الروائح مدخل للتسامح وفهم العالم

الروائح مدخل للتسامح وفهم العالم

كثيرون ممن خبروا فقدان الشم أثناء إصابتهم بفيروس كورونا، ازدادوا تقديرًا لهذه الحاسة. فيقول أحدهم، إنه كان يتمنى أن يشم أي رائحة - حتى تلك التي لطالما اشتكى منها - وليحقق أمنيته صار يذهب إلى المطبخ ويضع أنفه في زجاجات البهارات، ويفرح عندما يشمّ - لجزء من الثانية - الروائح المحبوسة - ولاسيما رائحة الهيل والقرنفل - ولكي يتأكد من طيب رائحته، التي لم يعد قادرًا على شمها، كان يسرف في رشّ العطر على نفسه. وهكذا راح «يشمشم» هنا وهناك في محاولات مستميتة لاستعادة نعمة لم يكن يدرك قيمتها كما ينبغي قبل إصابته. 

 

 

لكن مهما قدّر هذا المصاب وغيره حاسة الشم، من الصعب أن ينافسوا شخصية مثل د. سيسل تولاس التي اشتهرت بشغفها بالشم والروائح - السارة وغير السارة - حتى أصبح لديها أرشيف يضم آلاف الروائح.
بدأ اهتمام د. تولاس (النرويجية الأصل) بحاسة الشم وعالَم الروائح منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، وعبر رحلتها الطويلة، كانت ولا تزال تؤمن بوجود عالَم كامل من الروائح ومدى واسع من الطرق التي يمكن اتّباعها لرفع الوعي بأهميتها. فهي تحاول دمج البحث العلمي بالإبداع الفني وباللغة، حتى أصبحت تصف نفسها بــ «المهنية البينية» - الحاصلة على الدكتوراه في الكيمياء، والدارسة للغويات سبع لغات، والفنانة المبدعة - وترى أن ما يهم هو المعرفة الحقيقية العميقة التي اكتسبتها، ولا ضير بعد ذلك أين تضع نفسها مادامت الروائح في كل مكان.
ولهذا، لا تستطيع تحديد نفسها في مجال دون سواه والتفرغ له، بل تقتحم مجالات العلوم والتكنولوجيا والفنون والعالم التجاري، لكي تتطور، وتحقق التوازن وتتمكن من مخاطبة التعقيد في نشاطها. 
وهكذا، تقع وظيفتها بين عالمَي العلم والإبداع - من خلال التعاون مع شركات مثل «IFF» المعنية بأنشطة النكهات والروائح - فهي تستخدم مهاراتها الإبداعية لإظهار إنجازها العلمي، وتضع البحث في سياقات إبداعية وتجارية مختلفة حول العالم. وما يدفعها لذلك فكرة قدرتها على المساهمة ليصبح العالَم أفضل، وليكون الإنسان أسعد.
تعكف تولاس في معملها الخاص في برلين، على تحليل ما تجمع من روائح، ثم تصنّفها وتضعها في أرشيفها الذي يضم أكثر من عشرة آلاف رائحة مختلفة، حصيلة رحلة ممتدة من دسّ أنفها في كل شيء وأي شيء - الأجساد، والغسالات، والأحذية، والجوارب، والزهور، وحاويات القمامة، والملابس المعروضة في المحالّ، والجدران العتيقة، والخضر والفاكهة، وأطباق الطعام الفوّاحة، والقهوة، والبيوت، والمقاعد، والتبغ، والأسماك، والمخبوزات، وغير ذلك كثير - وهكذا تفعل كلما زارت مكانًا لتبدأ رحلة البحث في عالم غير مرئي من الروائح التي تشكّل جزءًا من هوية الأشخاص والأماكن والمدن.
قالت - في إحدى مقابلاتها - إننا جميعًا نمتلك كنوزًا مجانية: «عتاد» الجسم السليم و«برمجيات» الحواس، حيث نفهم العالم وندركه عبر حواسّنا، وبدلًا من الاعتماد على حاسة البصر، علينا استخدام الحواس كلها التي من بينها الشم حتى نخبر العالم بصورة عاطفية وعميقة ومختلفة؛ وأكدت أننا إذا فهمنا الأمور عاطفيًا، فإننا لن ننساها مطلقًا. 
وعن طريقة عملها ذكرت أنها تسجّل ملاحظاتها في مفكرة معتمدة على برمجياتها الطبيعية - أنفها - وتسأل المحيطين عن آرائهم في الروائح وتستمع إلى حكايات عن الأماكن والناس من السكان الحاليين والسابقين. ومع تطور التكنولوجيا، أصبح لديها جهاز يلتقط الجزئيات بما فيها من روائح تحتوي على مئات المركبات؛ وبمساعدة برمجيات وتكنولوجيا أخرى، تحفظ الروائح أو تثبتها على أسطح للعرض؛ حيث تنصهر خبرتها كباحثة وفنانة ودارسة للغويات، وتنطلق في رحلة بحث مدهشة عن طريقة لوصف الروائح والتعبير عنها، ومشاركتها.

