الصومال .. دولة دون اعتراف دولي

 الصومال .. دولة دون اعتراف دولي
        

"الصومال الآن أشبه بفاكهة نصفها السفلي معطوب وفاسد وذلك ما يجسد محنة جنرالات الحرب الذين يتقاتلون في الجنوب، أما نصفها العلوي فسليم يغري الناظر إليه بالاقتراب منه، وهذا ما يعكس واقع الحال في الشمال".

         كان هذا التشبيه ضمن حديث للسيد عبدي إدريس مسئول الإعلام والعلاقات العامة في قصر الرئاسة, بجمهورية أرض الصومال أو (صومالي لاند) كما يطلقون عليها أحيانا, وعبدي الذي كان يتحدث إلينا ونحن نقف في باحة المطار الصغير, والذي تشير لافتة إلى أنه مطار هرجيسا العاصمة, تم افتتاحه رسميا العام 1958, ويبعد نحو بضعة كيلومترات من وسط المدينة, وفي الطريق يواصل عبدي حديثه وهو ينطلق حماسا للوضعية المستقلة التي تعيشها بلاده ويبذل قصارى جهده في إعطاء الزائر انطباعا جيدا عن الجمهورية التي تحاول مجددا إعادة بناء نفسها بعد الدمار الكبير الذي لحق بها, وذلك دون ضوضاء ودون اكتراث بمسألة الاعتراف الدولي.

         ويصر عبدي دائما على أن يستعين بثقافته العربية الإسلامية, شأنه في ذلك شأن الكثيرين من أبناء الجمهورية الذين يعتزون بأصولهم العرقية والقبلية ويظهرون تمسكا شديدا بعقيدتهم, وفي الصومال كله لا يدينون بأي ديانة سوى الإسلام ويهتدون في ذلك بمذهب واحد هو المذهب الشافعي, ويتحدثون اللغة الصومالية إلى جانب اللغة العربية التي تنتشر على نطاق واسع. ولهذا يحاول عبدي دائما أن يوضح الروابط التاريخية لبلاده مع دول الإقليم.

الجغرافيا تصنع التاريخ

         ويشير في هذا الصدد إلى العلاقة التجارية التي كانت قائمة مع الفراعنة في العصور القديمة وبالأخص الملكة حتشبسوت, حيث عرفت الجمهورية بإنتاج نوع مميز من البخور له رائحة عطرة, وثمة بعض الآثار التي تدل على تلك العلاقة, مثلما أن بعض العادات والتقاليد تنطوي على شواهد تدل على ذلك أيضا. بعدئذ ظلت المنطقة التي تشمل جميع المناطق الجغرافية في شرق إفريقيا مصدرا للتنافس الاستعماري بين القوى الأساسية (بريطانيا, إيطاليا, فرنسا) وفي هذا الإطار توزع الصومال بين خمس قوى استعمارية, فاحتلت فرنسا عام 1884 الجزء الذي شاع بتسميته بالصومال الفرنسي (جمهورية جيبوتي الآن بعد استقلالها عام 1977) وهو يتسم بأهمية بالغة نظرا لمواجهته خليج عدن وباب المندب, أما جمهورية أرض الصومال فقد كانت جزءا من الإمبراطورية العثمانية تحت زعامة خديو مصر وعرفت باسمها الراهن, وفي عام 1848 قضت بريطانيا على الحكم التركي ـ المصري وأقامت محمية (صومالي لاند) واستكملت احتلالها تماما في العام 1887, والقسم الثالث الجنوبي احتلته إيطاليا عام 1889 وسمي بذلك, أما القسم الرابع المعروف باسم (الأوغادين) فقد احتلته إثيوبيا بدءا من العام 1885 لتحكم قبضتها عليه في العام 1897 بموجب اتفاقية الحدود المبرمة بينها وبين بريطانيا, والجزء الخامس والأخير هو المتاخم لجمهورية كينيا وسمي بذات الاسم أو (أنفدى) وقد تم تدويله بموجب اتفاقية 15 يوليو 1924 بين إيطاليا وبريطانيا.

