لماذا اخترت هذه القصص؟

لماذا اخترت هذه القصص؟

جسّدت مجموعة القصص التي بين يديّ عبر كتّابها العرب المختلفين واقع الوطن العربي، بكل همومه وقضاياه، متمثلة في الفقر والحاجة والحروب والإرهاب والقتل، وما يموج به الراهن السياسي من عدم الأمان وعدم العدالة والطبقية، وما نتج عنه من آفات اجتماعية كالتسول، والهروب بحثًا عن الذات، والهجرة بحثًا عن الرزق الشحيح، وما خلّفته من أضرار مجتمعية. وقد اتكأت بعض هذه القصص على وجع إنساني عام ليس مرتبطًا بالعرب فقط، بل يصيب الإنسان في كل مكان وزمان، مثل قصة «متسول رغم أنفه». وجاءت قصة «تمامات» لتعالج من خلال بطلها الشاب حكاية البحث عن الذات في عالَم يغصّ بالمنكدات ويسحق رغبات الفرد، فكان الهروب من واقع مرفوض للبحث عن الذات في عالَم آخر ترتضيه. وفي قصة «وفاة صلاح الدين» جسّد الكاتب حالة الخوف والقتل والإرهاب وعدم الأمان المسيطر على واقع إحدى القرى وقد تعرّض بطل القصة لأحداث جسيمة سردها الكاتب بضمير الغائب في لغة سردية شيقة، وجعل مشاعر متباينة تنتابنا بين الخوف والرجاء وبين لذّة السرد إلى ختام الحكاية غير المتوقع، وقد تم الاختيار بناء على توافر عناصر السرد ومزجها مزجًا جيدًا مع الفكرة المتميزة في موضوعها والمحققة لهدف الكاتب من القصة.  وجاءت القصص الفائزة كالتالي:

المرتبة الأولى: «تمامات» لصالح عبدالله عليان/ مصر
لعل العنوان يحتاج منّا إلى وقفة توضيحية لدلالته الغامضة نوعًا ما، فـ «تمامات» هي مجموعة مفردة «تمام»، وهي صيغة عسكرية يدركها كل مَن تدرّب في الجيش، فحين يصرخ المدرب بتمام واحد يرد عليه المتدرب بتمام واحد، أو تمام ثلاثة، وهكذا حسب ترتيب الجندي.
ويدور موضوع القصة حول هذه التمامات التي تعني إطاعة الأوامر دون أن يكون لمنفذ الأوامر أي رأي فيها. ويتمحور محتوى النص حول الجندي سعيد الذي يسرد الراوي قصته بلغة السارد العليم بالأحداث، متتبعًا نمو الحدث المتمثل في هروب سعيد من نوبة عمله مستخدمًا لغة وصفية قامت بنقل حالة سعيد التي أدت إلى هروبه (ليلة باردة يملأها العواء، وتمامات الجنود، واصطكاك أسنان سعيد في برج المراقبة المطل على المقابر. يلملم نفسه كل حين ليصيح: «واحد تمام»، ثم يعود إلى وحشته وخيالاته).
 بعد أيام من المناوبة والخوف، هرب سعيد وركض كالمحموم بعيدًا، إلى أن وجد نفسه في قرية بعيدة وتلقّاه رجل عجوز ليعمل معه في دكانته، لكنّ سعيد ما لبث أن هرب مجددًا عن ذلك العجوز، وبلغة رامزة بيّن الكاتب أسباب هروبه، حيث اتضح أن هذا العجوز رجل مثلي يبحث عن جنس يتبادله مع سعيد، ويرمز الكاتب رمزًا شفيفًا عن هذا الأمر، حيث وصف العجوز بالأمرد، والأمرد هو الرجل الأملس الناعم بلا شعر في جسمه ووجهه، وعندما سأل أهل القرية العجوز عن سعيد قال هو يساعدني ثم يذهب، ولم يعرف سعيد «لِمَ أخفى العجوز سرّ مكوثه معه في المخزن»، لكنه في ليلة ماطرة باردة تمدد العجوز بجانب سعيد وأخذ يتحسس جسده بلذّة ويهمس: البرد بالخارج كالرصاص.
