فلسطين في الثقافة الروسية علاقة روحية وجدانية عميقة الجذور

فلسطين في الثقافة الروسية علاقة روحية وجدانية عميقة الجذور

ظلت فلسطين حاضرة دائمًا في الوجدان الروسي. وتعود علاقات الروس بالأراضي المقدسة إلى فترة طويلة سبقت اعتناق روسيا المسيحيَّة رسميًّا عام 988. فقد عرف السلاف الطريق إلى اليونان ومنها إلى المشرق في القرنين السادس والسابع. يقول المؤرخ الروسي الكبير نيقولاي كارامزين في كتابه «تاريخ الدولة الروسيَّة» في هذا الصدد: «بدأت الفرق السلافيَّة التغلغل في أراضي سورية وفلسطين منذ أواسط القرن السابع». وتتضمن أقدم مخطوطة روسيَّة وصلت إلى أيدي الباحثين، والمعنونة «قصص السنين الغابرة» (عام 1110)، معلومات جغرافيَّة دقيقة وقيِّمة عن مدن الأراضي المقدسَّة. فإلى أي مدى أثَّرت فلسطين في وعي الإنسان الروسي، وكيف انعكست بنتاجات الأدب والفن والفكر السياسي في روسيا، وكيف تفاعل المجتمع الروسي مع ما شهدته وتشهده الأراضي المقدَّسة من تطورات وأحداث مصيرية؟ 

 

ارتبطت الثقافة الروسيَّة بأواصر روحية وطيدة بالأراضي المقدَّسة، الأمر الذي ترك بصمات عميقة في تكوين الشخصية الحضارية الروسيَّة، فمع الوقت أصبح الحجُّ إلى القدس وبيت لحم جزءًا مكونًا من هذه الشخصيَّة، وصارت هذه الأماكن موضوعًا مفضَّلًا لدى الأدباء والشعراء الروس الذين ذكروا فلسطين في قصصهم ورسائلهم وأشعارهم، ولدى الفنانين الذين رسموا بريشهم فلسطين وطبيعتها وناسها. كان ولوج روسيا عالم الشرق المجهول بالنسبة لها بمنزلة «صدمة» إبداعية عميقة.

فلسطين في وعي الحجاج الروس 
   لم يكن الحجّ إلى الأرض المقدَّسة قديمًا بالأمر اليسير، فقد كانت دونه مخاطر وأهوال ومصاعب لا تُحصى، منها وعورة الطرق التي يسلكها الحجَّاج، سيرًا على الأقدام في الغالب، في أرض لا يعرفونها، والغربة في أرض ومجتمع وبين أناس يختلفون عنهم في كل شيء، والتعرض لاعتداءات اللصوص وقُطَّاع الطرق، وأخطار الصراعات والحروب الدائمة في تلك البقعة من العالم. بيد أن تلك المصاعب والمخاطر لم تثنِ عزيمة الحجَّاج والرحَّالة والأدباء والشعراء والفنانين عن الإصغاء إلى نداء القلب، والقيام بما اعتبروه واجبًا دينيًّا وتلبية لحاجة إيمانيَّة وروحانيَّة، بل لشغف رومانسي لدى البعض ولإشباع فضول جارف لدى البعض الآخر، فتقاطروا إلى أرض فلسطين، وأمضى بعضهم فيها أشهرًا وسنوات طويلة، وتركوا آثارًا أدبية تضمَّنت معاناتهم وانطباعاتهم ورؤيتهم، التي تجسَّدت في نمط أدبي عُرف ﺒ «أدب رحلات الحجِّ»، يزخر بمعلومات نادرة وممتعة عن المعالم الجغرافيَّة والعمرانيَّة في منطقة المشرق، وعن ناسها وعاداتهم وأوضاعهم الحياتيَّة والعلاقات بين طوائفهم وإزاء الغرباء. ومنذ ذاك الحين أصبحت رحلات الحجاج الروس إلى الأراضي المقدَّسة منتظمة. 