         وبعد الحرب العالمية الثانية عملت الدول المنتصرة (أمريكا, بريطانيا, فرنسا, الاتحاد السوفييتي) بموجب اتفاقية الصلح الموقعة مع إيطاليا في باريس (10/2/1947) على إرغامها على التنازل عن كل سند أو حق من ممتلكاتها في إفريقيا, وهي ليبيا وإريتريا والصومال الإيطالي, كما نصت الاتفاقية على أن تستمر هذه المستعمرات تحت الإدارة البريطانية لفترة محددة إلى أن يتم تقرير مصيرها, وأحيلت القضية للأمم المتحدة, وفي العام 1949 قررت الجمعية العامة استقلال ليبيا والصومال مع الإبقاء على حالة إريتريا إلى أن ضمها الإمبراطور هيلاسلاسي فيدراليا وبمباركة الأمم المتحدة عام 1952 إلى إثيوبيا.

         نالت جمهورية أرض الصومال استقلالها في 26 يونيو 1960, فتقاطرت اعترافات الدول بها إلى أن بلغت نحو 38 دولة من بينها الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن ومصر من الدول العربية والإمبراطورية الإثيوبية من الدول الإفريقية, وبعد عدة أيام أي تحديدا في الأول من يوليو من العام نفسه استقل الجزء الجنوبي, فقام قادة الشمال وطلبوا الوحدة معهم, توخيا لهدف الصومال الكبير الذي يضم أجزاءه الخمسة, غير أن الفترة التي حكم فيها سياد بري (1969 ـ 1991) أذاق فيها أهل أرض الصومال ألوانا من حكم القهر والبطش, حيث أباد أكثر من خمسين ألفا من أبنائها الذين قاوموا حكمه تحت راية الجبهة الوطنية, الأمر الذي دفعهم مرة أخرى إلى إعادة النظر في الوحدة التي كانت قائمة والعمل باتجاه الاستقلال, ويعتبر معظم مواطني الجمهورية أن الوضع الحالي ليس استقلالا عن الجنوب بقدر ما هو إرجاع عقارب الساعة للوراء وتكريس الأصل الذي كان موجودا قبل أربعة عقود زمنية.

مظاهر المؤسسية

         عندما أعلن الاستقلال في 18 مايو 1991 بدأ المسئولون في الجمهورية بإعادة بناء ما دمرته الحرب وإرساء مؤسسات الدولة بصورة ديمقراطية, فتم انتخاب الرئيس عبدالرحمن تور في مؤتمر عقد في مدينة (برعو) حضره الزعماء التقليديون والذي تم فيه اتخاذ قرار الاستقلال, وشكلت حكومة انتقالية لمدة سنتين, ثم عقد المؤتمر الثاني في مدينة (بورما) في الفترة من يناير وحتى مايو 1993 وتم فيه انتخاب الرئيس محمد إبراهيم عقال, وتشكيل برلمان ثنائي (مجلسا شيوخ ونواب) لمدة ثلاث سنوات, ثم عقد المؤتمر الوطني الثالث في العاصمة هرجيسا فتمت المصادقة من المجلسين على تمديد فترة الرئاسة لمدة سنة ونصف, وكان انعقاده في الفترة من 15 أكتور 1996 وحتى 12 مارس 1997, وأعاد المؤتمر انتخابه لفترة ثانية مدتها 5 سنوات بأغلبية 223 من مجموع 315 صوتا. وقد قامت الحكومة بحل المليشيات القبلية وتم تكوين جيش نظامي قوامه نحو 25 ألف جندي كما يؤكد على ذلك الكولونيل إسماعيل محمد عثمان القائد العام للقوات المسلحة والذي سبق أن نال دورات في فترتي السبعينيات والثمانينيات في كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق في عهد الرئيس سياد بري ومن ثم التحق بالجبهة الوطنية لمقاومته, أيضا تم إعادة تكوين جهاز الشرطة بأفرعه المختلفة, وأنشئت الوزارات والمؤسسات الحكومية, واتبعت الدولة اقتصاد السوق الحر, حيث عاد الكثير من أبنائها المغتربين وخاصة الذين كانوا في أمريكا وأوربا ودول الخليج المختلفة وأسسوا شركات خاصة, كما أصدرت الجمهورية عملة جديدة هي الشلن الذي يبدأ من فئة الواحد وحتى 500, وفي هذا الصدد يشير مدير البنك المركزي السيد عبدالرحمن دعالة والذي يتميز بخبرة في هذا المجال حيث تولى إدارة البنك المركزي أيضا في مقديشو في الجنوب, يشير إلى أن البنك يدير الأنشطة المالية والتجارية عبر ثمانية فروع ثلاثة منها في العاصمة والبقية في الأقاليم, وأن البنك يشرف على عمليات الصادر, حيث تصدر أرض الجمهورية ما قيمته 110 ملايين دولار من الماشية سنويا (كان الصومال كله يصدر في عهد سياد بري بما يساوي 70 مليون دولار ماشية و24 مليون دولار موزا سنويا), ويضيف عبدالرحمن أن الجمهورية تصدر أيضا الأسماك والجلود, ويتم أحيانا الاستيراد عن طريق المقايضة بواسطة التجار الذين يستوردون السكر والأرز, ويشير كذلك إلى وجود الصرافات الخاصة, غير أنه يقول إنها تتم بترخيص من البنك الذي يقوم بتحديد الأسعار, ويؤكد أن ثمة اتصالات مع بنوك في المنطقة خاصة جيبوتي وإثيوبيا لتبادل المراسلات البنكية المختلفة.