معارض الروائح 
من أجل لفت الانتباه إلى حاسة الشم المهملة، أقامت د. تولاس عديدًا من معارض الروائح، مثَّل بعضها روائح بلدان ومدن درستها، مثل مكسيكو سيتي، وكانساس سيتي في أمريكا، وكيب تاون بجنوب إفريقيا، ومدن أخرى في سنغافورة، ومبان أثرية.
ومن معارضها ما جاء بعنوان «رائحة الخوف، والخوف من الرائحة»، جمعت فيه روائح أشخاص تعرّضوا للخوف الشديد، وشاهدت كيف يخاف الناس من الروائح ويتجنّبونها. وقدمت عام 2017 رائحة مدينة ملبورن الأسترالية المكونة من عشرين رائحة فريدة - سارّة وغير سارة - يمكن شمّها وبناء صورة ذهنية للمدينة من خلالها. وكنوع من المشاركة، دعت الجمهور لتخمين مصدر كل رائحة، بهدف فهم المحيط والتواصل مع حاسة الشم المفقودة.
وقد اتخذت تولاس من الروائح مدخلًا للديمقراطية، لقدرتها على عبور الحدود والوصول إلى جميع الأنوف دون تمييز، ووسيلة لتعزيز التسامح والمضيّ لأبعد من رائحة طيبة أو غير طيبة، فلا رائحة كريهة - من وجهة نظرها - وما يجعلها كذلك تفكيرنا بها على ذلك النحو من جراء تأثير صناع عطور «التغطية» والمنتجات الكيميائية المعقّمة والكابحة للروائح الطبيعية. وطالبت بالشم بموضوعية دون إطلاق أحكام؛ ونادت بتدريب الأنوف على الشمّ منذ مرحلة رياض الأطفال، حتى لا نحتاج إلى أنوف اصطناعية تشم لنا في المستقبل.
ولنشر الوعي بأهمية حاسة الشم التي نحصل من خلالها - بصورة واعية أو غير واعية - على معلومات تمكننا من التواصل مع البيئة ومع الناس، ومعرفة الروائح الطبيعية قبل تغطيتها بروائح اصطناعية غالبًا ما تضرّ البيئة، نظمّت ورش عمل ممتعة لمشاركين من مختلف الأعمار، تعلموا كيف يستخدمون أنوفهم جيدًا ويبحثون عن الروائح في الأشياء والأماكن بمرح. وأكد بعض مَن حضرها أن نظرته للعالم تغيّرت بعدها. فقد كانت تستخدم الروائح لتحفيز الذكريات المتعلّقة بالأماكن والأزمنة والأشخاص، وتثير الاستجابات الفكرية الطازجة والمشاعر التي تجعل الإنسان يتقدّم أكثر مما تفعل البيانات الكمية والأرقام - والدليل أنه منذ أكثر من ربع قرن يتم الإعلان عن التغيّرات المناخية، وتصدر التقارير والإحصاءات ولا شيء يحدث - كما ربطت الروائح بخبرات التعلّم، وجربت التعليم على خلفية ما يستنشق المتعلم من روائح، وأثبتت هذه الطريقة فعاليتها، حيث تذكر المتعلمون المعلومات بصورة أسهل.

