إشبيلية البهية صاحبة المعارض الكونية

إشبيلية البهية صاحبة المعارض الكونية

على حافتَي القرن العشرين، استضافت إشبيلية، عاصمة الأندلس، أو إقليم أندلوسيا، معرضين دوليين ضخمين، أحدهما أقيم في الثلث الأول من القرن العشرين، وهو المعرض الأيبيري الأمريكي، والآخر انتظم في العشرية الأخيرة منه، وهو المعرض العالمي «إكسبو 92» وبين الحدثين، كانت إشبيلية، بل إسبانيا برمّتها، تخبر تجارب مؤلمة من الحرب الأهلية الإسبانية، وقبلها وبعدها تبدل نظام الحكم وعدم استقراره على حال، إلى المصاعب الاقتصادية الكبيرة. 

 

كان من المؤمّل من الأول أن يوطد العلاقات بين إسبانيا ومستعمراتها السابقة، ومن الآخَر أن يكون بمنزلة رافعة للاقتصاد الوطني لإقليم الأندلس، لكنّ رياح التاريخ كثيرًا ما تأتي على غير هوى سفن الرغائب والآمال، إذ نجم عن معرض إكسبو دَينٌ عام ينوء بحمله اقتصاد الدولة المضطربة.
وقد ساهم المعرضان، مع ذلك، في تحديث المدينة وتعزيز مكانتها الثقافية والسياحية، لا سيما مع ما تتمتع به هذه المدينة العتيقة التي تَمثّلها، يومًا، الكاتب والأديب اللبناني أمين الريحاني (1876 - 1940)، في رحلته إليها إبان مطالع القرن السالف، أنثى فاتنة الجمال، من إرث ضخم فخم متنوع المشارب الثقافية ومتعدد المنابع الحضارية.
في طريق القطار المنطلق من محطة ماريا زامبرانو في ملقا والواصل إلى محطة سانتا جوستا في إشبيلية، رحت أتأمل المشهد من نوافذ القطار السريع. إلى يميني عجوز فاغرة فاها ووجها مواجه للسقف تبدو أنها نائمة رغم عينيها نصف المفتوحتين. حاولت عبثًا دفع نفسي للنوم، بكل ما أوتيت من حيل النعاس، لكنّ الوسن لم يستجب ربما جراء مجريات جرت في مطار ملقا ضاعفت من تعب الرحلة الطويلة من الكويت إلى تركيا إلى مطار ملقا، ومنها إلى محطة ملقا للقطارات.

... ودخلنا إشبيلية
خرجت من المحطة، فاستأجرت سيارة أجرة توصلني إلى فندق برج إشبيلية «يورستار» ذي النجوم الخمس، وهو أطول مبنى في الإقليم بارتفاعه البالغ 180.5 مترًا، وطوابقه الـ 37، وهو يُعد أول ناطحة سحاب في إشبيلية، كما أنه السابع من حيث الطول على مستوى إسبانيا، وقام بتصميمه البيضاوي الشكل، المعماري الأرجنتيني سيزر بيل، حيث يربض على ضفة نهر الوادي الكبير كأنه برج قديم، يذكّر ببرج الذهب الواقع في الضفة الأخرى من النهر، مع فارق الحجم بالتأكيد.
لونه الأحمر واتصاله بجسر يصل بين ضفتَي النهر يجعل منه مَعلمًا من معالم المدينة وهو كذلك بالفعل. صعدتُ إلى حجرتي وكانت في الأدوار العليا، فوجدتها واسعة مريحة ذات واجهة زجاجية بطول الحائط وعرضه. 
ومنها يمكنك أن ترى معالم المدينة القديمة وامتداد نهر الوادي الكبير. وللفندق مقهى وبار في الطابق الأعلى منه، محاطًا بالواجهات الزجاجية من كل جانب، وهكذا إذا مشيت مع استدارة المبنى، فسترى المدينة من كل نواحيها من المركز القديم في الضفة اليُسرى إلى جزيرة كارتوخا التي يقع الفندق على ناصيتها. أعددت العُدة للأيام الحافلة بالنشاط والعمل لحضور أعمال الندوة الدولية التي كان عنوانها «القيم وأزمات المجتمع المعاصر... إشكاليات الهجرة والتعددية والتعايش»، مؤملًا نفسي فيما تبقى من أيام للتعرف إلى وجه إشبيلية الجميل الذي يجمع بين الملامح الشرقية والغربية.

الحرب الأهلية الإسبانية... أسباب وتداعيات
في القرن العشرين، نكبت إشبيلية بأرزاء الحرب الأهلية الإسبانية، وفيه شهدت ما كانت ترمي به إلى إنعاش اقتصادها والنهوض به، أعني تنظيم المعرضين الكبيرين؛ «المعرض الأمريكي الأيبيري 1929» و«معرض إكسبو 1992»، ونلمح هنا قلبًا لعام «29» إلى «92». أما الحرب الأهلية التي تكاد تغيب عن الذاكرة الفتية للأجيال الحاضرة في إسبانيا القرن الحادي والعشرين، فقد اندلعت في يوليو 1936، إثر انتفاضة، بل انقلاب عسكري ضد الجمهورية الناشئة.
والذي يقصد إلى فهم الحرب الأهلية يمكنه النظر إليها بوصفها أشبه بثورة مضادة، انقلاب عسكري بصريح العبارة. فالجمهورية الثانية في التاريخ الإسباني التي أسقطت الملكية وضمّت حكومتها وزراء هم خليط من الجمهوريين واليساريين والاشتراكيين، تكالب عليها المتضررون من سقوط النظام السابق، مراكز القوى في عهد الملك ألفونسو الثالث عشر؛ القادة الكاثوليك ومُلّاك الأراضي والبرجوازيون، وذلك بالرغم من الزّخم الجماهيري والشعبي المؤيد للجمهورية، وبالرغم من النموذج الديمقراطي الذي سعت القوى الجديدة؛ الجمهورية والاشتراكية، إلى تطبيقه. 
لقد صدر الدستور في ديسمبر 1931 نازعًا نزوعًا تقدميًا، فإسبانيا بحسبه «جمهورية ديمقراطية للعمال بجميع فئاتهم، تتميز بنظام حكم يقوم على الحرية والعدالة»، والطبقة العاملة أعيد النظر في أجورها وعززت إجراءات حمايتها، فيما شهدت الأراضي الزراعية والصناعات إصلاحات كبرى تعيد توزيع الأرضي على نحو عادل ومنصف، وهذه ضربة للبرجوازية.