         من مظاهر السيادة في الجمهورية أيضا إصدارها جواز سفر لمواطنيها, لكن بالطبع تداوله مرهون بالاعتراف الدولي, كذلك من المظاهر خدمات الاتصالات والبريد, وفي هذا المجال يقول السيد رشيد شيخ وزير الاتصالات: إن وزارته تشرف على 5 شركات من القطاع الخاص تقدم خدماتها الهاتفية وتربط أقاليم أرض الصومال بعضها بعضا, كذلك تربط الجمهورية مع جميع أنحاء العالم, ويضيف أن وزارته تقدم خدمات البريد المحلي والخارجي واستصدرت طوابع خاصة يتم التعامل بها, إلى جانب خدمات البريد السريع (دي. أتش. إل). وهناك خطوط للطيران الخاص تناهز شركات سبعا وهي تحمل المسافرين والعائدين من العاصمة هرجيسا إلى جيبوتي وبعض دول الخليج.

         ومن ضمن الوزارات الاقتصادية هناك وزارة للثروة السمكية وذلك للاستفادة من الشواطئ المطلة على البحر.

مدن لها تاريخ

         عندما يكون الحديث عن جمهورية أرض الصومال, لابد وأن يأتي المرء على سيرة مدينة بربرة, هذه المدينة المثيرة للجدل دوما, ففي عهد سياد بري ارتبط اسمها بالحرب الباردة حيث حولها الجنرال بري إلى أكبر قاعدة عسكرية سوفييتية, ومارست الدور ذاته حينما تحول إلى المعسكر الغربي الأمريكي, اتجهنا إليها برا في طريق مزفت وهي تبعد من العاصمة نحو ساعتين تقريبا, وفي جولة حرة رافقنا فيها السيد عبدالله حاج علي حاكم المدينة الذي قدم منذ نحو ثلاثة أعوام من الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن مكث فيها 14 عاما, ويحمل درجة في الاقتصاد (إدارة الأعمال), وقال إنه جاء عن اقتناع للمساهمة في تنمية بلاده, وتقلد هذا المنصب في هذه المدينة التي تحتل موقعا إستراتيجيا مطلا على المحيط ويبلغ عدد سكانها نحو 40 ألفا معظمهم يعمل في النشاط التجاري المرتبط بالميناء والذي يستقبل بشكل مستمر سفنا كبيرة قادمة من أوربا ودول الخليج محملة بالصادر والوارد, وتقدم الدولة خدمات التعليم والصحة وتوفير مياه الشرب, ويقول عبدالله إن كل ذلك يتم بالاعتماد على الموارد الذاتية, حيث لا وجود لأي مساعدات دولية, وتجولنا في أطلال مطار بربرة الذي كان إحدى دعامات القواعد العسكرية نفسها حيث فوجئنا بأن عددا ضخما من الصواريخ بعضها ملقى بلا اكتراث في العراء والبعض الآخر في مخابئ, وعلى الرغم من أن أيادٍ ما عبثت بها فإن حالها يبدو بشكل جيد, كذلك عبوات ضخمة من قنابل (تي. إن. تي) وعلى الرغم من أن وجود هذه الأسلحة خطرا, فإن عبدالله يقول إنهم لم يهتموا بها لأنها ليست من أولوياتهم.

