميل بما
نراه للقوم من خير وإسعاد
فاحفظ لقومك يا مولاي حقَّهُمُ
فليس منهم سوى أهل وأولاد
وحقَّق الله آمال البلاد بكم
ودمتَ موئل أقوام وقُصَّاد

مشاعر الحنين
ولما كان طريح الفراش بأحد المستشفيات في دولة الكويت عام 1951م، وكان حينها يعمل بالتدريس في إحدى مدارسها، وبعد زيارة له قامت بها مجموعة من أصدقائه من أهل البحرين، تفتَّحت قريحة شاعرنا المعاودة بالحنين لربوع الوطن ومهد صباه، فنظَم قصيدة عصماء أسماها «حنين»، وبعث بها إلى مجلة صوت البحرين، التي نشرتها في (العدد 8، السنة 1، مايو 1951م)، ومنها يقول:
هو الماء لكن في لهاتي صاب
فهل لي للبحرين بعدُ إياب؟
فيا موطنًا لو أستطيع فديته
بروحي ولو عندي عليه عتاب 
طريح فراش أثقل الهمُّ قلبَه
فيا ليت حولي من ثَراك تراب
إذ لاح من نحو المحرّق بارق
حننت وأضناني جَوَىً وعذاب
هنالك أرباع الطفولة والصبا
وأهلٌ كرام حولها وصِحاب
فيا من يرويني بعذب عيونها
فقد ظمِئت نفسي وعزَّ عليَّ شراب
بنِي البلد الميمون يا خير معشر
على البال أنتم لو يطول غياب
سأذكركم ما غرَّد الطير أو هفا
إلى وكره أو طار عنه عقاب
وقد لقيت القصيدة هذه صدى واسعًا لِما احتوت من معان ومفردات مؤثِّرة تجاه حب الوطن ومكانته الرفيعة، مما أثار اهتمام القائمين على المناهج التعليمية في وزارة التربية والتعليم بمملكة البحرين، فأدرجوها ضمن مقرَّر مادة اللغة العربية للمرحلة الإعدادية، كما عبّر العديد من أصدقائه وطلابه عن مشاعرهم الجيَّاشة نحوه، وكان في مقدمتهم الأستاذ علي سيار، الذي تأثر ونظَم قصيدة بعنوان «رجْعُ الصدى»، تعاطفًا مع معلّمه ونشرها بالمجلة نفسها (العدد رقم 12، السنة 1، سبتمبر 1951م)، وأرفقها بمقدّمة معبِّرة قال فيها: إلى الذي انعتقت نفسُه عن رِقِّ العبودية، فانساق يقطع دروب الحياة في صبر وإيمان، تمزِّق أيامه الغربة ويأكل أعصابه الحنين. إلى أستاذي الشاعر عبدالرحمن المعاودة صدىً لقصيدته... ومنها:
أيها الشاعر الحزين رعاك
الله في وحشة الوحيد الغريب

الوطن
في كتابه «الأدب المعاصر في الخليج العربي» يذكر الأديب عبدالله الطائي أن المعاودة هو «شاعر الشعب» في البحرين، الذي نطق بآماله وعبَّر عن مشاعره، كما عُرف بأنه شاعر هيئة الاتحاد الوطني التي رفع المواطنون عن طريقها مطالبهم للحكومة في منتصف خمسينيات القرن الماضي، يقول في إحدى قصائده:
بني أوال أراكم لا تعون ألا
تسعون بالصدق في قول وفي عمل؟
 إذا الطغاة تمادوا في ضَلالِهمُ
يُقوّمون بحدّ السيف والأسل
 إنّي أرى حاضر البحرين يُنذرُنا
بما تخبّئهُ الأيام من عِلَل
سر في المحرّق أو سر في المنامة أو 
سر في الرفاع تعُد بالهمّ والخبلِ
إنْ شمت قصرًا، فذا سكنى العلوج وإنْ
 وجدت كوخًا فهذا مسكن الأهَلِ
وإن بُليت بداءٍ فالسلامُ على
 دنياك واذهب صريع السُّقم والعِلل
وإن ذهبت إِلى المسؤول تطلبه
 حقًا، فحقك في المريخ أو زُحَل
والإنجليزية الشَّوها رطانتنا 
 لدى الدوائر، يا للعار والخجل!
بعد هذه المعاناة، ومع مرور ما يقارب خمسة وثلاثين عامًا من المناداة بالإصلاح وحقوق الوطن والمواطن وهو معتلٍ المنابر، يأتي اليوم الذي يتغنى فيه لسان حال المعاودة بالانتصار والاعتزاز بتثبيت حق السيادة الوطنية والانتماء للأمة العربية، وذلك عندما أقرَّ مجلس الأمن الدولي باستقلال البحرين وصادق عليه. وعندها نظم قصيدة بعنوان «يا عروس الخليج»، نشرته له مجلة هنا البحرين، (العدد رقم 221، يونيو 1970م)، يقول في مطلعها:
بَزغَ الفجرُ في سماءِ أوالِ
 ومضى الليلُ دونَما إقفالِ
وتَناغَتْ حمائمُ الأيكِ فيها
 شادياتٍ بحُسنِها والجمالِ
وبِها قد تمايَلتْ باسقاتٌ
 من نخيلٍ في عزةٍ واختيالِ
وروى البحرُ قصةً عن كفاحٍ
 لبنيها معْ باهراتِ اللّآلي
ومنها:
شعراء البحرين هيّا لتسجيلِ
 انتصارِ البحرينِ للأجيالِ
سجِّلوه بشعر طَرْفَةَ والحارثِ
والضّليل هيّا وبالأزْجال
يا عروسَ الخليجِ يهنيكِ ما
 تَسْعَين في نيلهِ مِن استقلالِ
إنَّه حقُّنا وإن ضاعَ يومًا
 فلقدْ عاد بعدَ طولِ زَوالِ
أمةٌ يَعْرُبيَّة لم تنل من
عزمِها قَطُّ حادثاتُ الليالي
ومنها:
قادها الألمعي عيسى بن سلمان
فأكرِم لندب فخْر الرجال
وفّق اللهُ سَعيَنا وهَدانا
إنّه الواحدُ المجيبُ السؤالِ