روائح شخصية
من جانب آخر، تمكنت د. تولاس من تصميم روائح لشركات ومنتجات - كالبترول والنقود - تروي حكاياتها شمًّا؛ وشاركت في مشروع إحياء رائحة الزهور المفقودة الذي بدأ بكمية صغيرة جدًا من «DNA» مستخلص من ثلاث زهور - اختفت في القرن التاسع عشر- مخزّنة في جامعة هارفارد.  كما استخلصت روائح شخصيات مشهورة - مثل لاعب كرة القدم السابق ديفيد بيكهام - وأضافت الروائح إلى أجبان قدّمت في مناسبات خاصة - كأولمبياد لندن - وتؤكد أن لكل رائحة إمكانات وجوهرًا وتيمة أساسية - مثل الموسيقى - والبقية تفاصيل تكمل الصورة. وهكذا يمكن التجول في الأماكن وفهمها والتواصل مع العالم من خلال روائحها، أما التقاط روائح المدن فيحتاج إلى إبداع. فهي عادة ما تجمع الروائح الثابتة لا المؤقتة، فمن شنغهاي مثلًا جمعت أكثر من 500 رائحة أغلبها لأطعمة، فكانت تمشي بالشوارع في الصباح الباكر، وفي منتصف النهار، وفي المساء، لتتأكد من أن الرائحة ليست عابرة. أما تحليل الروائح فيتضمن كيمياء معقّدة. وترى نفسها محظوظة لحصولها على أدوات مدهشة لتحليل مكونات الروائح، وأخرى تمكّن من تسجيل الرائحة لـ «نانو» ثانية. وهكذا أصبحت لديها قاعدة بيانات لروائح تساعدها على إعادة تحضيرها.

البحث عن عدم الراحة
ولدت د. تولاس في الساحل الغربي بالنرويج، حيث تتطلع الغالبية إلى الغرب - أمريكا بالتحديد - لكنّها نظرت إلى الشرق، وتركت موطنها وبيتها الآمن في عمر السابعة عشرة إلى بولندا، ثم إلى روسيا لدراسة الكيمياء العضوية واللغويات، فقد كانت تريد مكانًا لا تشعر فيه بالراحة. وعندما ذهبت إلى روسيا، كان كل شيء مسيسًا. وربما للهروب من التواصل اللفظي الشائك، بحثت عن تواصل مختلف قادها في النهاية إلى هوسها بالروائح والشم الذي تراه مكونًا أساسيًا من إنسانيتنا، لاسيما أننا نتنفس أربعًا وعشرين ألف مرة في اليوم، ويخبرنا كل نفس بشيء ما عن العالَم من حولنا.
وعن فيروس كورونا تقول إنه أفقد الناس التذوق والشمّ، وحرمهم من متع وذكريات ومشاعر تشكّل عناصر ضرورية لشعورنا بالحياة. وترى أننا بحاجة إلى التفاوض مع العالم، وإيجاد فرصة لإعادة التفكير في معنى الحياة، ومعنى أن نكون على قيد الحياة. وذكرت أنها شعرت بأن ما حدث جزء من تجربة الحياة التي منحت الاهتمام - فجأة - للهواء الذي نتنفس، وبالقدر الذي يستحق. وترى أن آثار «كورونا» ذهنية مثلما هي جسدية، بسبب التهديدات التي تهاجمنا وتستهدف أكثر الحقوق الإنسانية ضرورة، وهو الحق في التنفس. 
وعن نفسها تقول إنها كانت مشغولة بشمّ العالم، واليوم لديها من الوقت ما يكفي لشمّ نفسها وتحرّي جزئيات الروائح غير المألوفة؛ والمركبات الكيميائية المنبعثة من الميكروبات التي يستضيفها جسدها؛ والبكتيريا والفيروسات التي تلعب دورًا مهمًا في النظام الإيكولوجي، حيث يتحدث التواصل اللامرئي. وتجد أنه قد آن الأوان للاعتراف بأننا لسنا وحدنا على الكوكب. ونتعلم كيف نتعلم من الكائنات الأخرى ونتعايش معها، أي نعيد النظر في أفكارنا ونعيد ترتيب حيواتنا.
وما يثير التفاؤل - وفقًا لتولاس - وجود جيل من العلماء يسعى لإثبات إمكانية الحديث عن الروائح بطلاقة، وابتداع كلمات معبّرة تمثّل لحظة استنشاق الرائحة، بدلًا من التشبيهات، عسى أن يقود ذلك لإعمال الخيال والإبداع، ووضع معجم روائح يساهم في تنشيط هذه الحاسة المنسيّة ■