         وفي وسط المدينة لفت انتباهنا مسجد عتيق, عرجنا عليه فوجدنا فيه ما يدل على أنه بني منذ أكثر من ستة قرون, وأجريت له ترميمات في عهود مختلفة, إلا أنه الآن كاد إن يصبح طللا.

         أما الميناء والذي يعتبر ثغر الجمهورية الذي تتنفس به أطلعنا مديره المهندس علي عمر محمد على نشاطاته وقال إنه بدأ فعليا في العام 1995 بإشراف نحو 200 موظف وعشرات من العمال, إلا أنه يشير إلى الطاقة المحدودة للميناء نظرا لأنه لم يتم فيه أي تحديث, ويؤكد أن إثيوبيا لم تستفد من خدماته إلى الآن, وليس لديهم مانع في ذلك إذا ما كانت الاستفادة محصورة في المسائل التجارية, وعندما سألنا عبدالله إن كانت إسرائيل قد مرت من هنا كما يتردد أحيانا قال مستغربا (أعوذ بالله) مشيرا إلى أن البعض بارع في ترديد الإشاعات والدعايات المغرضة.

         وعودة إلى العاصمة هرجيسا اتجهنا نحو مدينة بورما إحدى المدن المهمة في الجمهورية حيث التقينا السيد عيسى أحمد نور حاكم المدينة التي تبعد أكثر من 3 ساعات في طريق نصفه مزفت ونصفه الاخر ممهد علوا وهبوطا, ويقول الحاكم إن تعداد هذه المدينة يبلغ نحو 100 ألف مواطن ولذلك فهي الثانية بعد العاصمة, واطلعنا على مناشط عدة فيها.

         كذلك تجولنا في مدينة برعو حيث يوجد أكبر سوق للماشية, ومن المفارقات أيضا توجد أكبر كمية من الألغام الأرضية التي أضرت بالمواطنين كثيرا, ولهذا استعانت الدولة بالأمم المتحدة, والتي بدورها أوفدت فريقا التقيناه هناك وهو يقوم بمباشرة مسئولياته في استخراج هذه الألغام حيث نجح في تدمير عشرات الآلاف. ومثلما ذكرنا فهذه المدينة هي التي شهدت ولادة الجمهورية.

         ومن العاصمة نقلتنا طائرة صغيرة تابعة للأمم المتحدة إلى مدينة (عرقابو) في أقصى الشمال الشرقي وهي المدينة التي تتميز بإنتاج لبان البخور ذي الرائحة العطرة, وفيها (جبل دالو) الذي يرتفع بنحو 8000 قدم فوق سطح البحر, وهي تشكل 37% من مساحة الجمهورية, علما بأن تعداد سكانها لا يزيد على 12 ألفا وقيل إنهم شردوا من جراء الحروب الأهلية, ويؤكد البعض أن هناك آثارا تدل على وجود الحضارة الفرعونية, وهي تضم خليطا كبيرا من القبائل الصومالية, وتتكون من سبع مناطق إدارية وهي من أقدم المحافظات.

         ومن المدن التي لها صيت ضارب في أعماق التاريخ مدينة زيلع ذات الحضارة الإسلامية القديمة إلا أننا لم نستطع الوصول إليها لبعدها عن العاصمة.