 وابتداء من القرن الثامن عشر، ومع تزايد اهتمام الدولة الروسيَّة بمنطقة الحوض الشرقي من البحر المتوسِّط، أمَّت فلسطين والمشرق العربي عمومًا أعدادٌ متزايدة من الأدباء والمؤرخين والعسكريين والسياسيين الروس، فضلًا عن الدبلوماسيين، مُكَلَّفين بمهمات رسمية أحيانًا وبمبادرات ذاتية في أحيانٍ أخرى. في تلك الحقبة، خصوصًا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأ الأدباء الرحَّالة، وكذلك المؤرخون، يعكسون توجهات الدولة الروسيَّة الرسميَّة، التي تلخَّصت في السعي إلى الإشراف على الأماكن المقدَّسة ودور العبادة في فلسطين وإعلان روسيا، بوصفها «روما الثالثة»، حامية للأرثوذكس ومصالحهم في المنطقة. 
وصل الأدباء الرحَّالة الرومانسيون الروس إلى الشرق وهم يحملون تصورات جاهزة عنه، عن أهله وعاداتهم، مستمدة من الأفكار الاستشراقيَّة. وكانت آراؤهم وأحكامهم تأتي متناقضة أحيانًا، بل ومتأثرة في حالات معينة بآراء المستشرقين الغربيين. وبالرغم من السطحيَّة التي اتسمت بها توصيفاتهم للسكان المحليين، فقد تركوا أحيانًا ملاحظات مهمة عن الثقافة الشعبيَّة العربيَّة وجذورها العميقة. وتميزت آراؤهم عن آراء الحجَّاج الأوائل بالتسامح الديني، وطال هذا التسامح المسلمين أيضًا؛ فكتب الرحالة مورافيوف بإعجاب عن مناخ التقوى الذي يسود صلاة المسلمين.
انبهر أهل فلسطين المسيحيون برؤية الحجَّاج الروس الأتقياء الودعاء. ولعل خير وصف لهؤلاء الحجَّاج ما جاء في كتاب ميخائيل نعيمة «سبعون... حكاية عمر»، وقد شاهدهم عن كثب في الناصرة، فيقول: «... كنا نشاهدهم يأتون إلى الناصرة أفواجًا أفواجًا - بالمئات وبالألوف، ومشيًا على الأقدام، يأتون شبانًا وشيبًا - ملتحين وغير ملتحين - رجالًا ونساء - وجلهم من الفلاحين. وكنا نُسَرُ أن نتفرج عليهم في أزيائهم الغريبة وأكسيتهم الرثة. إنّ الذي كان يستهويني في أولئك الحجَّاج هو البساطة المتناهية البادية في وجوههم، ومظاهر التقوى في جميع حركاتهم. إنهم أطفال كبار. والناظر إليهم يكاد لا يصدق أن البلاد التي أنجبتهم أنجبت عباقرتهم الذين ملأت أسماؤهم مسامع الدنيا. بل لعلها ما أنجبت أولئك العباقرة إلّا لأنها أنجبت ذلك الشعب».

 شعراء روسيا وأدباؤها يغنون لفلسطين
منذ بدايات القرن التاسع عشر قام العديد من الأدباء والشعراء والفنانين والدبلوماسيين الروس بزيارة فلسطين. وترك شعراء روس كبار، من أمثال بوشكين وليرمنتوف، قصائد من وحي الأرض المقدسة من دون زيارتها. وتساءل كاتب كبير هو إيفان بونين: «هل من أرض أخرى تجتمع فيها مثل هذه الذكريات العزيزة على القلب البشري؟». وتساءل كاتب آخر هو ستيبان بونوماريوف: «أليست روسيا هي التي تربطها بفلسطين روابط وعُرى أكثر من أي دولة أخرى؟». 
  أما الشاعر الكبير ميخائيل ليرمنتوف، فكتب في قصيدة حملت عنوان «غصن فلسطين»، أرق الأشعار حبًّا بفلسطين. كتب الشاعر، الذي لم تسنح له فرصة زيارة الأراضي المقدسة، هذه القصيدة من وحي سعفة نخيل مجدولة أهداها إياه صديقه العائد من فلسطين. جاء في هذه القصيدة:
قل لي، يا غصن فلسطين،
أين نمَوْتَ، أين أزهرت؟
أي هضاب، وأي وديان زيَّنت؟
أعند مياه الأردن الصافية،
داعبك شعاع الشرق،
أم إن هواء الليل في جبال لبنان
هو الذي أرجحك غاضبًا؟
تحتل كتابات الأديب الروسي العظيم نيقولاي غوغول مكانة خاصة في النصوص الأدبيَّة الروسيَّة عن فلسطين. زار الكاتب فلسطين في فبراير 1848. فكتب بعد عودته رسالة إلى صديق له قال فيها:
 «لقد قمت برحلتي إلى فلسطين بالضبط لكي أعرف شخصيًّا، ولكي أدرك بنفسي، كم كان قلبي ممتلئًا بالقسوة. آه يا صديقي كم كانت عظيمة تلك القسوة! لقد كرَّمني الرب بقضاء ليلة قرب ضريح المُخلِّص، وكان لي شرف إدراك كُنْه تلك الأسرار المقدَّسة التي تُظلل ذاك الضريح. وبالرغم من ذلك لم أصبح أكثر نقاء، كان من الضروري أن يحترق كل ما هو دنيوي في داخلي، فلا يبقى إلا ما هو سماوي». لقد عبَّر الكاتب في كلماته هذه عن مغزى فلسطين العميق في وعي المؤمن الروسي. 