تحالف رجال المال والدين
وإسبانيا بحسبه أيضًا جمهورية علمانية لا دور فيها، وبالتالي لا تمويل، لرجال الدين، فعلى سبيل المثال، صار الزواج والطلاق مدنيًّا، وتم إيقاف التعليم الديني الرهباني، أي فصل الدين عن الدولة، وهذه ضربة للكنيسة الكاثوليكية. بل قد بلغ الدستور في تقدُّميته حد منح المرأة حق التصويت للبرلمان في وقت مبكر نسبيًا حتى في الديمقراطيات الغربية.
إلى ذلك كله، بادرت الجمهورية إلى اعتماد السلطة المدنية، وأعادت غربلة الجيش، وهذه ضربة للعسكر. إذن، لم تكن تلك الإصلاحات الجذرية لتمرّ من دون أن تخلق خصومًا سيكون همّهم إسقاط الجمهورية. 
كان أبرز التحالفات هو تحالف رجال المال مع رجال الدين لضرب الجمهورية والتعبئة ضدها بخطاب يعتلي منابر الصحافة ومنابر الدين. ومع ذلك كله، لم تحقق تلك التحالفات بُغيتها في إسقاط القيم الجمهورية عبر صناديق الاقتراع، فلجأ الفاشيون واليمين الكاثوليكي إلى العنف ضد الحكومة والنظام الجمهوري برمّته.
ولئن أسقط الانقلاب العسكري عام 1936 الجمهورية أخيرًا بعد سنوات قاسية من الحرب الأهلية، فإن هذا الانقلاب لم يكن الأول، فقد سبقه انقلاب فاشل عام 1932 لم يحظَ بدعم أي حامية عسكرية من مدن إسبانيا إلا حامية عسكرية واحدة موجودة في الجميلة التي نزورها؛ إشبيلية.

تحولات عميقة
إن مفتتح القرن العشرين، والعقود الثلاثة الأولى منه تحديدًا، شهد تحولات عميقة في إسبانيا، نقول ذلك وفي البال ما يجري لدى جارات إسبانيا في القارة الأوربية، حيث الحرب العالمية الأولى كانت في أوج استعارها. ناهيك بالوباء الذي اشتهر، ظلمًا، باسم الجمهورية الإسبانية جراء التعتيم الشديد لدى دول العالم المشتبكة في الحرب، ولما كانت إسبانيا معرضة عن هذه الحرب ولم تشارك بها، فقد صرّحت منفردة، ولم تُخف أعداد الإصابات وحالة التفشي الوبائي على أراضيها، بل إن العاهل الإسباني نفسه كان قد أصيب بالمرض. 
وهكذا، صارت، في المشهد العالمي آنذاك، كما لو أنها الوحيدة التي تكبّدت أكبر الخسائر في تلك الأزمة الصحية، الأمر الذي كشفت الدراسات التاريخية زيفه وكذبه.
بعد أيام من الانهماك في أشغال الندوة والجدالات والنقاشات وفي بعض الأحيان السجالات، التي بقي منها ضمن ما بقي، تحت ضغط الزمن الغرائبي الذي خبرته وخبرته البشرية جمعاء أعني زمن الجائحة، والذي يفصل بين ذلك الزمان ولحظة الكتابة الآن، تلك الورقات العلمية المقدمة، ومنها ما كان يهتم بالتاريخ الإسباني الحديث والمعاصر، إحداها للدكتور سيف الإسلام بنعبد النور.

بيدرو... عاشق «العربية»
قبل انصرافي، ذات ضحى، انتهزت فرصة حضور المستشرق الإسباني المعروف بيدرو مونتابيت، عميد الاستعراب الإسباني المعاصر، لإلقاء بعض التأملات، في محاضرته الختامية «التعايش والمساواة والحرية»، حول العلاقة الملتبسة بين الشرق والغرب، هذا على الرغم من الحضور الأندلسي البهيّ بكل فتنته في فضاءات شبه الجزيرة الإيبيرية. 
وكان من ضمن إشارته انجذابه الشديد إلى اللغة العربية التي رآها خير عطيّة وُهبت للعرب، وقد كان يتحدث بعربية فصيحة قد تثقل على الكثير من الأساتذة العرب. كان قد تنحّى جانبًا متكئًا على مقعد في الجزء الخلفي من القاعة بعد انتهائه. 
بدا متأنقًا بسترته الحمراء وجاكيته البني وشعره الأشيب الأبيض، رغم التعب البادي في عينيه. دنوت منه أتجاذب أطراف الحديث حول ما جاء في كلمته، سألته أن أجري حوارًا صحافيًا معه ليُنشر في مجلة عربية. كان ودودًا مرحّبًا، غير أنه اعتذر لشعوره بالإرهاق وضيق الوقت. ثم وهو يتحدث أخرج من جيب معطفه قصاصة ورق فارغة وراح يكتب فيها عنوان منزله في مدريد. وقال: تزورني على الرّحب والسعة في الوقت الذي تريد وأجيبك عمّا تريد، وهي فرصة لا أضيعها في التواصل مع القارئ العربي، أو إن شئت أرسلت إليّ الأسئلة على البريد العادي. قلت: ماذا عن البريد الإلكتروني أو أحد تطبيقات الهواتف الذكية؟ فاعتذر قائلًا: لا أجيد من هذه التكنولوجيا إلا أقل القليل، ولست أتعاطاها في حياتي. التقطنا الصور التذكارية ومضى في طريقه ومضيت.