العروبة 
كان المعاودة قريبًا مما يحدث من ظلم وعدوان على أمته العربية، فوقف وتعاطف معها وساندها في محنها، وبالأخص فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، وقد أدرك وتوقّع، كما الكثير من العرب، مدى الخطر الصهيوني وخطة الغرب المبيَّتة باحتلال أرض فلسطين المباركة وتقسيمها والإعلان عن قيام (دولة) للصهاينة، وقد أكد ذلك المفكر د. محمد جابر الأنصاري في مقاله المنشور بجريدة الأضواء (العدد رقم 101 - 10 أغسطس 1967م)، حين ذكر «وقصيدة المعاودة هذه يرجع تاريخها إلى سنة 1940م، أي قبل قيام (إسرائيل) بثماني سنوات، يشير فيها إلى شرْعَنَة القوة ويصوِّر الجهاد الفلسطيني البطولي ضد العدو الماكر بالقوة، ويدعو إلى المساعدة والمساندة، ومنها:
يؤرقني هَمٌّ على القلب جاثم
ووجْدٌ به رب السماوات عالِم
أغيثوا فلسطين الشهيدة إنها
مآسٍ تترى كلها ومآتم
هنالك إخوان علينا أعَزَّة
رأوا نصرة الإسلام أقصى مُنَاهُمُ
بلادكم البحرين بحر سماحة
وبحر هو الفضل الذي لا يُزاحَم
فجودوا لأبناء الشقيقة إنهم
بأرواحهم جادوا لحِفْظ حِمَاكُم
وفي قصيدة أخرى ينصح فيها الغرب بعدم السير في رَكْب الصهيونية يقول:
تأنَّ يا غرْب واحذر غضْبَة العرب
واحذر صهاينةً أغْرَوك بالذّهب
هم المعاول في صرْح الحضارة بل
هُمُو أداة فساد الخلق والعطب
ويواصل د. الأنصاري في المقال نفسه، فيذكر أن المعاودة قال قصيدته الموسومة «الجامعة العربية»، بعد اتِّضاح أبعاد النكبة، واشتداد الشعور لدى الناس بأن الجامعة العربية لم تفعل شيئًا في مستواها، وقد كان عبدالرحمن عزام باشا عندئذ أمينها العام، ومنها:
تمخَّضْتَ عن فأر فلا كنتَ يا جبلُ
ولا جَادَك الغيث الهتون إذا هطل
بَنِي العُرْب ما قولٌ لديكم بنافع
إذا لم يؤيَّد منكمُ بعدُ بالعمل
وجامعة في مصر للعُرْب أصبحت
لها صوتُها الدَّاوي ولكن بلا عمل
وفي كل يوم خطبةٌ بعد خطبةٍ
لعزَّام في جمْع بعزام يحتفل
وفي كل قُطْر للعروبة مُشكل
وجيش، ولكن دهره يشتكي الشلل
فهذا نصيب العاجزين وحظُّهم
من العيش والمجد العظيم لمن عمل
وضمن ما كان يتطلع إليه الشاعر من تكاتف وتعزيز روح التكافل الاجتماعي القومي تجاه إغاثة الشعب الفلسطيني المكافح، قدَّم لنادي البحرين، الذي نظَّم عام 1948م احتفالًا بمناسبة الإسراء والمعراج، 1000 نسخة مطبوعة من قصيدته التي ألقاها في ذلك المحفَل لبيعها على الجمهور وتقديم رَيْعها إلى لجنة إعانة فلسطين بالبحرين، وقد بيعت جميعها بمبلغ خمسة عشر ألف روبية، أي ما يعادل ألفًا وخمسمئة دينار بالعملة الحالية.