ومن أجمل ما كتب عن فلسطين تلك الأبيات التي تركتها الشاعرة المرهفة مارينا تسفيتايفا التي تركت بصمات ساطعة ومميزة في ديوان الشعر الروسي:
هكذا تشرق الصحارى.
 تقول أكثر ما تستطيع:
      رمال فلسطين
    هي قبة الجنة السماويَّة.
أديب روسي كبير آخر زار فلسطين عام 1907، هو إيفان بونين، الذي احتلت قصصه وأشعاره عن فلسطين مكانًا مميزًا في إبداعه، والتي تُعتبر بحق من أروع ما كتب عن الأراضي المقدَّسة. وتتسم كتابات بونين عما شاهده في فلسطين بقدر من الأسى وخيبة الأمل. فكأن ما رآه على أرض الواقع هناك بدا مناقضًا لتلك الصورة البهية المُتخَيلة عنها. لقد كانت كتاباته تلك عبارة عن توصيف واقعي لما كانت عليه فلسطين في تلك الحقبة وملاحظات نابعة من أحاسيس كاتب مرهف. فهي في نظره وريثة حضارة عريقة وعظيمة، لكنها تعيش حياة بائسة لا تليق بذاك التراث العظيم، فكتب يقول: «لقد دارت الحياة دورة هائلة، فأنشأت على هذه الأرض ممالك عظيمة، ثم هدمتها، أبادتها، وأعادتها إلى بؤسها وبساطتها الأبديَّة».
ولا تزال فلسطين تحظى باهتمام الشعراء الروس. من هؤلاء رسول حمزاتوف، أحد شعراء روسيا الكبار من القوميَّة الداغستانيَّة. كتب الشاعر قصيدة بعنوان «فلسطين» تنضح كلماتها بالحب والتعاطف مع شعبها، وبالإيمان بقضيَّته العادلة، جاء فيها:
 ليلٌ طويلٌ يضنيه حزنٌ موجع
ولا فجر للحزن.
فأين أنت فلسطين؟ 
حارقٌ ربيعك
وشقاؤه حارق
شهيقٌ دائمٌ، فأين أنت يا فلسطين؟ 
يذبلُ وردٌ، ويجف نبعك
والمغيب دمويٌّ.