ساحة إسبانيا
على بالرغم من استمرار النقاشات العلمية المغرية في أنحاء الجامعة وفي كافيتيريتها، فإن إغراء استكشاف المدينة كان أشد. وهكذا وجدتني أخرج خلسة من الجامعة بمفردي، وأطلق العنان لقدمي لممارسة المشي الاستكشافي الحُر، كدأبي في سفري وترحالي، خصوصًا عند السفر منفردًا. مضيت من على رصيف الشارع مستقيمًا ولم أعقّب أو أمِل يمينًا أو شمالًا مع بعض التقاطعات المتواترة. بضع دقائق فوجدت أمامي، على رأس الطريق، واجهة عريضة لمبنى ضخم. أمام البناء ترتفع أشجار النخيل بهيبة وشموخ. سرت نحوه بعد أن أخرجت الكاميرا وثبّتُّ العدسة وضبطت بعض الإعدادات. 
دنوت من المدخل، فإذا هو مقر لبعض المؤسسات الحكومية، غير أن هذا ليس إلا جزءًا هامشيًا من واقع الصرح المعماري. وإذا انتقلت إلى الواجهة الأخرى من البناء، فستجد فيها ساحة فسيحة رحيبة بهية عجيبة. إنها إحدى أهم الساحات لا في إشبيلية ولا في إسبانيا وحسب، بل في بلدان القارة الأوربية قاطبة. إنها ساحة إسبانيا.
إذن، البناء يحيط بالساحة على شكل هلالي نصف دائري يبدو للناظر كما لو أنه يحتضن موجودات الساحة، ويشبه بمفرداته المعمارية معمار عصر النهضة. وعلى طرفَي الهلال المعماري، برجان شاهقان مشهودان من نواحي المدينة، فيما ثمّة برج آخر في بطن الهلال.
وهناك، في وسط الساحة، قناة مائية اصطناعية هلالية أيضًا تسير بحذاء البناء وتُجاري شكله الإهليجي، وتضفي على الفضاء المكاني روعة وجمالًا، خصوصًا مع المراكب الخشبية التي يستأجرها السياح لجولة تغذي العين بزوايا خفية لجماليات البناء، وفي القلب من هذا كله نافورة كبيرة تتوسط الساحة.

عربات إشبيلية 
في ساحة إسبانيا، كما الحال مع غيرها من ساحات وميادين وطرقات إشبيلية، تجد العربات المدهونة بالأسود والأصفر تجرّها الخيول، مضفيةً عليها طابعًا ملكيًا. على إحدى تلك العربات، لفتني ما أثار في نفسي الاستغراب، وما هو في راهن زماننا بغريب. كان سائس الخيل يدور بعربته مع هيئته التي تبيّن عن تململ من هذا الروتين اليومي، إذ كان مشدوهًا إلى شاشة هاتفه الذكي.
أما الأكثر غرابة فالسياح الذين يعتلون العربة وتشي سحناتهم بأنهم من القارة الآسيوية، إذ لا ترى للمكان فيهم أثرًا. هم مذهولون عن كل ما هنالك، بل وعن بعضهم البعض، بهواتفهم الذكية أيضًا. تساءلت في نفسي، إذن فيم كان ذلك، ولم استأجروا العربة الجميلة؟!
أتابع سير العربة بعيني، ولا أرى أي التفاتة تبدر منهم وأعينهم لا تتزحزح قيد أنملة عن الشاشات الصغيرة ولا هم ينطقون ولا ينفتح بينهم باب للحوار. ربّاه... إنه أشبه ما يكون بالسِّحر!
إنهم مطرقون مميلون رؤوسهم وأفئدتهم هواء بأهواء تطبيقات الهيمنة على الذات والحياة، حينما يختزل الافتراضي الواقعي ويجعله جزءًا منه عوضًا عن أن يحدث العكس.
سابقًا، كان العاملون في أي نشاط سياحي، كجرّ العربات مثلًا، لا يكفون عن الكلام حول تاريخ المكان وواقع الناس وراهن الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويقدم، بالتالي صورة للبلاد من واقع «متخيل» هذا الإنسان البسيط، وهي في الأغلب صورة صادقة ليس عن الواقع بالضرورة، ولكن عن المتخيلات الاجتماعية السائدة إزاء هذا الواقع، وهي بالمناسبة أكثر واقعية من الحقائق المتعالية، لكونها تمثّل محددًا للمسلكيات الاجتماعية، وهو - قبل ذلك - يعتبر ثرثرته جزءًا من الخدمة المدفوعة ضمن الاكتراء. فيما هي، فوق ذلك، نزوع إنساني نحو الاتصال والتواصل. نزوع يخلق ضربًا من الذكريات الخالدة ربما لا تفارق ذاكرة صاحبها.

زخارف تملأ المكان
رحت أتجول في أنحاء الساحة، شدني فيها تلك المقاعد الخرسانية المبلطة والمزخرفة بزخارف عديدة، ومن ورائها، على جدار البناء، تجويفات تكسوها رسومات وتشكيلات فنية وخرائط من السيراميك تمثّل أقاليم إسبانيا ومقاطعاتها. ويحرص الإسبان على التقاط الصور أمام اللوحة التي تمثّل إقليم كل منهم. وترى الباعة المتجولين يفترشون مواضع في الساحة لبيع ما لديهم من بضائع كالقطع التذكارية الصغيرة والمراوح اليدوية المختلف تصميمها وأشكالها.
ولعل أبرز ما يشد الناظر في جماليات المكان تلك الخزفيات والفخاريات التي تملأ الساحة؛ سواء خارج المبنى أو في رواقه أو على الجسور التي تعلو القناة المائية أو على التربزون من على حوافّ الشرفات. ويذكر أن هذه الساحة بكل مرافقها كانت محل اختيار بعض مخرجي السينما لتصوير عدد من الأفلام السينمائية، فقد ظهرت ساحة إسبانيا في فيلم «حرب النجوم»، وفيلم «لورنس العرب»، وفيلم «الدكتاتور» الذي يجسّد حياة طاغية العراق البائد صدام حسين.