المرأة وعادات الزواج

         وعن وضع المرأة في أرض الصومال والعادات والتقاليد المتصلة بوجودها, تقول السيدة صفية لولو جامع وهي من العاملات في قصر الرئاسة بوظيفة سكرتيرة, وقد عاشت ونالت قسطا من تعليمها في دولة الإمارات العربية المتحدة, تشير إلى أن المرأة في بلادها انتظمت في عدة جمعيات ومنظمات نسائية لخدمة قضاياها وقضايا المجتمع وخاصة الأطفال الذين تيتموا بسبب الحرب الأهلية, كذلك تخدم المواطنين الذين هجروا قسريا بسبب الحروب نفسها, وتحاول هذه الجمعيات المساعدة في التعليم والحرف والأشغال اليدوية, والمساهمة في حل المشاكل الاجتماعية التي تنتج عن الزواج.

         أما عن العادات والتقاليد في مسألة الزواج نفسه, فتقول السيدة صفية: الملاحظ أولا أن حالات الزواج تكاثرت في العقد الأخير, والعرف يقتضي بأن تكون المرأة بقبيلة زوجها وليست قبيلتها, ويتم عادة التعارف عن طريق الأهل. وطقوس الزواج تتم في اليوم الأول بأن يرتدي العروسان ثوبا أبيض من ثلاث قطع وذلك للتفاؤل ويسمى (سدح قيد), وفي اليوم الثاني ترتدي العروس ثوبا لونه زهري مع أشياء تجميلية تسمى (الكولو) ويقال إنه لبس الفراعنة القدماء, والرجل يرتدي قماشا من نفس اللون, وتكون الذبائح مستمرة خلال ذلك, أما اليوم الثالث فتقول السيدة صفية إنه مخصص لفتح ما يسمى (بالحرو) وهو عبارة عن خليط من اللحم والسمن والحلويات, الممزوجة بطريقة خاصة, كما أنها تعد منذ فترة طويلة في إناء يربط بإحكام شديد لئلا يعرف العروسين كيفية فتحه بسهولة, وإذا ما حدث ذلك يكون الأمر مصدر غضب والدة العروس, وللعريس ملازم لابد وأن يكون صديقه ويسمى (محيس) وكذا العروس (محيسة) وهي بمثابة وصيفة. وتستمر احتفالات الأعراس لمدة أسبوع بعدها يخرج العروسان, ويعيد العريس عروسه إلى أهلها لفترة قصيرة محملة بالهدايا. وتقول السيدة صفية إن أسوأ العادات التي تضررت منها المرأة وانعكست في شكل مشاكل في الحياة الزوجية نفسها هي ظاهرة الختان, التي لم يستطع المجتمع التخلص منها إلى الآن, وهي بالطبع عادة فرعونية متوارثة.

         من المظاهرالجميلة التي لا يكاد يتوقعها المرء, ليس وجود صحافة تمارس مسئولياتها فحسب, وإنما بحرية لا تعرفها كثير من دول العالم الثالث, ومن المفارقات أن الصحيفة الحكومية الوحيدة تصدر ثلاث مرات في الأسبوع بينما الصحيفة المعارضة تصدر يوميا, يقول محمد عبدي إسماعيل الملقب بـ (ديكتوركا) وهو رئيس تحرير صحيفة (مانديخ) وتعني (كل شيء أو الشئ المتكامل) الحكومية, إنها باشرت الصدور رسميا في يناير من العام 1998, ويعزى التأخير في ذلك إلى انشغال الحكومة بأولويات أخرى, ومع ذلك يؤكد استقلالية سياسة الصحيفة, في حين يرفض حسن سعيد يوسف رئيس تحرير (الجمهورية) تسمية صحيفته بالمعارضة, مشيرا إلى تفضيله صفة المستقلة التي تمارس دورها بحرية, وقال إن المواطنين وصفوها بالمعارضة نسبة لأنهم لم يعتادوا على أجواء الحريات نتيجة الحكم الديكتاتوري السابق, ويضيف حسن, نحن نريد أن نوجه الحكومة إلى الطريق السليم, مع أننا لسنا معصومين من الخطأ, وعن مصادر تمويلها يقول إنها بواسطة شركة مساهمة (الوطنية للطباعة والنشر) كونها مجموعة من التجار وليس بالضرورة أن تعبر عن مصالحهم, ويوضح بأنهم يوزعون 6 آلاف نسخة في اليوم في داخل الجمهورية, وفي إثيوبيا وجيبوتي وبريطانيا وبعض دول الخليج, وكلتا الصحيفتين تصدران باللغة المحلية اضافة إلى عدد واحد أسبوعي باللغة الإنجليزية, وإلى الآن لم يصدر القانون الخاص بالصحافة والمطبوعات, ويعتقد لهذا السبب سجن حسن في العام 1997 لمدة 15 يوما بسبب مقال اعتبر قذفا.