فأين فجرك يا فلسطين؟ 
حزنٌ موحشٌ في تونس 
ولا فرح في باريس 
ولا أجمل منك يا فلسطين 
مساجد القدس
ونهر الأردن
وكلنا نغني 
نعرف أغنية واحدة 
إننا سنعود إليك يا فلسطين 

فلسطين في كتابات المؤرخين الروس
شغلت فلسطين حيزًا كبيرًا في كتابات المؤرخين الروس. ويحتل مؤلَّف قسطنطين بازيلي، القنصل الروسي العام في بيروت بالقرن التاسع عشر، «سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني»، مكانة خاصة بين العديد من الكتب التي وضعها رحَّالة وكُتَّاب وقناصل روس عن المشرق العربي في ذاك العصر. كتب بازيلي في مقدمة كتابه عن فلسطين: إنني أنوه بأن هذه البلاد تبعث على الفضول، سواء من حيث ذكرياتها القديمة، أو من حيث مصيرها في الأزمنة الحديثة. إنها مهد اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام المقدَّس، البلاد التي أخمدت المآثر الفروسيَّة فيها عاصفة القرون الوسطى في أوربا، والتي تشخص أنظار الغرب مجددًا إليها لمآرب سياسيَّة وأحيانًا تجاريَّة، وبشعور ديني أحيانًا أخرى، وبطوباويَّة في أغلب الأحيان». وهو إذ ينتقد كتابات لامارتين عن المشرق ويصفها بالسذاجة المفرطة، فإنه يقول إن الشاعر الفرنسي لا يقدم وصفًا حقيقيًّا للمنطقة، بل يعبر عن أحاسيسه ورؤيته المتخيلة لها. ويضيف: «لقد تجنبت بحرص وصف المنطقة بصورة زاهية تتجلى فيها الطبيعة الجنوبيَّة في أبهى ألقها، حيث منظر الجبال والشطآن والأفق الذي يتراءى خلف حصن من حصون الإقطاعيين أو دير أو أطلال أو قافلة من الإبل أو مضارب للبدو، على نحو يسحر المصور وينتقل بفكر الرحَّالة إلى عصور غابت في طيات الماضي. إن ذكريات الماضي، التي تعقبتني في كل جولاتي بربوع الشرق، وحتى شعور التبجيل الذي أفعمَ نفسي لدى زيارة المقدَّسات الفلسطينيَّة، قد أبعدتها عن كتابي بحرص. لقد جذبت المقدَّسات الفلسطينيَّة الكثير من مواطنينا من مختلف المناصب والشرائح. إن المسافر التقي، إذ يحمل الإنجيل في يده ويستمع إلى شروح الراهب الدليل الشفويَّة عن القدس، لا يحتاج إلى أي مرشد آخر وأي مصدر إلهام آخر، باستثناء شعوره الخاص».
كما تناول مؤرخون مستعربون بارزون مسألة دخول الإسلام إلى فلسطين مع الفتح العربي وتقبل سكانها للفاتحين. فيؤكد المستعرب الكبير نيقولاي ميدنيكوف في مؤلَّفه «فلسطين من الفتح العربي حتى الحملات الصليبيَّة بحسب المصادر العربيَّة»، الصادر عام 1897، أن «القبائل العربيَّة التي انتقلت إلى سورية وفلسطين وما وراء الأردن والعراق ابتداء من القرنين الرابع والخامس، أسهمت إلى حد كبير في نجاحات الفاتحين العرب. وقد شكل العرب الآتون من الجزيرة العربيَّة غالبية السكان في جنوب فلسطين، وكانوا قد اعتنقوا المسيحيَّة قبل مجيء أبناء جلدتهم فاتحين...».
أما المستشرق أغاتانغل كريمسكي فكرّس في مؤلفه المهم: «تاريخ الأدب العربي الحديث. القرن التاسع عشر- بدايات القرن العشرين»، الصادر عام 1971، فصلًا خاصًّا عن فلسطين ودورها في النهضة العربيَّة وفي دخول الحداثة الأوربيَّة إلى مناطق سورية الكبرى. فيقول: «كانت سورية حتى قبل نهاية القرن الثامن عشر - بداية القرن التاسع عشر مهيأة أكثر من الأقاليم العربية الأخرى لتقبل الحضارة الأوربيَّة. وكان لحضور العنصر المسيحي فيها دوره في تعزيز التعامل مع الأوربيين. لكن ينبغي عدم المبالغة في تقدير أهمية هذا العامل الديني. ففي بداية القرن التاسع عشر نرى تفاوتًا في تقبل الأوربة بين كل من سورية فلسطين. ففلسطين - الأرض المقدَّسة - التي كانت أكثر من غيرها محجًا للمسيحيين الأوربيين والروس، إن فلسطين هذه كانت الأقل تهيؤًا لتقبل الحداثة الأوربيَّة. ويتضح من ذلك أن الظروف الاقتصاديَّة في هذا الجزء أو ذاك من سورية الكبرى كانت مؤثرة أكثر من العامل الديني في التقرب من أوربا». 
«فالقدس، المدينة الأهم في فلسطين، لم تكن لها أي مكانة تُذكر في التجارة العالميَّة بالعهد العثماني، حيث كانت بعيدة عن طرق التجارة الكبرى. ولم تكن تحظى بأي ثروات طبيعيَّة أو شروط للتطور الاقتصادي والمادي. كما كانت القدس قليلة الجاذبيَّة للمستثمرين والتجار أوالصناعيين الأوربيين. أما الحجَّاج المسيحيون المتدينون الذين كانوا يَؤُمون الأرض المقدَّسة لفترة قصيرة، ويجلبون معهم بالطبع بعض الأموال، فلم يكونوا لينفقونها لدى العرب في الغالب. فالجمهور العربي البسيط المقيم بالقرب من القدس والأماكن المقدَّسة الأخرى التي كان الحجَّاج يزورونها، كان لا ينال سوى الجزء اليسير من المنافع. أما القسم الأكبر من تلك الأموال التي كان ينفقها الحجَّاج المتدينون، فكان من نصيب حفنة من اليونانيين، حراس قبر السيد المسيح والأماكن المقدَّسة الأخرى...».