المعرض الأيبيري الأمريكي
قبل الحرب الأهلية بقليل، وقبل سقوط الملكية بأقل، عمدت إسبانيا إلى تنظيم معرض كوني ضخم يضم دول المستعمرات الإسبانية التي لم يكن قد مضى كثير وقت على خسارتها. المعرض الشهير بالمعرض الأيبيري - الأمريكي احتوى على أجنحة عديدة لدول مثل البرازيل والولايات المتحدة الأميركية وغواتيمالا والبيرو والمكسيك وكوبا وفنزويلا وغيرها.
كان الغرض من المعرض توطيد العلاقات مع تلك البلدان التي كانت في زمن غير بعيد مستعمرات خاضعة للإمبراطورية الإسبانية، إلّا أن الاضطرابات السياسية والتحولات الاجتماعية والصعوبات الاقتصادية كانت تترصد الإمبراطورية السابقة، وهكذا تلاشت سطوتها شيئًا فشيئًا وضعُفت قوتها.
إن ساحة إسبانيا هذه كانت هي المقر الرئيسي للاحتفالية، وكانت تمثّل جناح إسبانيا، وقد عهد بتصميمها إلى المعماري الإسباني هنيبال غونزاليز، الذي وضع تصميم ساحة أخرى للمعرض، هي ساحة أمريكا القريبة منها.
أما اختيار الموقع فكان موفقًا تمام التوفيق، حيث تمتد أمام الساحة الحدائق الغنّاء؛ حدائق ماريا لويزا، وتقع على مقربة منها ضفة نهر الوادي الكبير. وتتوزع في محيط المكان أجنحة الدول المشاركة بتصاميم بديعة، والتي تحوّل كثير منها إلى متاحف أو مقارّ حكومية، من بينها جناح ساحة إسبانيا التي تمتد على مساحة 50 ألف متر مربع، ويحتوي بناؤها على رواق سقفه فاتن، حيث الزخارف والتشكيلات الفنية الآسرة، فيما يتمتع بشرفات مقوسة تمنح الساحة مشهدًا بديعًا، كما لو أنه إطار فني يحتوي الموجودات، بيد أن الأجمل منه تلك الإطلالات التي توفرها الشرفات في الطابق العلوي من البناء.
لقد نالت الساحة إعجاب زوار المعرض حينها، ولا تزال تثير إعجاب كل مَن يزورها إلى يوم الناس هذا.
في مدخل الساحة، ممر رئيسي يقف في ناصيته تمثال المعماري غونزاليز، وينتهي إلى الشارع المطل على النهر. سرت فيه شيئًا قليلًا، فكان إلى اليمين منه بركة مستطيلة يحوطها رواق عليه خيوط شجرة ملتفّة تخفي مادته الخرسانية. ثم انعطفت يسارًا ورحت أتمشى في تفاصيل خضرة حدائق ماريا لويزا، فوجدت بناء صغيرًا طرازه عربي يذكّر بمعمار المساجد، ولونه أبيض مزركش بالأزرق، وتقدمه نافورة صغيرة على هيئة نجمة ثُمانية الأضلاع مزيّنة بزخارف الأرابيسك، يُدعى البناء، بحسب اللوح التعريفي المثبت بزاوية منه، خوانيتا رينا.

متحف الفنون الشعبية
ورأيت، في زاوية الحديقة المطلة على الطريق المحاذي لنهر الوادي الكبير، بناء لم أشكّ في أنه قصر تاريخي. فالنخيل الباسقات التي تزيّن واجهاته الخلفية من قبل الحديقة، حيث كنت أسير، تترك للناظر مثل هذا الانطباع، بالتأكيد مع ما يظهر في البناء من تصميم بدا أندلسيًّا خالصًا. لكنك لو تقدّمت قليلًا لترى واجهته الأمامية المطلة على الساحة الأخرى من ساحات المعرض، وهي ساحة أمريكا، فسيزداد يقينك بأنه شيد قصرًا لملك من ملوك إشبيلية في عصر من عصورها، حيث يبرز في الواجهة برجان تعلوهما شرفتان تؤطّران الأبواب الثلاثة في وسطه والمزدانة بالقرميد المقوس والمزخرف، فيما تتصدر الساحة بركة مائية تنعكس على صفحتها تفاصيل الواجهة المعمارية بصفاء لافت، وبها ساحة للحمام وقد كانت تداعبه وتشاغبه طفلة جميلة.
غير أن العم «غوغل» أخبرنا بأن الموقع الذي هو اليوم مقر لـ «متحف الفنون الشعبية» إنما هو جناح من أجنحة المعرض.  قبالة المتحف، هناك متحف آخر هو متحف الآثار «الأركيولوجي»، وهو من بقايا أجنحة المعرض الذي كان. ومرة أخرى، فإن الساحة بأبنيتها وأجنحتها من توقيع غونزاليز.

مصنع التبغ صار جامعة
الشمس بدأت تميل إلى مضجعها، وفي طريق عودتي إلى الفندق مررت بالمقر التاريخي لجامعة إشبيلية. كان البناء ذا طراز باروكي كلاسيكي جديد، غير أنه لم يكن في أصله مبنيًّا لهذا الغرض العلمي، إذ إنه كان عندما تم تشييده في منتصف القرن الثامن عشر مصنعًا ملكيًا للتبغ يعدّ الأكبر من نوعه حينها في أوربا. وما تحوّل إلى موقع للجامعة، التي تعود نشأتها إلى عام 1505، إلّا في منتصف القرن العشرين.
مدخل البناء التاريخي مقوس وعليه تصاوير ومنحوتات تجسّد الرحالة كولومبوس والحاكم هينان كورتيس الذي يقال إنه أول من تعاطى الدخان في أوربا. ويشتمل المبنى على أفنية داخلية مفتوحة إلى السماء مطوقة بأروقة من ورائها الحجرات التي صارت قاعات دراسية. كان في الفناء ثلّة من الطلاب يبدو أن لديهم بعض الوظائف الدراسية. تعدّ جامعة إشبيلية الأولى في إقليم الأندلس والثالثة على مستوى المملكة الإسبانية لجهة أعداد الطلبة، وتُعرف اليوم بتميزها وعلوّ كعبها في ميادين العلوم والتكنولوجيا.

لمعان برج الذهب
ومما رأيت في طريق العودة، على الواجهة النهرية، برج مضلع من فوقه برج أصغر من فوقه برج آخر أصغر من سابقه وتعلوه قبّة صغيرة مذهّبة، يبدو للناظر أشبه برأس قلم، وقد زادته ألوان الغروب جمالًا إلى جماله. إنه برج الذهب المشرف على النهر، وتتناثر حوله، في الممشى، شجرات النخيل. 
بُني برج المراقبة هذا، في الزمن الغابر، على رأس أسوار حصينة، لحماية المدينة وعلى الأخصّ القصر. ويعود تاريخه إلى عام 1220 وشيّده الموحدون من الحجر، وكان القرميد المذهّب، حسبما قيل، ولست على يقين منه، يزيّن جدران البرج المضلعة، وهكذا كانت تسميته برج الذهب، فيما يرجع البعض تسميته إلى مجرد انعكاس أضواء الشمس عليه، مما أضفى عليه لمعان الذهب. لكنّ مصادر تاريخية أخرى تؤكد أنه ليس ذاك إلا لكون البرج قد استُخدم مخزنًا للذهب المنهوب من شعوب المايا والإنكا إبان حقبة غزو أمريكا.