أول تجربة نقدية
في كتابه «المرجعية والانزياح»، يرى الأديب والناقد د. إبراهيم غلوم، أن أول تجربة نقدية محلية متصلة بالحوار حول قضية الأدب في البحرين والخليج تمحورت حول قصائد المعاودة، وذلك عبر مقالات نشرتها جريدة البحرين على صفحاتها في الفترة ما بين 16 أكتوبر 1941م و23 يوليو 1942م، لعدد من المثقفين، بدأها الأديب عبدالله بن محمد الرومي من «الأحساء» السعودية، الذي تزَعَّم الفريق الأول في الحوار، والذي يرجع إليه الفضل في إثارة الوسط الثقافي بهذه التجربة، وفق رأي د. غلوم، حين انتقد فيها الرباعيات الشعرية التي ينشرها المعاودة أسبوعيًا بجريدة البحرين، يعارض فيها رباعيات الشاعر الفارسي عمر الخيام، بينما تزَعَّم الفريق الثاني الأستاذ عبدالرحيم روزبة، الذي عمِل مدرسًا، إضافة إلى كونه شاعرًا وأحد الضليعين باللغة العربية وقواعدها.
كما يذكر المعاودة في حديثه مع المناعي بمجلة كلمات، المشار اليه آنفًا «أن هذه الأبيات الشعرية ليست ترجمة حرفية، إنما استلهمتُها من فلسفة الشاعر عمر الخيام وروحه من خلال ما يترجمه لي الصديق محمد سعيد، وأقوم بصياغتها متمثلًا بروحه، ومستعينًا بثقافتي حول فلسفته وحياته، ولا ألتزم دائمًا بحرْفية الفكرة والتعبير، لذا، فإنّ الرباعيات يمكن نسبتُّها إليَّ أكثر من نسبتها إلى الخيام». 
ويضيف أن موقفه من ذلك النقد والجدل المتبادل حول تلك التجربة، كان موقف المحايد، وأنه احتفظ لنفسه بالمعنى الذي يقصده، ومن هذه الأبيات قال:
هامت الروح بوادٍ من خيال 
فتراءى لي من الحق ضلال
قلت واهًا نحن في قيلٍ وقال
قصُرت أفهامنا عمّا يرام
 وقد انتهت المقالات الناقدة وردودها المؤيِّدة عندما وصلت إلى منعطف خطير، نظرًا لتعَصُّب كل من الفريقين لرأيه، وممن أدرك ذلك الشيخ عبدالحسين الحِلِّي، الذي كتب مقالًا في الجريدة نفسها طالب فيه الفريقين بالتوقف عن النشر والنقد المتبادل الذي كان على وشْك الخروج عن نطاق النقد الأدبي، الأمر الذي استجاب له الجميع.

إصداراته
أصدر شاعرنا المعاودة عام 1942م «ديوان المعاودة»، وعام 1952م ديوان «لسان الحال». ومع ارتحاله إلى دولة قطر عام 1958م صدر له ديوان «القطريات»، وبعده أصدر ديوان «دوحة البلابل» عام 1960م.
ومما تجدُر الإشارة إليه أن صديقه الأديب عبدالله الزايد، صاحب مطبعة البحرين، كان قد نشر له عام 1935م ديوان «قصائد العرش في أربع سنوات»، واحتوى على 4 قصائد يمدح فيها حاكم البحرين آنذاك الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة.

