حسن سليمان ولوحاته: صوفية الماء وتأمل الروح الإنسانية

 حسن سليمان ولوحاته: صوفية الماء وتأمل الروح الإنسانية
        

 ما الذي يجعل فنانا، مثل حسن سليمان، يقيم في عزلته ليرسم البحر منذ العام 1972 وحتى العام 1999؟

         سبعة عشر عاماً يتأمل فيها وميض البرق, وانفتاح البحر على النهاية, والوجوه الطالعة من الماء, واختلاط لون الأرجوان مع الزرقة العابثة, الغامضة, والاصغاء المضني لصوت الماء يرتطم ربما بشاطئ من الرمل, أو بالصخور الجاثمة هناك مثل الأبد, أو بمقدمات القوارب الصغيرة المهتزة في وجل, وربما اختراق قوس قزح بألوان الطيف بعد هطول المطر, وربما بتأمل وجوه الصور التي هي بدورها تعيش على تخوم الشواطئ تنتظر هي أيضاً حلماً ربما ينبع من البحر, كل هذا الانتظار المضني لرسم عدد من الصور?!

         لا أظن أن الأمر في نهاية المطاف هو سعي الفنان ليثبت على اللوحة ألوانه, منجزاً عدداً من الصور تندرج في مشروعه الفني لتعبر عن مرحلة من مراحل نضجه الإبداعي على نحو من الأنحاء.

         المسألة أكثر تعقيداً من إنجاز الصور, حتى لو كانت صوراً جيدة.

         إذن الأمر كما أتصوّر هو محاولة الفنان دائماً الاقتراب من المنطقة الغامضة للإبداع الفني سواء كانت هذه المنطقة نثراً, أو شعراً, أو تصويراً بمفرداته المتعددة. الأمر هو علاقة الفنان بالتعبير عن وجوده ذاته, وجوده, ذلك المطلق, في مسـاحة من زمن مسموح به, اضطرابه, عواصفـه الداخلية, عدم الرضى عن النفس, الإحساس بخلق الأشياء من جديد, محاولة للإمساك بالكمال المستحيل وربما السعي نحو إجابة عن سؤال الحياة والموت عبر معرفة شديدة الخصوصية, يحاول الرسّام أن يرسمـها طوال عمره.

         ينبغي التأكيد على أن حسن سليمان ينشد معنى يجسّده في لوحات شبيهة بالشعر, وربما هو لون من ألوان الشعر.

تأمل الروح الإنسانية

         يقول حسن سليمان في مقدمته لمعرضه:

          (هأنذا أكتب عن البحر الكلمات تندفع, تتساقط كرذاذ موجة انحسرت عني سأدعها, سأراوغها لأنها جمعت كل نساء العالم في واحدة تفر مني أفروديت التي يرتبط اسمها بزبد البحر, فلقد أتت من ماء الحياة مختلطاً بماء البحر).

         فإذا كان (ديلاكروا) توّاقاً إلى الفن والحرية, وإذا كان (مايكل أنجلو) قد أوصى في آخر حياته بروحه لله, وبجسده للأرض, وبممتلكاته لأسرته, وإذا كان (رمبرانت) قد جسّد عبر مسيرته الإبداعية صور العذاب المؤلمة, والمحن التي عاشها, وكان (فينسنت فان جوخ) العارم يبحث عن رؤى جديدة ينظر بها للعالم قائلا: (ليس هناك أكثر فنية من أن تحب الناس), وإذا كان (جوجان) يكره العقائد والادعاءات الثقافية ويختار الانتماء لما هو بدائي وفطري, وينتمي لذلك العري البشري في فطرته الأولى, وكان (جوبا) شديد الإخلاص لوحدته وعزلته, وكان (الجزار) العظيم في فن التصوير المصري باعثاً لهوية يبدعها بعيداً عن تلك الصنائع المستوردة والتي من شأنها ألا تنتج فنّاً أصيلاً, فإن حسن سليمان ضمن هذه الكوكبة من الفنانين قد اقترب كثيراً من تأمل ألم الروح الإنسانية, عبر اللون والمعنى, أعني أن هذا الفنان قد اقترب كثيراً من ضفاف الروح, من البداية الأولى وحتى نهاية الأشياء, من محاولة الإمساك باللحظة العابرة لضوء يولي ولن يعود, في السير في الطريق الخالي... ويا للعجب, والاقتراب من أفق مظلم في انتظار بزوغ ضوء شديد الصفاء, وربما شديد الحزن في محاولة يائسة أن يخفي من أمام أعيننا ذلك الدنس الذي يشيع الآن في كل شيء.

         لعل الرجل, وعبر مسيرته كلها, ومنـذ تعرّفت على فنه منتصف الستينيات يناضـل من أجل التأكيد على أشياء الحياة الحيّة, وأن يمجـّد الأرض والإنسان.