ممشى ذو مستويات ثلاثة
ولما تجاوزنا البرج، كان في محيطه ممشى ذو مستويات أو تراسات ثلاثة؛ مستوى محاذٍ للشارع الرئيس وهو الأعلى، ومستوى مطلّ على النهر تمامًا، وهو في الأسفل، وبينهما مستوى ثالث. ويربط تلك المماشي منحدر معتدل ملائم للدرّاجات الهوائية ولعربات أصحاب الاحتياجات الخاصة. وما يميز المنحدر الحديث شكله الحلزوني وحجمه الكبير، وهو يضيف بعدًا جماليًا للمكان، رغم أن بعض السيفليانوس، باللسان الإسباني، الإشبيليين باللسان العربي، رأوا فيه تشويهًا لوجه المدينة العتيق، بحسب ما قرأت في تصفّحي لمواقع الشبكة الخاصة بمدينة إشبيلية. كما توجد بعض المنحنيات والمدارج والمهابط في محيط الموقع فيما أشجار النخيل السامقة تتوالى كأعمدة الإضاءة، ويصادف السائر في الجانب الآخر من الكورنيش، حلبة مصارعة الثيران «مايسترانزا» الأقدم في إسبانيا، والتي تربض هنا منذ بنيت في 1763. وهي دائرية الشكل فيما جدران الحلبة من الخارج بيضاء عليها صفرة الشمس، وكان جدارها يتزيّا بما يشبه الشرائط ذات اللون الأوركر الكركمي، وهو بالمناسبة لون المدينة الذي تراه في وجوه معمارها. وترى الجاريات من القوارب وزوارق «الكاياك» تجوب النهر بيُسر ذاهبة قافلة. ويوجد على أطراف الممشى عدد من المطاعم والمقاهي والحانات لها إطلالات جميلة على النهر.

الطيور وتمثال البرونز
ومما يلفت في ممشى برج الذهب تلك المنحوتات والأعمال الفنية المبثوثة في أرجاء المكان. كانت الطيور تملأ الفضاء تحط قليلًا وتطير سريعًا.
شاهدت تمثالًا نصفيًّا من البرونز الغامق تخرج من تحت رأسه، من خرق في ثوبه، يداه مشرعتان، فيما يفتح التمثال فمه كأنه يصرخ، وهو تمثال للموسيقي وفنان الفلامنكو أنتونيو ميرينا.
وكان الطير يقف على رأسه مستريحًا، فسارعت إلى اقتناص الصور وفي خاطري يتردد صوت أمل دنقل في رائعته «الطيور» المشرّدة التي لا تنسى أن الحياة مرة، وأنها ذات أجنحة، وأن الجناح حياة والجناح ردى، والجناح نجاة والجناح سدى. يقول دنقل:
الطيورُ مُشردةٌ في السّماوات... ليسَ لها أن تحطَّ على الأرضِ... ليسَ لها غيرَ أن تتقاذفَها فلواتُ الرّياح! ربما تتنزلُ... كي تَستريحَ دقائقَ... فوق النخيلِ النجيلِ التماثيلِ... أعمِدةِ الكهرباء... حوافِ الشبابيكِ والمشربيَّاتِ... والأَسْطحِ الخرَسانية. وبينما أنا على هذه الحال، إذ جاءني صوت ينادي من بعيد، فإذا بالأستاذ فيتشينزو رومينيا، الأستاذ بجامعة بادوفا الإيطالية، برفقة الأستاذة الباحثة المصرية ذات الروح الجميلة والسعيدة يسرى الجندي. «قفَشناك»... قالتها بمصرية شقية، وأردفت «أنت هنا إذًا وتحمل كاميرا، فلا بدّ من التقاط الصور التذكارية لنا». قلت: «نعم... أنا في حالة سير منذ نهاية فعاليات الندوة ظهرًا، وعلى الرُّحب والسعة، صورة، يكون برج الذهب خلفية لها، لا تفوت».

جزيرة كارتوخا
صباح اليوم التالي، تناولت إفطارًا بسيطًا في الطابق الأعلى من الفندق حيث المقهى، قطعة من الكرواسان الملتف المُحلّى بالعسل مع فنجان قهوة غير محلّى. أنغام شوبان متلألئة وهادئة تضفي على المكان البديع، الذي يوفر إطلالات على نهر الوادي الكبير وعموم مدينة إشبيلية، روح رائقة مطمئنة حيث الشمس لمّا تزل في صحوتها الأولى وتستجيب النفس لهذه السكينة بسلام داخلي منسجم.
وقفت أنظر إلى كارتوخا من موضع يبين عن تفاصيلها وموجوداتها التي تزيّن وجه الجزيرة. على أن المشهد الذي نراه اليوم حافلًا بالمباني والعمران المعاصر المختلف أنماطه وطرزه المعمارية والبحيرات الصناعية والطرقات المظللة بالأشجار الخضراء والجسور المعلّقة على نهر الوادي الكبير وعلى القناة الصناعية والشوارع، لم يكن هو الوجه الذي كان قبل 30 عامًا. لقد كانت الجزيرة خالية إلّا من الحقول الزراعية الخضراء وأشجار البرتقال والزيتون في المساحات الشاسعة، فضلًا عن الدير القديم الشهير بمكوث الرحالة والمستكشف كريستوفر كولومبوس فيه لبعض الوقت حينما كان يضع مخططاته الملاحية، قبل أن ينطلق في رحلته التي انتهت إلى اكتشاف العالم الجديد. 
إن اللحظة التاريخية التي غيّرت من شكل الجزيرة جذريًا تعود إلى عام 1992 حينما انعقد المعرض الدولي الشهير «إكسبو 92» على مساحة تمتد إلى 215 هكتارًا. وكما غيّر المعرض الأيبيري - الأمريكي (1929) ملامح إشبيلية بالضفة اليسرى من النهر في جانبها الجنوبي، كذلك فعل «إكسبو 92»، في مشروع استمر العمل عليه لسنوات خمس. لتتكثّف معالم المدينة في القرن العشرين من مبتدئه إلى منتهاه، مع التشديد بالطبع على المعالم التاريخية الأصيلة التي تميّزها. 
فقد اكتست إشبيلية أردية عمرانية ترجع إلى الحضارات المتعاقبة التي مرّت عليها في تاريخها المديد. وساهمت المعارض في تطوير البنية التحتية للمدينة بخلقها فضاءات مفتوحة وبُسُط خضراء، مثل الحدائق والميادين، فضلًا عن تجديد المطار وشبكة الطرق السريعة الجديدة والنقل العام ومحطة السكك الحديدية والقطارات السريعة، ومحطة سانتا جاستا، والكثير من الجسور الواصلة بين ضفاف النهر.