 إن هذه الجمل تشفّ عمّا وراء السطور عن انحراف الرجل العجوز ورغبته في إقامة علاقة منحرفة مع سعيد، هنا تبلورت عُقدة الحدث، حيث «انتفض سعيد وهو يضرب العجوز ويولّي هاربًا بسرعة». امتد المسير بسعيد حتى وقف بباب مسجد صغير، وانتبه له شيخ المسجد، فأدخله وأعطاه جلبابًا نظيفًا، وهنا نقف بين وصف حالتين مختلفتين، بل ومتضادتين، فهو عندما وصف الشيخ قال «أعطاه جلبابًا نظيفًا»، وعندما وصف لجوءه للرجل العجوز قال: «أعطاه جلبابًا متسخًا يملأه العرق»، وهو هنا يصور حياة الرجل المنحرف متسخة ذات رائحة كريهة، في حين أن حياة الشيخ كنّى عنها بالجلباب النظيف، وهذه مقارنة غاية في شفافية اللغة والجمال.
 إن هذه اللغة الموحية من دون كشف مخل هي ما يميّز القصة، ويكمل السارد: استمر سعيد لسنوات مع الشيخ، حيث تعلّم منه كل جميل إلى أن توفي الشيخ ودفنه سعيد وبات ليلته يتلو القرآن على روحه «حين حمل له هدوء الليل صوتًا - تذكّر مع نبرته المترددة ليلةً سُمع فيها دبيب هرولته على الطريق هاربًا - يقول: واحد تمام».
ختم الكاتب قصته بنهاية مفتوحة، لتنفتح تأويلاتنا حولها: هل تذكر سعيد ذلك اليوم الذي هرب فيه كنوع من التخيل؟ أم أنه فعلًا سمع صوتًا يعرفه لمن يطارده الذي اعتاد أن يردّ عليه (واحد تمام)؟ هل سيتم القبض على سعيد بعد هذه السنوات الطويلة من الهروب، أم أنه صوت قادم آخر أثار التخيلات والأوهام نتيجة لموت شيخه وعودة سعيد إلى وحدته الموحشة؟ إنه فتح أمامنا الخيارات لتأويل تلك النهاية الجميلة الموفّقة.
 هذه القصة تحققت فيها عناصر الدراما الناجحة، ابتداء من الحبكة الجيدة مرورًا بالعقدة المقنعة وتأزُّم سعيد، وانتهاء بالنهاية التي توضح أن سعيد نجح في الوصول إلى حياة نظيفة تناسب بحثه عن الذات الراغبة في حياة أفضل.

المرتبة الثانية: «وفاة صلاح الدين» لمحمود سعيد عيسى/ سورية 
    لعل أول ما يتماس مع الذاكرة الاسم الذي ورد في العنوان، صلاح الدين، حيث ينقل القارئ مباشرة إلى البطل القومي التاريخي صلاح الدين الأيوبي، لكنّ الكاتب لم يترك لنا مسافة لهذا الربط والتناصّ، حيث أورد في المقدمة مباشرة ما أزال ذلك الربط عندما قال: «كان صلاح الدين لا يزال جنينًا في بطن أمه»، وبعد وصف شاعري تداخلت فيه لغة الشعر بالسردية المشوقة يقول الكاتب «في القرية الصغيرة المرمية على صدر الفقر والبرية المفتوحة على الموت من كل الجهات، على أطراف المدينة المسكونة بالخوف والموت»، هنا ينبغي أن نهيئ أنفسنا لفاجعة ما، لعلها مرتبطة بالجنين صلاح الدين، ومع جمالية السرد والتذبذب ما بين الخوف والرجاء، يتابع القارئ حكاية صلاح الدين في بطن أمه الكادحة المتعبة نهارًا، والخائفة ليلًا من خيالات تفزعها من نومها، لتنهض باكية داعية «يا ربّ، خرّب بيت هؤلاء المجرمين القتلة كما خرّبوا بيتي».