مأساة الديكتاتورية السابقة

         قبل سنوات قليلة خلت هطلت أمطار غزيرة على أرض الصومال, فتسببت في احداث خسائر كبيرة, غير أن الضرر الأكبر الذي لم يكن أحد يتوقعه, هو أن السيول والفيضانات التي أحدثتها الأمطار جرفت التربة فأدى ذلك إلى ظهور مقابر جماعية جراء الإبادة التي قام بها سدنة الرئيس السابق سياد بري, تم هذا بعد أن بدأ أهالي الجمهورية نسيان الماضي والإقبال إلى الحياة بنفس مبرأة من المرارات والأحزان. ظهرت دفعة واحدة نحو 700 جثة, وبعد أن ووريت الثرى مرة أخرى في احتفال رسمي قامت الدولة بتعيين لجنة من 7 وزراء والتي قامت بدورها بالاستعانة بلجنة فنية من 13 عضوا للبحث في تلك المأساة, يقول السيد رشيد أحد أعضائها النشطين: هذا الموضوع أحدث صدمة عنيفة للمجتمع لأن الناس بدأت تتذكر أقاربها وذويها الذين فقدوهم في السنين الماضية, ويضيف رشيد وضعنا منهجا معينا للحصول على المعلومات وذلك بالبحث عن الشهود الأساسيين, وفي هذا الصدد عثرنا على شخص يدعى إبراهيم وهو الذي كان يقود جراراً فأرغمته السلطات على دفن الجثث, وساعدنا كثيرا في الكشف على عدة مقابر جماعية, وكذلك سيدة اسمها عائشة جامع كانت شاهد عيان على ما حدث, ويشير رشيد إلى أن لجنتهم استعانت بمنظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة التي استجابت وأوفدت لنا خبيرة اسمها منى الرشماوي حيث ساعدتنا كثيرا, وطلبت منا وقف نبش المقابر حتى يتم ذلك بصورة علمية, وقد استجبنا لذلك بعد أن جاءنا خبيران آخران أحدهما كندي والثاني أمريكي وقاما بتدريب وإعداد بعض من أطبائنا.

         ويؤكد رشيد أن لجنتهم إلى الآن لم تحصر كل المقابر الجماعية, ليس في العاصمة هرجيسا وحدها وإنما في مدن أخرى شهدت مذابح مماثلة مثل بربرة وبرعو.

         وحول مصير الذين نفذوا هذه العمليات الإجرامية قال رشيد: بعضهم لايزال حيا, بل ويرأسون فصائل في الجنوب مثل آدم عبدالله فبيو الذي كان وزيرا للدفاع, ومحمد سعيد مورجان الذي كان قائدا للمنطقة كلها, وضابط آخر اسمه دوعالي جناني كذلك كنا قد رفعنا دعوى على ضابط يقيم حاليا في أمريكا واسمه تكيئ بعد أن حصلنا على صورة له وهو يحرق شابا بريئا. وبعد أن تكتمل كل الأدلة والبراهين ضدهم سوف نطالب المجتمع الدولي بمحاكمتهم كمجرمي حرب.