المسرح
خاض المعاودة تجربة رائدة في كتابة وإخراج المسرحيات الشعرية، فكان مِن أوائل مَن قدَّم المسرح الشعري في البحرين والمنطقة، وكان يرعى هذه المسرحيات ويحضرها كبار شيوخ الأسرة الحاكمة، يتقدّمهم حاكم البحرين الأسبق الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، والأديب الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة، ووزير المعارف الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة. 
تأثر المعاودة بما شاهده خلال فترة دراسته في بيروت عام 1928م، فهناك تعَرَّف على مسرح أحمد شوقي، وقرأ فنون المسرح، فضلًا عن مشاهدته بعض العروض المسرحية التي كانت تُعرض هناك، ومنها أحد أعمال فرقة عميد المسرح العربي يوسف وهبي.
ويذكر د. غلوم، في دراسة له عن تجربة المعاودة المسرحية، نُشِرت بمجلة كلمات (العدد 3، يونيو 1984م) أن المعاودة هو أكثر من اهتمّ بالمسرح من الشعراء المعاصرين في البحرين والخليج العربي. فيما يذكر الأستاذ علي سيار باعتباره أحد الطلبة المشاركين في تجربة المعاودة المسرحية آنذاك، في مقال له على صفحات مجلة صدى الأسبوع (العدد رقم 762 - 24 يونيو 1986م) أن تاريخ المسرح في البحرين ارتبط منذ نشأته باسم الأستاذ عبدالرحمن المعاودة، لدرجة أن الناس كانوا يترقَّبون كل سنة بكثير من الشوق العرض المسرحي الذي تقدّمه مدرسة المعاودة في نهاية كل موسم دراسي.
قدّم المعاودة 9 مسرحيات بدأها منذ منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، واستمرت حتى مطلع الخمسينيات، وذلك من خلال مدرسته، وأحيانًا بالتعاون مع بعض الأندية الثقافية كنادي البحرين ونادي الإصلاح الخليفي. وكان يقوم بكتابة نصوص مسرحياته وإخراجها، في حين يقوم طلبة مدرسته بتمثيلها، بالمشاركة مع آخرين من أعضاء الأندية. وغالبها كانت أحداثها مستقاة من كنوز التاريخ العربي والإسلامي ومجد الأسلاف، وتلك المسرحيات هي: عبدالرحمن الداخل، والرشيد وشارلمان، وسيف الدولة الحمَداني، والمستعصم بالله، وجبَلة بن الأيْهم، وأبوعبدالله الصغير، وسقوط بغداد، والعلاء الحضرمي ويوم ذي قار.

الانتقال والاستقرار في قطر
  مع ارتطام حماسة شاعرنا بصخور السياسة والأوضاع الداخلية التي سادت بالبحرين في ذلك الوقت، انتقل مع مطلع النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي إلى دولة قطر ليستقرّ فيها، وذلك بدعوة من حاكمها آنذاك المغفور له الشيخ علي بن عبدالله آل ثاني، الذي عُرِف عنه حب وتذوُّق الأدب والشعر العربي، وتقديره واحترامه للأدباء والشعراء.
وهناك لقِيَ المعاودة كل الترحيب والرعاية منه، ولازمه في مجالسه وسفره، وكذلك عُيِّن مديرًا لمدرسة عمر بن الخطاب بالعاصمة القطرية الدوحة. ثم انتقل للعمل في دار الكتب القطرية حتى تقاعده. وفي عام 1958م شارك شاعرنا كممثل رسمي عن دولة قطر في مؤتمر الأدباء العرب الذي عُقِد في دولة الكويت.

رحيله
انتقل الشاعر عبدالرحمن المعاودة إلى رحمة الله تعالى في 18 مايو 1996م وهو يتلقى العلاج بالعاصمة البريطانية لندن، ودفن في دولة قطر. وتصَدَّر خبر الوفاة الصحف في البحرين وقطر وبقية الدول العربية، وخصصت له صفحات خاصة عن آثاره وسيرته الإبداعية ومناقبه، ونشرت فيها قصائد وكلمات الرثاء بأقلام العديد من الأدباء والشعراء والكُتَّاب، في حين أقام نادي المحرق حفلًا تأبينيًا أُلقيت فيه الكلمات والقصائد المؤثرة والمعبّرة عن صدق المشاعر تجاه الشاعر، يرحمه الله، وتخليدًا لإرثه الوطني والقومي. ومن قصائد الرثاء المؤثرة ما جادت به قريحة صديقه الوفي الشاعر الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة، وقال فيها:
أبا قاسم تبكي عليك «المحرّق»
لأنك شاديها الذي يصدُق
طلعت بها تستنهض الكهل والفتى
كنبراس نور في الدُّجى يتألق
ففي كل ناد صُغتَ كلّ قصيدة
تثير حماس القوم والجهل مُطْبِق
هجرت ثراها وهي تبكي فأصبحت 
بثوبك من أحزانها تتعلّق
وقد عشت كالطير الغريب مغرِّدًا
لها بالأماني وهي بالعز تسمق 
رأيتك من فوق المنابر واقفًا
خطيبًا ولا يعييك في القول منطق
أبا قاسم إن «المحرق» برَّة
بحبك، والمحبوب لا يتملق
أبا قاسم في يوم نعيم خانني 
 بياني وفي كفّي اليراعُ يحدِّق
أأرثي نديمي في الحياة وشاعري
وأفقد من كادت به الروح تلصق؟ ■

 

عبدالرحمن المعاودة (الثالث من يمين الصورة) مع مدرّسي وطلبة مدرسته (الإصلاح الأهلية) في حوالي عام 1938م