 يعاني صلاح الدين نهارًا الارتطامات على جدران الرحم، نتيجة لعمل الأم نهارًا، ومن الخوف والبرد نتيجة لنوبات أمه الليلية، وفي إحدى الليالي عانى صلاح الدين الخبط الشديد المؤلم، فقد اشتدّت الانقباضات وعلا الصراخ، أصبحت جدران الرّحم قاسيةً، وسمع من يقول:
-  سوف نعلّمكم الطاعةَ يا حُثالة... 
أمسكَ صلاحُ الدين حبلَه السري وشَهَره كسيفٍ في وجه المعتدين، لكنّ ضربةً قويةً في البطن جعلته يدورُ حولَ نفسِه في حركةٍ دائريةٍ، والتفّ الحبلُ السُّري حولَ عنقه.
شعر صلاح الدين بأنهم يضربون أمه بآلاتٍ حادةٍ فتصرخُ هلِعة، كان يحسّ بيدي أمّه تحوطانه لتحميانه، وزادت ارتطاماته بجدران الرحم، بقسوة، وفجأةً لمع ضوءٌ خاطفٌ، شيءٌ حادٌ قاسٍ يمزّق أحشاءَها فيندلِقُ صلاحُ الدين ككُرةٍ طريّة يسقطُ على الأرض، رأى وجهَ أمّه ملطخًا بالدّمِ والفجيعةِ، انتظرَ أن تضم جسدَه الغضّ بين يديها وتقبّل وجهَه كما كان يحلم، لكن ذلك الشيءَ الحادّ القاسي ذا الضوءِ الخاطفِ كانَ قد سبقَها إليه.
انتهت القصة بعد سرده لذلك البطش البشري الذي لم يبرّره الكاتب في النص، ولم نعرف هل نجا صلاح الدين وماتت أمه بعد أن شقوا بطنها واندلق الطفل بمشيمته خارج الرحم.
 كنّا نرجو ذلك، لكنّ عنوان القصة انعكس ليذكّرنا بـ «وفاة صلاح الدين»، وقد مهّد الكاتب لتلك الوفاة بكثرة الضرب، مما جعل الجنين يدور في بطن أمه حتى التف الحبل السرّي حول عنقه، وهذه إحدى علامات الموت.
   القصة لجنين في بطن أمه فيها الكثير من الجدة، السرد ممتع ومُحكم دون إخلال ببناء القصة وتلاحم عناصرها، اللغة سليمة، شاعرية، ومكثفة، الجمل قصيرة ومتلاحقة، وبسرعة تدفقها أوصلتنا إلى العقدة، حيث تصاعد الحدث الدرامي بشدة الضرب الذي تعرّضت له الأم والجنين، هنا بدأت متعة السرد تتلاشى ليحل بدلًا منها القبح في المضمون مغلّفًا بالجمال الفني للحكاية، القصة تمزج ما بين الواقعية المرّة والمتخيل اللامعقول، حيث نجد الكاتب يصرّ على إمتاع القارئ من خلال حكاية مشوقة ممتلئة بالألم والحزن، وتتصارع فيه الشخوص صراعًا غير متكافئ يشعرك بالدهشة وأنت ترى الأحداث تنمو وتتفاعل في اتّساق وانتظام، إلى تلك النهاية المفجعة لتتساءل وتصل إلى هدف الكاتب: ما سرّ هذا القبح الإنساني والبطش والتلذذ بالقتل والموت لكائن بشري هو غاية في الضعف يتمثّل في الأم وجنينها؟ ولا جواب إلّا أنها الشرور البشرية الشيطانية غير المبررة أحيانًا، وهذا ما عكسه الكاتب من خلال نهاية مبهمة تتناسب مع حيرته، وعدم قدرته على الرد المقنع لنفسه وللقارئ.

المرتبة الثالثة: «متسول رغم أنفه» لحسين محمد عبدالوهاب / مصر
قصة تحاورك بلغة السهل الممتنع والسرد السلس دون مبالغات أو تعقيد منذ المقدمة إلى العقدة النفسية إلى النهاية الجيدة غير المتكلفة. 
يدور ملخص القصة حول رجل متقدم في السن جاء من بلدته إلى القاهرة التي يشعر فيها بالوحشة والتقزّم (كأنني نملة)، كما يقول، نظرًا لزحمة شوارعها واتساعها. وهو أمر معروف بما يُعرف بغربة المدن، خصوصًا الكبيرة المزدحمة كالقاهرة.