كتب ومؤلفات احتضنت التاريخ الفلسطيني 
كانت فلسطين حاضرة في أكثر من مؤَلَّف ودراسة لدى المؤرخة الكبيرة إيرينا سميليانسكايا، إذ تناولتها عمومًا، في سياق سياسة روسيا العامة بمنطقة شرق البحر المتوسِّط، وبوصفها جزءًا من بلاد الشام وسورية الكبرى، وفي إطار الصراع الدائر بين الإمبراطوريتين الروسيَّة والعثمانيَّة. ففي كتابها الموسوعي «روسيا في حوض البحر المتوسِّط. حملة كاترينا العظمى في الأرخبيل» الصادر عام 2014 (صدرت ترجمتنا العربية له في بيروت عام 2021)، تحضر فلسطين في سياق الحديث عن العلاقات التحالفيَّة التي قامت في القرن الثامن عشر بين روسيا والشيخ ظاهر العمر، حاكم عكا وأجزاء واسعة من فلسطين وجنوب لبنان. فقد سعت الإمبراطورة الروسيَّة كاترينا الثانية حينذاك إلى إقامة علاقات تحالفيَّة معه، وكذلك مع حاكم مصر علي بك، وقدَّمت لهما الدعم السياسي والعسكري المباشر، الذي تمثل في إرسال الأسطول الروسي إلى الشواطئ الفلسطينيَّة واللبنانيَّة، وفي مشاركة السفن الروسيَّة والبحارة الروس في المعارك إلى جانب قوات ظاهر العمر. 
وتتناول سميليانسكايا موضوع الحجِّ إلى الأراضي المقدَّسة والسياسة الروسيَّة تجاه فلسطين ومنطقة شرق البحر المتوسِّط عمومًا في دراسة لها بعنوان: «العالم العربي في تصورات الحجاج الروس في القرن الثاني عشر - النصف الأول من القرن التاسع عشر» (2013). ترى سميليانسكايا في دراستها هذه أن الأدباء الروس الرحَّالة في القرن التاسع عشر عكسوا التوجهات الروسيَّة الرسميَّة في كتاباتهم. فالمؤرخ والرحَّالة والدبلوماسي دميتري داشكوف، على سبيل المثال، تحدث بوضوح عن حق الكنيسة الأرثوذكسيَّة المقدسيَّة في الإشراف على الأماكن المقدَّسة ودور العبادة في القدس وفلسطين عمومًا، وهو كان يُعبِّر بهذا الموقف عن الاتجاه الأساسي في سياسة الإمبراطور نيقولاي الأول إزاء الأراضي المقدَّسة، التي تلخصت في السعي إلى الاعتماد على الكنيسة الفلسطينيَّة ورجال الدين الأرثوذكس في القدس. 
وفي كتاب آخر بعنوان: «سورية عشية ثورة تركيا الفتاة وإبانها. في مواد التقارير القنصليَّة» (2014)، تتناول سميليانسكايا التطورات التي شهدتها سورية وفلسطين وسياسة روسيا في المنطقة عقب حرب القرم. فتقول إن تجربة حرب القرم المريرة ولَّدت موقفًا انتقاديًّا من سياسة روسيا السابقة في سورية وفلسطين، وأسهمت في التقويم الواقعي لموقع روسيا بالمنطقة، فسعت القيادة الروسيَّة إلى العمل على إعادة إحياء الحضور الروسي السابق فيها، فافتُتحت قنصليَّة روسيَّة في بيروت على رأسها قنصل عام، وقنصليَّة في يافا، واستعادت «البعثة الروحيَّة الروسيَّة» في فلسطين نشاطها. واتسمت سياسة روسيا باتخاذ نهج كنسي - دبلوماسي، اعتمد بدرجة كبيرة على كبار رجال الدين الأرثوذكس، اليونانيين بالدرجة الأولى. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر برز اتجاه جديد في السياسة الروسيَّة إزاء فلسطين. ففي تقرير إلى القيصر ألكسندر الثاني، كتب وزير الخارجيَّة ألكسندر غورتشاكوف عن النهج الذي ينبغي أن تنتهجه روسيا في فلسطين: «علينا تثبيت حضورنا في الشرق عبر الكنيسة، وليس بالوسائل السياسيَّة. فلا الأتراك، ولا الأوربيون الذين لديهم بطاركتهم وأساقفتهم في المدينة المقدَّسة، يمكنهم منعنا من ذلك». 