         أذكر أنني في ذلك الزمن القديم, الموغل, شاهدت لوحة حسن سليمان (النورج) - أنا لا أعرف أين هي الآن? - وكانت عن ثورين أسودين يسحبان (نورج) يدور دارساً قمحاً, وكان يجلس على الدكة غلام يغفو, ويغفو الثوران تحت هجيـر ظهيـرة ذهبية يعكس ضوؤها لونا ذهبيا, كانت دائرية اللـوحة, ولون الشمس في الظهيرة, وغفـوة الحيوان كلها تمجّد الأرض, وتمجّد الإنسان, وعلى التخوم البعيدة يشيع تعب الفقراء, ورائحة عرق العمل.

         من يومها, تتبّعت صورة حسن سليمان في كل تجليّاتها المختلفة, بكل البشر فيها, والأماكن ذات الألفة, والنساء الخارجات من عمق الأزقة في الأحياء القديمة بطابعها الذي لا يفنى, والطبيعة الصامتة المرسومة من خلال (الفخار) و (الورد) و (نساء على الشاطئ) والآن في (البحر).

         فما الذي تطرحه رؤى البحر في معرض حسن سليمان الأخير?

ليل على البحر

         كان يسحبني من يدي على أرض معرضه المقام بمبنى الهناجر بالأوبرا المصرية, نقف متأملين الصور المعروضة على الحائط عليها نور هابط من سقف المكان, كان الوقت ظهراً, والمكان خاليا إلا من بعض الأصدقاء وبعض الزائرين, وكان صـوته يتردد وكأنه يخرج من اللوحات المعلقة وأنا أتأمل وجهه الطفولي ونظرته المندهشـة, وبسمته المحايدة التي لا تعرف لها معنى: هل هي معك, أم هي ابتسامة عابرة?

         يقف مشيراً بيده وهو يحدّثني:

         في هذه اللوحة, كنت أود أن أمدّ يدي من النافذة وأقبض على الليل, أتلمّسه ربما, آتي به لأثبته على اللوحة - ليل على البحر - أنا أحب الليل, يجسّد المجهول الذي يفزعني.. هو الباطن.. أنا أفزع من الباطن جدا, والفزع دفعني لتحويل إحساسي إلى إحساس صوفي. أعني تجسيد شعوري بالمطلق, أنت كاتب قصة وتعرف ما أعنيه!! إننا في آخر أعمارنا نكوّن علاقة حميمة مع الأبدية.

         فهمت أن البحر يئول عند حسن سليـمان لأبدية لا تنتهي, يفسر اللازمني, يسعى للإمساك بالمطلق, وذلك المطلق الذي قال عنه شيوخنا الراحلون, الأفاضل, بحكمتهم التليدة (أن تفن نفسك ذات يوم فستصبح في إشراقة حتى لو كانت الليالي كلها حالكة).

         يقول بعضهم:

          (إن البصر الجيد يمكن أن يكتسـب.. فاعتن ببصـرك ولا تكسل.. ابق عليه مشحوذا).

         في زيارتي الثانية, كنت وحدي أيضاً - أختار الوقت الذي تخف فيه القدم - وقفت أمام لوحة (شمس على الماء) - العناوين من عندي - وشحذت نظري. كان الضوء يأتي من مصدر غير مرئي, ويفرش أرض اللوحة بجلال, بألق نوراني, والموج في المساحة المفتوحة عبر اللوحة يمثل لانهائية لا حد لها, هناك على البعد مشاهد تتجسّد مع مجهول البحر حيث تقف أمامها مبهوراً, باحثاً عن عزاء للفقد والحرمان يشاركانك البحث عن يقين وسط ذلك المجهول.

         قوارب تلوذ بالشاطئ, وأسرة من أبوين وثلاثة أطفال يخطون على الرمل في اتجاه بحر تحدده سماء سوداء بلا سقف وكتلة بنيّة من لون بني داكن يحصر الأشخاص في متناهي الصغر - بين الماء والرمل - حواجز للموج وراءها زبد أبيض مثل شهقة العشاق, وتلوح سحابة ضبابية كأنها صخرة معلقة في الأفق البعيد, مركبة في سماء لبنية مثل حلم لا يكتمل.

         يواجهك على الجدار المقابل عدد من (البورتريهات) لنساء ينتظرن لا أحد, وبتأمل صور النساء, يفاجئك سؤال (المرأة) التي تمتزج بالمعنى الصوفي حيث يحل صمت ترى من خلاله صفاء الماء, وصخب البحر وجموحه.

         ما الدافع الذي يجعل فنانا مثل حسن سليمان يمزج المرأة بالبحر?