 يبدو أن الرجل المسن مريض، وعليه أن يراجع الطبيب بين فترة وأخرى، لكن هذه المرة اضطر إلى أن يذهب للطبيب بنفسه، في حين أن كان معتادًا أن يذهب مع ابنه من الباب للباب، ولهذا كان على الرجل أن يحفظ ملامح الطريق جيدًا ويعلّمه بعلامات، وفعلًا حفظها ووصل إلى العيادة ورجع منها إلى بيت ابنه بالسلامة، بعد أن عاش قلقًا كبيرًا في الشوارع خوفًا من الضياع، وأن يتهم بالتسول. 
هذه القصة تأتينا بالسرد الذاتي، فالبطل يحكي لنا قصته مجسدًا معاناته مع هذا المرض، الذي لم يذكره القاص حرفيًا، لكنّه بذر إضاءات عبر مسار الحدث عنه، تجعلنا نتأكد أن البطل يعاني مرض الزهايمر، فهو قبل أن يذهب إلى العيادة حفظ ملامح الشوارع والمنحنيات جيدًا، وهو اضطرب اضطرابًا كبيرًا وقلق عندما عرف وهو في منتصف الطريق أنه نسي هاتفه في البيت، وصار يضرب أخماسًا في أسداس، كيف لو لم يتمكن من تذكُّر عنوان البيت أثناء عودته، ماذا سيفعل؟ وإذا تاه، ما هو الحل؟ وكيف يستعير تليفونًا من أحد المارّة ليكلم ابنه الذي يحفظ رقم تليفونه حفظًا جيدًا، وفكّر أنه في هذه الحالة سيتحول إلى متسول، يسأل المارة باستعمال التليفون، وغالبًا سيرفضون، خشية أن يهرب به وينطلق بعيدًا كلصّ، كما يحدث عدة مرات في القاهرة، ففكر الرجل في الحلين الثاني والثالث، وفي كل الحلول كان مُحرجًا من تحوله إلى متسول، وهو يكره هذا الوصف، وهذه الحالة التي سيكون فيها، وكثُر قلقه وخوفه واضطرابه وهو سائر يفكر في الخلاص من ورطته، إلى أن وصل للحل الذي لم يكن يتوقّعه، فقد رأى محل الفول الذي كان العلامة الكبرى لوصوله إلى البيت الذي وجده عند أول انحناءة بعد المحل.
    تحمل هذه القصة في موضوعها بعدًا إنسانيًا عميقًا للإنسان الذي يصاب بهذا المرض العضال، وقد كان السرد موفقًا والعقدة واضحة، وجاءت الخاتمة موفقة جدًا عندما ختمها بهذا السؤال على لسان البطل: هل المتسولون كلهم أشرار؟ وسكت عن الإجابة، فربما كنتُ يومًا واحدًا منهم!
ورغم جمالية القصة وأهمية الموضوع، نجد أن القاص لم يوفّق في العنوان، فما دخل التسول بطلب مساعدة إجراء مكالمة، وهو أمر نتعرّض له جميعنا في لحظة ما؟ كذلك لم يوفق الكاتب في تبريراته، فكيف سيتحول الرجل المسنّ الضعيف إلى لص يخطف التليفون ويجري به بسرعة؟ ولم يوفق في التبرير الثاني أنه لو طلب إجراء مكالمة والتلفون بيد صاحبه ليتصل له بالرقم كي يحضر ابنه ويأخذه، يقول المسنّ حتى هذه فكرت فيها، لأن صاحب الهاتف سوف يقول لا بدّ أنك ارتكبت جريمة أنت أو ابنك وتريد أن تستعمل الهاتف لكي تضعني في هذا المأزق الذي ربما لا تُؤمَن عواقبه. أحسب أن هذا تبرير لم يوفق فيه القاص أيضًا، فما دخل إجراء مكالمة في ارتكاب جريمة يحددها رقم التليفون؟! هنا أرى أن المعالجة الدرامية متكلفة وغير منطقية والمبررات غير متسقة مع الواقع، وأن الكاتب حمَّل الموضوع فوق ما يحتمل.