دير الجزيرة
تقدمت راجلًا إلى شمال الجزيرة الواقعة شمالًا من الطريق المحاذي للنهر، والذي جُسّر بجسور عديدة لتيسير تنقّل السياح وزوار معرض إكسبو، شاهدت المتحف البحري من على النهر، وهو كان قبلًا أحد الأجنحة الخاصة بالمعرض قبل تحويله إلى متحف. وغير بعيد عنه، كان عن شمالي جدار الدير القديم مستطيل الشكل، فدلفت من بوابته القريبة. في الدير تجد تلك الأبراج المخروطية الترابية اللون، وهو يحتضن اليوم المركز الأندلسي للفن المعاصر.
وهذا الدير له حكاية، بل حكايا، حيث شيد عام 1400 تخليدًا لذكرى سانتا ماريا دي لا كوفار، وفيه دفن الرحالة كولومبوس، وكان قد استضافه فيه رهبان المعبد في مناسبات عديدة. غير أنه صودر وبِيعَ، بعد ذلك، إلى مصنعي إنجليزي يدعى تشارلز بيكمان، فأزاح عنه الطابع الديني، وأقام مكانه مصنعاً للسيراميك والخزفيات. ومن ذلك نصبت فيه المواقد والأفران والمداخن، وهي من الآثار الباقية التي يراها الزائر إلى يوم الناس هذا. أما دوره في معرض «إكسبو 92»، فقد كان موضعًا للجناح الملكي الذي أنقذه من الإهمال، وكان فرصة لاستعادته أثرًا تاريخيًا كاد يضيع.

«إكسبو 92»
في أبريل 1992، نظمت إشبيلية، لمدة 6 أشهر، معرض إكسبو، وكان قد وقع الاختيار على مساحة هائلة من الجزيرة لتقام عليها الحدائق والميادين والطرقات والمطاعم والمحال التجارية، وغيرها من حاجيات المدن ومستلزماتها، إلى جانب - بالطبع - الأجنحة المعمارية التي ساهم في تصميمها أهم المعماريين في نهاية القرن العشرين. ورسمًا على الموضوع الرئيس للمعرض؛ «عصر الاكتشافات»، الذي جاء احتفاء بمرور 500 عام على اكتشاف كولومبوس للأميركيتين، والذي كان منطلقه فيها بهذه البلدة، تحددت أجنحة المعرض الخاصة بإسبانيا بأربعة مواقع رئيسية؛ جناح القرن الخامس عشر ويقع في دير سانتا ماريا، وفيه يشاهد الزائر شيئًا من الحياة العلمية والتقنية، بل والاقتصادية والفنية والثقافية بالعموم لذلك العصر. فيما يضيء جناح الملاحة على تطور التقنيات الملاحية في مختلف عصور التاريخ إلى جانب التعرّف إلى أهم السفن والمراكب من حول العالم. أما جناح الطبيعة، فقد كان يتضمن معرضًا عن النظام البيئي الإيكولوجي في دول أمريكا اللاتينية. وأخيرًا، جناح المستقبل، حيث تم تقديم صورة شمولية لمسارات الحقول المعرفية والعلمية، وتحديدًا علوم الطاقة والاتصال والبيئة، وعلم الفضاء والكونيات، وغيرها.

في هجران الفضاءات
قضيت ساعات الضحى في الجزيرة منفردًا أتجول وأبصر وأتبصر في أبنيتها أجنحتها ومعمارها وفضاءها الطبيعي والصناعي. 
بدت الجزيرة مهملة وشبه مهجورة، أو هذا ما خيّل لي، على الأقل، فلا تكاد ترى فيها أحدًا، مدينة أشباح، شوارعها شبه فارغة، هي التي زارها وقت المعرض ما يزيد على 40 مليون زائر. أي فرق بين مركز المدينة في الضفة الأخرى من النهر النابض بالحياة والناس؟ استوحشت المكان شيئًا قليلًا، ورحت أتساءل في نفسي: كيف لمن أقام كل هذه الآثار أن يتركها هكذا عرضة للضياع والاندثار؟ لماذا يتحول البناء والعمران الذي هو فعل إنساني عظيم إلى فعل إنساني آخر؛ النبذ والهجران؟ أي علاقة بين العمران والإنسان وما صلتهما بالاجتماع البشري؟

دَيْن ثقيل 
في عدد فبراير 1992، أفردت «نيويورك تايمز» تقريرًا صحافيًا تقول فيه إن المعرض الذي استغرق مشروع بنائه خمسة أعوام وأنفقت عليه ملايين الدولارات ودشّنه الملك الإسباني خوان كارلوس، لم يأتِ بخير كان المنظمون يأملون تحقيقه؛ أعني انتشال اقتصاد البلاد من عثرات تنامت وصارت أزمات متكررة، خصوصًا في إقليم الأندلس، لقد حدث العكس، فهذا الحدث الضخم، الذي كلف إسبانيا مليارَي دولار أنفقت على إنشاء الطرقات والبحيرات الصناعية والأبنية والقاعات والحدائق، ناهيك بإنفاقها نحو 15 مليارًا على المشاريع ذات الصلة بـ «إكسبو» من قبيل التطوير الحضري في إشبيلية عمومًا؛ كمدّ الجسور البالغ عددها 8 على صفحة نهر الوادي الكبير، وتشييد الطرق السريعة في الجنوب الإسباني، ومد السكك الحديدية المتطورة للقطارات السريعة، أقول إن هذا الحدث، رغم كل ذلك، جاءت نتائجه على خلاف المأمول، فطوفان الديون خلّف المدينة غرقى، وما استفاد من كل ذلك إلّا قلة من الرأسماليين كدأبهم في الجشع والتوحش.