         ما الذي جعله يحلم بلوحة يحاول من خلالها تجسيد الكائن ممتزجاً بالماء متحدياً ذلك العمق المحير للمرأة والبحر?

         هل دوافعه هي اكتشاف لحقيقة لا تتجسّد إلا في ذلك الصوت الأزلي للماء, مقاوماً من خلاله وجوده وفناءه?

         يقول حسن سليمان في مقدمته لمعرضه:

          (أميل على ذلك النور الحديدي كل غروب ملقياً شباك حزني لليل يحتضنني, وحبيبة لا تريد أن تلمسني, ولكن أغوار عينيها تتحديان العمق الذي يحيّرني. العمق والفراغ يمزّقاني, والحب يربطني بالمطلق. وأحلم بلقائها على ذلك الشاطئ, فقد تعبر طيور السماء لتبارك حبي. (أفروديت) أني أحتمل أقصى شجن يمكن لرجل أن يتحمله, هل يستطيع الموج أن يرجعها? لا, إنه لا يستطيع, وعلي أن أبقى أتحرّق إلى جسدها المتناسق الأخاذ, فالضوء الذي يسقط على البحر هو الضوء الذي يسقط على جسدها).

         هنا يمتزج الماء بالجسد بحثاً عن طهارة روحية.

         وتمتد المرأة مثل الجذور في عروق الماء, مثل شهوة الخصب, وتتحاور جدلية البحر/المرأة مثلما تتحاور جدلية الحياة /الموت, الماء بمجهوله, وموجه, وظلامه في الليل, وانفتاحه علـى أفق المستحيل العصي, غير المروّض, والمرأة بخصوبتها المحكـومة بالفناء, وريشة الرسام المدرّبة تأتي من هنـاك, من عمق مخيّلة محشودة باللامرئي الصوفي, وتثبت على اللوحة سؤال: المرأة/البحر.

         في بورتريه (المرأة التي لا تنتظر أحداً) - وهي في رأيي من أهم لوحات المعرض على المستوى التشكيلي ومستوى المعنى -يلوح البحر من نافذة صغيرة, وشراعان لمركبين على الماء, خلفها موجة لها زبد, تجلس المرأة في ثوبها البيتي المنقوش بزهرات ملوّنة, على الجدار خلفها نقوش لتيمات شعبية منتزعة من قلب الخرافة, وهلال من فضة, ومثلثات صغيرة, وسمكة تحمل على رأسها كرة المصير, مثل تعويذة في حجاب قديم.

         ما الذي تتأمله المرأة لحظة سهومها, وعبر مساحة الظل الذي يضوي في عمقها ذلك القرط الهلالي?

         في أي مجهول تنغرز العينان الزرقاوان كاشفة عن حالة من الوجد الصوفي, والانتظار الأبدي يلوحان بالعينين?

         ذلك الفانوس المطفأ بجوارها, لا ضوء, ولا مساحة من حنين مؤجل, فانوس في مطلق الظلام, وكأنما استنفد ضوءه بعد أن أشعل باطن المرأة المنتظرة لا أحد.

         تجلس في صورة أخرى المرأة الحجرية بجانب النافذة المفتوحة على الجبل, قطعة من جبل, وأسى مثل موت.

         أنت لا تستطيع أن تصمت عن حقيقة واحدة.

         في هذا المعرض الجميل أكثر الحقائق بهجة وحزنا تقود دائماً لسؤال البداية, والسؤال يقودك إلى محاولة معرفة الإجابة, والإجابة تقودك إلى تلمس المعـنى, والمعنـى يقودك إلى لا نهاية, تقودك بدورها إلى البحر.

         حسن سليمان أخذ بيدنا, وفتح عيوننا لنتعرف على متاهة الماء, ونقتنص جمال الحقيقة, ومع الخطوط المتزنة مثل خطوات امرأة على الرمال فجر فينا من رماد اللون, وزرقة فيروز الليل, عشق الحياة, وكراهية الموت, مثلما فعل فينا هؤلاء الرسّامون العظام الذين ثبتوا يوماً على القماش لحظات الحياة النادرة, ورسموا الأفق المفتوح على الأبدية, ودهشة الأطفال فينا, وعبروا عن الألم الإنساني, ورغبتنا دائماً في البكاء لنقاوم انكسار أرواحنا, وفي دموع المرأة التي تعقص شعرها أمام مرآة لا تعكس وجهها.

         هؤلاء الرسامون الكبار الذين ثبتوا مشهد الحياة على اللوحة قرونا طويلة لا تنتهي.

 

سعيد الكفراوي   

 




حسن سليمان





صخب البحر





حسن سليمان في مرسمه





ذات الرداء الأخضر





أطفال على الشاطئ





بورتريه المرأة التي لا تنتظر أحدا