خواطر فنان: حوار المغيب
خواطر فنان: حوار المغيب
كانا يسيران قرب شاطئ البحر, عند الغروب وقبل أن تلامس الشمس وجه البحر, وقد تبدلت ألوان الطبيعة, وصارت وردية, ساد الصمت بينهما. وعندما غابت الشمس وابتلعها البحر, دار حديث بين الصديقين: ـ قبل مجيئي إليك, كنت استمع إلى موسيقى شوبان, يا صديقي كم هي أساسية الموسيقى في حياة الإنسان, المؤسف أننا لا نسمع إلا أغاني وموسيقى سخيفة. ـ لا تسمها موسيقى, هي ليست ما تود سماعه آذاننا, هم يفبركونها ويرمونها في آذاننا فتمزقها وتمرضها وتجعلنا بحالة عصبية هستيرية دائمة, هنيئا لمن له أذن طرشاء أو أذنان, الصمت عندئذ هو اللحن المنشود. فالموسيقى هي التي يؤلفها موسيقي, وأكرر (موسيقي) ولكي تعيش موسيقاه يجب عليه أن يكون ملهما.. أعني أن يكون مخلوقا حاملا في مجيئه إلى الدنيا موهبة العطاء, عطاء اللحن لكل أجناس البشر, وبما أن الإنسان حي وأبدي أعني الإنسانية فالفن هو هذا العمل الخالد الأبدي الذي يحيا مع الإنسان ويدوم مع الإنسانية. ـ جميل, ما تقوله.. وكأنك تلقي شعراً! الموسيقى يصنعها موسيقي.. هذا بديهي ليس كل من عزف آلة موسيقية هو موسيقي, أو غنى هو مغنٍّ. قلت إن الإنسان لا يختار أن يكون موظفا أو فناناً, الإنسان يولد وتخلق معه مؤهلاته صحيح أن الموهبة لا تكفي, الموهبة تظهر وتلمع عند صقلها, أقصد التعليم, أعني تثقيف الموهوب في فنه وفي تاريخه وفي... ـ لا تؤله الفنان, الفنان إنسان. ـ الفنان إنسان له صفاته, موهبته التي تخلق معه كما قلت. ـ تريد أن تقول إن كل إنسان هو بتهوفن أو ليناردو أو موزارت أو الشيخ سيد درويش أو عبدالوهاب وغيرهم. ـ كفى أعلم ماذا تريد أن تقول.. هذه السلسلة من الأسماء تستطيع أن تستوعب أسماء كثيرة جدا إذا أعطي الإنسان حقه من الرعاية, والإنسان تواق إلى الحرية وليس كالفن معبرا عنها وعن الجمال والحق. ـ أراني أسألك (بكل تواضع) أن تصف لي (الموسيقى). ـ أقول و(بكل تواضع) أيضا إنها الأنغام التي دامت وتدوم إلى الآن منذ ولادتها, منذ أن أغنت الأذن وأراحت الروح, هي التي صنعها (موسيقي). ـ أي (موسيقى) وراءها (موسيقي). ـ سأقاطعك.. أرجوك اسمع.. اليوم, كل شيء قد ابتذل, كل الأشياء كل الحركات (كل البهورات, كل الضجيج, كل خرطشة, كل ضربة ريشة, نسميها كلها (فن), والفن منها براء. الثقافة والفنون أصبحت مبتذلة كما قلت, الموسيقى والرسم أيضا, والذوق عامة, والأخلاق, والإحساس والاحترام والاهتمام براحة الآخر, ماذا أيضا? كل شيء صار بعيدا عنا, عن حياتنا اليومية وأمسينا نعيش في وقت تتغلب عليه المادة والأنانية. ـ لقد أضعتني, مهلاً, مهلاً. ـ أنا أتكلم بكل بساطة ووضوح, افتح زر (الراديو) لتسمع ما يفسر قولي, أو افتح (التلفاز) لترى العجب وتسمعه أيضا. يعطونك من هذين (الصندوقين) ما لا تطلبه أنت, يعطونك ما يريدونه هم, وهم أنت تعرف مستواهم الذوقي والثقافي والجمالي المستمع يعتاد على ما يقدم له ومع مرور الوقت يعتبر هذا ممثلا لذوقه (وثقافته) و(عصريته) و(حداثته), هذه الكلمة التي أفرغت من معناها وأصبحت جوفاء يتلقفها (المثقفون). ـ العمل إذن? ـ أعلم أنك تعاني مثلي ولا تقول شيئا, هل تعلم أن بيتنا الكبير هو الشارع أنت تملك بيتاً, وأيضا تملك الشارع, إذا رتبت بيتك من كل ما يزعج ذوقك وراحتك, فأنت حتما ستهتم بالشارع وتجعله هادئا نظيفا, جميلاً. ـ والسيارات? ـ هذا ما أعنيه, هو أن تمنع أي تعكير يأتي من السيارة, من