أُدرجت هذه التوجيهات فيما سُمي «المشروع الفلسطيني»، الذي تضمن إنشاء نظام خاص، روسي، لاستقبال الحجَّاج الروس وتقديم الخدمات والمساعدة لهم. وقد تطلب التحرر من سيطرة رجال الدين اليونانيين، التي كانت تجلب لهم مداخيل طائلة من الحجَّاج الروس، امتلاك أراضٍ في فلسطين وتشييد المباني عليها، وإنشاء منظومة خاصة من المرافقين والأدلاء وتنظيم أعمال التنقيب عن الآثار. وتقول المؤرخة: «بحلول نهاية القرن (التاسع عشر- م. د.) حققت السياسة الدينيَّة (الروسيَّة- م. د.) في فلسطين نجاحًا ملحوظًا، من منظار المصالح الكنسيَّة والأيديولوجيَّة، فقد اكتسب الحضور الروسي في فلسطين شكلًا واقعيًّا فيما سمي «فلسطين الروسيَّة». وتشير المؤرخة في هذا الصدد، إلى أن توسع حركة الحجَّاج الروس في فلسطين بدعم من الأجهزة الروسيَّة أظهر أن «فلسطين الروسيَّة» كانت ظاهرة «فريدة من نوعها». وتضيف: «كانت اللغة الروسيَّة مسموعة في كل مكان (في فلسطين- م. د.)؛ وهي لم تكن لغة الحجَّاج الروس فقط، بل تحدث بها التجار العرب المحليون. وكانت النقود الروسيَّة متداولة بحرية. فبينما كانت هذه النقود تُصادَر في إسطنبول ودمشق وغيرهما من مدن الإمبراطوريَّة العثمانيَّة، فقد ظلت تُتداول بحرية في أسواق القدس على قدم المساواة مع النقود العثمانيَّة، حتى اندلاع الحرب العالميَّة الأولى».  
وتؤكد المؤرخة أن خصائص منطقة سورية الكبرى تركت آثارها على سياسة روسيا في المنطقة، فهي «مهد الديانة المسيحيَّة» وتحتضن المقدَّسات الدينيَّة ذات الأهمية القصوى بالنسبة للمؤمنين، الذين تُمثل فلسطين «وطنًا روحيًّا» لهم. وتخلص إلى القول إن الحضور والنشاط الديني والدبلوماسي في هذه المنطقة بالنسبة إلى الإمبراطوريَّة الروسيَّة كانا يهدفان إلى توطيد الأيديولوجيا الرسميَّة القائمة على الأرثوذكسيَّة والحكم المطلق واعتبار إمبراطور روسيا حاميًا للكنائس الأرثوذكسيَّة الشرقية، لذا لم يكن اهتمام الأسرة الإمبراطوريَّة بالسياسة الفلسطينيَّة من قبيل المصادفة.

حضارة وحضور مستمرَّان 
شهدت بداية الحقبة ما بعد السوفييتيَّة شحًّا في الكتابات عن فلسطين. بيد أن هذه الحالة لم تدم طويلًا، فعاد المؤرخون والباحثون، المستشرقون والمستعربون بالدرجة الأولى، إلى إيلاء قضية فلسطين وشعبها اهتمامًا متزايدًا. ومن الإصدارات المهمة التي تناولت القضيَّة الفلسطينيَّة بصورة شاملة، الكتاب الذي صدر عام 2018 بعنوان «دولة فلسطين: الحق في المستقبل»، والذي شارك في تأليفه ثلاثة من المؤرخين المستشرقين الروس المعاصرين. يكتسب هذا الكتاب أهمية كبيرة كونه قد يكون أول عمل شامل يتناول فلسطين وتاريخها والقضيَّة الفلسطينيَّة ووضع الفلسطينيين اليوم، يصدر في الحقبة ما بعد السوفييتيَّة، إذ إن كل ما صدر عن فلسطين خلال هذه الفترة كان عبارة عن دراسات وأبحاث متفرقة تناولت هذا الجانب أو ذاك من المسألة، من إعداد مستشرقين ومستعربين، اتسم بعضها بطابع منحاز إلى النظرة الصهيونيَّة. 