الجناح الأبيض
وأنا أجول بين الأجنحة، لفتني بناء أبيض مستطيل ذو أشرعة حديدية بيضاء متداخلة متضامّة تشبه سعف النخيل متشابكة كتشابك أصابع اليدين. دنوت منه فرأيت في زاوية منه لوحًا أبيض مكتوبًا عليه بالإنجليزية «كويت». إنه جناح دولة الكويت التي أبت إلّا أن تشارك في المعرض، رغم أنها كانت قد خرجت للتوّ منتصرة في حرب تحريرها من الغزو الصدامي. ومما عرفنا من أمر هذا الصرح أنه كان من الأجنحة المتميزة، وأن السعفات الحديدية المنغلقة كانت متحركة وقابلة للفتح والإغلاق. ومَن أراد أن يرى الجناح في صورته المُثلى، يمكنه ببساطة الدخول إلى الموقع الشهير «يوتيوب» والبحث عن أغنية اسمها «حينما نرقص When We Dance» للفنان استنغ، إذ إنه اختار الجناح موقعًا لتصويرها. وفي الفيديو كليب، ستكون صورة الجناح ظاهرة بأبهى صورها ويتجلّى بها الطابع الكويتي. حاولت عبثًا التواصل مع أحد لدخول الجناح، لكن بلا جدوى، فلما استيأست من الاستئناس بأحد قفلتُ راجعًا إلى الطريق الرئيس، فرأيت مجسّم صاروخ أبيض من أمام مبنى ضخم مستطيل الشكل وتؤطره أقواس متواترة.

عُرس في ساحة الكاتدرائية
ولما كان ظهر اليوم، انطلقت، جنوبًا، إلى إشبيلية القديمة التي تبعد عن جزيرة كارتوخا 20 إلى 30 دقيقة سيرًا على الأقدام، عابرًا النهر من أحد الجسور الجميلة، وقاصدًا دخول المئذنة والكاتدرائية، والقصر إن كان ثمّة وقت. ولعل ما يلفت السائح، وهو يسير في هذه المدينة الباذخ جمالها، تلك المسارات الموجودة في معظم طرقات وزوايا وشوارع إشبيلية والمخصصة للدرّاجين على دراجاتهم الهوائية. والمدينة، بحق، من أفضل المدن الصديقة للمشاة وهواة وقادة الدراجات الهوائية، حيث الطرق آمنة والمسارات منسابة بدقة وانسجام، وتتاح لمن لا يملك دراجة فرصة استئجارها من الشركات الكثيرة المنتشرة في نواحي المدينة.
ولما وصلت إلى ساحة الكاتدرائية، وجدت عليها أمّة من الناس بلباس متأنق؛ بدلات رسمية وفساتين سهرة، يتحلّقون حول سيارة بيضاء مكشوفة السقف، فكان أغلب الظن عندي أنهم يباشرون تصوير مشاهد لمسلسل أو فيلم سينما، إن البعض يحمل بالفعل كاميرات فوتوغرافية وكاميرا فيديو. ومنهم واحد كان ينحني إلى مستوى الأرض لتصوير المشهد من زاوية خفيضة، وكلما مال عاد خطوات قليلة إلى الوراء، مبتعدًا ما وسعه، عن المئذنة الشاهقة، فعرفت أنه يريد أن يتخلد المشهد في الصورة مع ظهور «الخرالدة» كاملة فيها، ويبدو أن مقاسات عدسته لم تكن تسعفه، فليست هي من عدسات الزوايا الواسعة. اقتربتُ من الجمع بعين فاحصة، ثم اندسست بينهم وجعلت ألتقط الصور من زوايا متباينة، وبينما أنا على هذه الحال، إذ بتصفيق وهتاف يعلو ويطغى فجأة، فالتفتُّ تجاه بوابة الكاتدرائية، وانكشف الغامض، إنها حفلة عرس، وها هما العريسان يخرجان بعد عقد قرانهما قبل لحظات. وما إن ركبا السيارة حتى راحت السيدات الأنيقات يرمين الورد والزهور عليهما كالمطر الغامر. وبالرغم من مساحيق التجميل الثقيلة، تخبر وجوههن عن عمر مديد وشقاوة طفولية وبقية من جمال.

كاتدرائية على أطلال مسجد
فضلت دخول كاتدرائية سانتا ماريا والمئذنة أولًا، ولا يعزب عن أي مهتم بتاريخ الأندلس أنها كانت في الأساس جامع المدينة الكبير، بناها الموحدون في حدود القرن الثاني عشر الميلادي بأمر من الخليفة أبي يعقوب يوسف الموحدي، وبتصميم للمعماري أحمد بن باسو، لكنّها إبان القرن الخامس عشر تحولت إلى كاتدرائية ضخمة تعد الثالثة من حيث الحجم بعد كاتدرائية سانت بيتر في الفاتيكان وكاتدرائية سانت بولس في لندن.
الكاتدرائية ذات طراز معماري قوطي، يتجلى من خلال الأقواس الحادة المتتالية التي تؤطر مداخلها وشبابيكها الدائرية وأروقتها والنوافذ الزجاجية المعشقة والملونة بألوان متعددة. 
ويذكر هنا أنها تمثّل أكبر معبد يبنى على هذا النمط المعماري. لجمال المئذنة، المَأثرة التي تقيد منجز الموحدين الحضاري، لم يشأ حكام المدينة الجدد هدمها، بل حافظوا على بهائها الشاهق. إنها اليوم معلَم المدينة الأبرز.
 