زماميرها, والبناء أيضا, الهندسة المعمارية, الإنسان لا يستطيع أن يحافظ على توازنه إن كان محاطا ببناء غير إنساني. ببساطة أقول إنك بامتلاك بيتك والمحافظة على خلق ذوق في أرجائه, يتساوى في المحافظة على النظام والهدوء في الشارع. ـ وإن وجد من يعكر الهدوء فيه ويحيله إلى فوضى? ـ أنت مسئول عندئذ, ليس تحليلك سوى وقف الإزعاج ومحاربته, وإخفاء البشاعة, وتوقيف من أدخل في الهدوء ضجة وفي الجمال بشاعة لأن الشارع هو أيضا لك ولي, فليس مسموحا أن يأخذ شخص (حريته) في الشارع غير آبه براحة غيره. ـ لنعد إلى الموسيقى, إذا أردت, فأنت تعلم تعلقي بها وشغفي. ـ أنا لست مع التعلق بالموسيقى ولا الشغف بها, الموسيقى هي ضرورية كبعض التنفس والعيش الهنيء والأمل والراحة والمخيلة والصعود إلى فوق. ـ إلى أين? ابقى هنا. ـ إلى فوق إلى الأجواء البعيدة القريبة من السموات. ـ أعوذ بالله, هلا نزلت قليلاً. ـ من أين? ـ من السموات ولنتكلم قليلا عن الموسيقى. ـ هل تعلم أن التكلم عن الفن ليس فناً, وهل لاحظت أني ابتعدت في كلامي عن الفن ودخلت باب الأدب الذي نضيع في كلماته وجمله, للفن لغة غير لغة اللسان. ـ فسر. ـ لغة الموسيقى هي اللحن ولغة الرسم هي اللون والشكل ولغة الشعر هي الحرف, هذه اللغات هي عائلة واحدة أفرادها يتكلمون لغات مختلفة لكنها تقول شيئا واحدا بل تصبو إلى غاية واحدة, هي أن تسمو بالإنسان ليرى معنى الجمال (جمال الحياة, فانا أستطيع أن أقول (إن الفن هو الحياة) وكما تعلم أنت أن الحياة دون جمال وحب.. هي). ـ آه, تابع.. هي ماذا? ـ قل أنت دون جمال وحب كيف تكون الحياة? قل شيئا. ـ أنا استمع إليك بهدوء كما اهدأ عند سماعي الموسيقي الجيدة. ـ بالنسبة إلى الموسيقى الجيدة, فهناك قصة تروى عن الموسيقي الطلياني فردي. ـ ماذا تقول? ـ سأله صحافي يوما الموسيقي: (أي موسيقى تفضل يا معلم? الموسيقى الكلاسيكية أو الرومنطيقية أو الحديثة? أجابه فردي: (هناك نوعان من الموسيقى, الموسيقى الجيدة والموسيقى غير الجيدة, وأنا مع الأولى). كلام (فردي) يفسر أشياء كثيرة في عصره, وخاصة في عصرنا اليوم, فولادة المدارس والحركات الفنية إن في الرسم أو في الموسيقى أو في الأدب ليست سوى إضاعة الوقت والغش, فإعطاء أسماء لحركات (فنية) اقتصادية ليست إلا للترويج, وهي بعيدة عن الفن وهي ضد الفن. فأنا يا صديقي ادخل في جنة الأنغام عندما استمع إلى (موزارت) أو (باخ) أو بعض الشيخ سيد درويش, أو أم كلثوم, أو الموشحات الأندلسية, لكن حلمي هو بعث أغاني وألحان (زرياب) هل تعلم من هو زرياب? ـ لا. ـ لقد أضعت وقتي بالتحدث إليك, وخاب ظني, سامحك الله عد إلى الوراء, اقرأ تاريخ الأندلس, ثم بعدها اتصل بي لنتكلم عن زرياب. ـ قل لي كلمة عنه, ـ لا.. ليس الآن. ـ لنعد من حيث أتينا. هل أردت? ـ طبعاً, سنعود معا ولكن بصمت, لقد ألهانا حوارنا عن النظر إلى تلك السحب المرافقة للمغيب, يا لسحر الطبيعة! ـ لكني, أنا أنظر إلى الطبيعة وأحدثك في نفس الوقت. ـ ليس كل من ينظر إلى الطبيعة يكون قد رآها, النظر إلى الطبيعة شيء ورؤية الطبيعة شيء آخر. ـ ماذا تقصد? ما بالك اليوم تتفلسف وتزيد الحياة تعقيداً وتجردني من كل معرفة, وكأني لست سوى.. ـ اسمع, أقول إن النظر إلى شيء لا يعني أنك تراه, أنت بحاجة إلى تثقيف لترى والأذن أيضا لتسمع وتفرق ما بين الجمال والبشاعة. ـ فهمت الآن.. الأفضل أن أسكت. ـ أرجوك أفعل, هذه هي الحكمة.. السكوت.
|