وتتسم بأهمية بالغة المقدَّمة بقلم البروفيسور ألكسندر أورلوف، والتي يقدم فيها بصورة مكثفة توصيفًا لفلسطين وموقعها وأهميتها وتاريخها ودورها في الحضارة البشريَّة، فيقول:
«تُعتبر فلسطين أحد مراكز ولادة الحضارة البشريَّة. إنها موطن الديانات التوحيديَّة الأساسيَّة الثلاث التي يدين بها مئات الملايين في مختلف أنحاء العالم. فلسطين هي عقدة الوصل بين القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأوربا، والتي اجتذبت الكثير من الغزاة منذ القِدم». ويؤكد في مكان آخر: «لقد كانت فلسطين على مدى قرون عديدة ساحة لصدام الحضارات من أجل السيطرة على هذه المساحة الدينيَّة - السياسيَّة، على هذا المركز الروحي العالمي. كانت فلسطين عشية الحرب العالميَّة الأولى موضع صراع بين الدول الكبرى الأساسيَّة؛ ومنذ انتهاء الحرب العالميَّة الثانية أصدرت الأمم المتحدة قرارًا تاريخيًّا يقضي بإلغاء الانتداب البريطاني وتقسيم فلسطين إلى دولتين يهوديَّة وعربيَّة. ونتيجة للحروب والنزاعات المتواصلة غدا العالم شاهدًا على ظلم صارخ. فقد حُرم الشعب العربي الفلسطيني من إقامة دولته المستقلة، وتحول الآلاف من الفلسطينيين إلى لاجئين، ووجد الكثير منهم أنفسهم أسرى لدى الاحتلال الإسرائيلي على أرضهم التاريخيَّة، واستولت إسرائيل على القدس، جاعلة منها «عاصمة أبدية للدولة اليهوديَّة».  
ويشير أورلوف إلى أن القضية الفلسطينيَّة كانت مختبرًا لأبشع عملية تزوير في التاريخ، تزعم أن الفلسطينيين ليسوا شعبًا وإنما مجموعة من المهاجرين من مختلف الدول الإسلاميَّة، لذا لا حق لهم في دولة مستقلة. ويقول بأن الآلاف من السياسيين والدبلوماسيين والمؤرخين ورجال الدين والخبراء الذين تجمعوا في المئات من المؤسسات والجمعيات والمراكز العلميَّة في الغرب وإسرائيل، انخرطوا في عملية التزوير هذه، وأطلقوا ماكينة ضخمة وفاعلة عملت وتعمل على التلاعب بالوعي الجماعي من أجل تشويه جوهر وحقيقة النزاع في الشرق الأوسط والقضية الفلسطينيَّة والأساس القانوني لحلها. ويخلص الباحث إلى القول بأن تسوية النزاع في الشرق الأوسط غير ممكنة من دون حل القضيَّة الفلسطينيَّة بصورة عادلة.
عمومًا، اتسم الكتاب بالتعاطف مع الشعب الفلسطيني وقضيته. وتبرز أهميته الكبرى في كونه جاء ليشكل استمرارًا لتقاليد مدرسة الاستشراق والاستعراب الروسيَّة في العهد السوفييتي، التي قاربت فلسطين وقضيَّة شعبها بصورة علميَّة وموضوعيَّة وبقدر كبير من التعاطف مع هذه القضيَّة والتأكيد على عدالتها. 
وأخيرًا، تبقى فلسطين - الأرض المقدَّسة، التاريخ والشعب والقضية - اليوم مصدر إلهام، وتشغل حيزًا واسعًا في وجدان الشعب الروسي الروحي. وتظل مركز جذب لكتابات الأدباء والشعراء والمؤرخين الروس. وهي كتابات تشمل اليوم مختلف الجوانب الروحية والثقافية والتاريخيَّة والسياسيَّة، فتشكل في مجملها جزءًا مكونًا من الثقافة الروسيَّة، ماضيًا وحاضرًا ■