رباب تصدح في مقهى إسباني
بعد أن انصرفت عن الكاتدرائية، وأشبعت عيني وعدسة الكاميرا من التكوينات المعمارية والفنية داخلها ومن حولها، شعرت بحاجتي إلى جرعات من الكافيين، فمضيت من أمام بوابة الكاتدرائية في طريق طويل على ناحيتيه مقاهٍ ومطاعم. 
اخترت إحداها بعشوائية، جلست إلى طاولة بزاوية المقهى أمام شباكه الواسع المنفتح على الطريق. خلت نفسي وحيدًا إذ لم تقع عيناي فيه على أحد، لكنني وأنا بانتظار جرعتين من الإسبريسو، تناهى إلى سمعي صوت شرقي أصيل لا تخطئه أذني، يتغنى «احتمال أنسى حبك... احتمال... احتمال إني أرد لك... احتمال... احتمال».
رباب في مقهى إسباني، قلت في نفسي ربما يكون النادل عربيًا أو من أصول عربية. لكن عندما تتبعت مصدر الصوت، وجدته ينبعث من سماعة هاتف رجل في أقصى المقهى يبدو أنه سائح خليجي في الخمسينيات، وتلوح عليه علامات الانتشاء بنغمات الكرد المنسابة في اللحن كمتوحد صوفي شفّه الوجد في بكائية من بكائيات رباب. إذن لست وحيدًا في هذا المقهى. 
انتبه إليّ، فأشار بيده إلى الهاتف إن كان يزعجني صوته. فلوّحت بدوري بعلامة رضا. رشفات القهوة كانت ممزوجة بصوت رباب، يا لجمال ومحاسن المصادفات التي يوفرها لك القدر دون أي مجهود أو قصد. أرسلت نظري في الطريق الضيق المبلط بالأحجار أتأمل في وجوه الغاديات الحِسان.
أدركت، قريبًا من المقهى، ساحة القصر، وكانت مكتظة بمجاميع السياح. حاولت الانتظار في طابور طويل، غير أن أحد القائمين على الموقع أخبرنا، نحن الذين في آخر الطابور، أننا، على الأرجح لن تتاح لنا اليوم فرصة زيارة القصر، ويفضل أن نأتي في اليوم القابل مبكرًا، فاليوم بدأ يفقد معظم ساعاته. فلبثت مليًّا ثم قفلت راجعًا خائبًا إلى الساحة؛ مرددًا في نفسي «لو جعلته الوجهة الأولى».

جولات في الأزقة والميادين
تسكّعت بين الأحياء والميادين على غير هدى. مشاهدة رقصة الفلامنجو خيار جيد، بيد أن معظم بيوت الفلامنجو كانت ستبدأ في وقت متأخر من المساء. مضيت في الأزقة متأملًا وجوه البيوت وواجهات المحال والمطاعم التي كان معظمها مغلقًا، فذا هو وقت القيلولة للإشبيليين ثم وجدت نفسي في نهاية الزقاق بساحة الكاتدرائية مجددًا. ثلة من الأساتذة الأصدقاء كانوا في الساحة، د. خالد الغزالي، د. يوسف السباعي، د. مونيا العلالي. كانوا على عجلة من أمر، فمنهم من يغادر إشبيلية الليلة كلٌّ في طريق ووجهة. ودّعتهم، فكان على مبعدة خطوات قليلة يقف د. محمد بن صالح يتأمل في «الخرالدا». تغادر الليلة؟ سألته. فأجاب بالنفي، وبأنه سيرحل غدًا صباحًا في ذات وقت خروجي من إشبيلية. وقال: إذن تسامرني فيما تبقى من نهار اليوم وليلته، وتتذوق معي أكلة الباييلا الشهيرة، أعرف مطعمًا يتقنها ويخرجها في أبهى حلة وأرفع مذاق. قلت: بلى.
وفجأة ظهرت مرة أخرى الباحثة المصرية الخفيفة الروح، «قفشتكم»، قالتها وهي تنظر إلى الكاميرا. بالأمس صورة مع رومينيا أمام برج الذهب، واليوم صورة مع بن صالح أمام المئذنة. على الرّحب والسعة. فابتعدت ما استطعت حتى تظهر المئذنة في خلفية الصورة. ثم جال بنا بن صالح، وهو الخبير بدروب الأندلس، من منعرج إلى يمين المئذنة. وهكذا استمرينا في السير إلى أن جنّ الليل فتوقف بنا في المطعم الذي يقصده. وخيّرني من أطباق الباييلا المختلفة، فاخترت التقليدي منها وبثمار البحر حصرًا دون الدجاج. ذائع أن الباييلا هي تحريف لكلمة «البقية» من الطعام، إذ إنها طعام الفقراء الذين يجمعون بقايا من وجبات متفرقة ويجعلونها في طبق يحطّ فيه الدجاج والسمك والروبيان وخلافه. راقني مذاقها وأكلت بنهم. 
ثم انتقلنا إلى مقهى قريب، فأخذ كلٌّ يتحدث عن وجهته؛ أما يسرى فتمضي إلى مصر، وأما بن صالح فيذهب إلى قرطبة غدًا، ومن بعدها ينتقل إلى غرناطة، حيث مقر المركز الثقافي الذي يرأسه. وأما أنا فأنطلق صباح الغد عبر محطة القطارات إلى مالقا، أمضي فيها ليلتين، مختتمًا بهما رحلتي ■

 

من جميل ما يشاهده الزائر لإشبيلية ساحة إسبانيا. ساحة فسحة رحبة ويحيط بها بناء هلالي فخم، وتشقها قناة مائية اصطناعية.

 

عربات إشبيلية الملكية تجوب طرقاتها وساحاتها.

 

للوهلة الأولى يخال الناظر إلى هذا البناء أنه مبنى أندلسي قديم لكنه في الحقيقة، جناح من أجنحة المعرض الأيبيري الأمريكي الذي نُظم قبل الحرب الأهلية في بدايات القرن العشرين هو اليوم مقرّ لمتحف الفنون الشعبية.

 

برج الذهب... بناه «الموحدون» من الحجر، وتختلف الروايات التاريخية حول سبب تسميته.

 

المستشرق الإسباني المعروف بيدرو مونتابيت

 

تبقى مئذنة الجامع الكبير الذي تحوّل إلى كاتدرائية إشبيلية بشموخها وارتفاعها أجمل المعالم التي يقصدها زوّار إشبيلية.

 

في ساحة إسبانيا، مصطبات تكتسي بالسيراميك وعليها زخرف بديع.

 

مشهد بانورامي يظهر تفاصيل المدينة