         كان رشيد يتحدث في السيارة التي طافت بنا معظم أرجاء العاصمة, ومن حين لآخر كان يشير إلى تلال ترابية وهو يؤكد أنها عبارة عن مقابر, حتى يظن المرء أن هذه المدينة تنام على رفات بنيها وهي لا تدري.

         وقد سمعت رشيد وهو يردد بيت شعر قديما ربما كان تجسيدا أدبيا بليغا لهذه المأساة:

صاحبي هذي قبورنا تملأ الرحبا

 

فأين القبور من عهد عاد

خـفف الوطء مـا أظـن أديم

 

الأرض إلا من هذه الأجساد

         رحل الديكتاتور الذي فتك بمواطني هذه الجمهورية, وبقيت المحنة فقط عالقة بالنفوس, وكان يمكن أن تكون مطمورة داخل تلك المقابر الجماعية, لولا الأمطار التي جرفت ترابها, فأظهرتها وأيقظت بالتالي ما ظن الناس أنهم قد نسوه أو تناسوه.

الاعتراف الدولي

         التقينا في زيارتنا للجمهورية الرئيس محمد إبراهيم عقال وسألناه عن ملابسات عدم الاعتراف الدولي على الرغم من أن إعلان الاستقلال مضى عليه قرابة السنوات العشر فقال لنا: هناك فرق كبير, نحن طيلة هذه السنوات لم نضع يدنا على خدنا في انتظار الاعتراف الدولي, بل على العكس لم نشغل أنفسنا كثيرا بهذا الموضوع, وبدلا عن ذلك اتجهنا لإعادة بناء الدولة, على أساس مؤتمرات تصالحية بين القبائل, وبعدها أجرينا انتخابات ديمقراطية, وكونا مؤسسات الدولة, البرلمان ومجلس الوزراء وحكام الولايات, واصدرنا عملة خاصة بنا وأنشأنا البنك المركزي وفروعه في الأقاليم, وأعدنا تكوين الجيش والشرطة.. إلخ واصبحت الدولة كلها تنعم بالأمن والاستقرار, نحن مشغولون فعلا بإعادة بناء الدولة وتحقيق الأمن والاستقرار, ونعتقد بأن الاستقرار الاقتصادي أولا ثم الاعتراف الدولي ثانيا, لأنه في حال أنك حققت الهدف الأول فلن تتأخر دول المجتمع الدولي في الاعتراف الرسمي, وهذه في تقديرنا مسألة وقت لا أكثر ولا أقل, ولعلمك فإن ما يسمى باعتراف الأمر الواقع قد حدث بالفعل, فكثير من الدول تعاملنا على هذا الأساس.

         ثانيا: الاعتراف كما نعرفه ليس هدية أو منحة من أحد بل هو تبادل مصالح, وبلادنا فيها ثروات كثيرة كالنفط والمعادن والثروة الحيوانية, إلى جانب الموقع الإستراتيجي, كل هذه العوامل من شأنها أن تدفع الآخرين للسعي لتبادل مصالحهم معك.

  • وسألناه: هناك من يرى بأن تسوية وضعية أرض الصومال مرتبطة بتسوية المعضلة الصومالية كلها, هل ترى الأمر كذلك?

         فأجاب: على العموم ردنا على من يقول ذلك هو ببساطة أننا أعدنا بناء دولتنا وكنا ننتظر من أخوتنا في الجنوب أن يقيموا سلطة مركزية حتى نستطيع أن نتفاوض معها, ولكن الآن إذا أردنا أن نتفاوض فمع من? نحن نريد تصحيح الأخطاء التاريخية بطريقة دستورية, لربما حققنا جمهورية أرض الصومال الكبرى, وإذا فشلنا في ذلك مثلما كان الحال في السابق فلن نكون منتقمين, لأنهم أخوتنا وليست هناك وحدة بالقوة, إنني أطالب المجتمع الدولي بفصل قضيتنا عن قضية الجنوب, فهذا الخلط هو الذي أخر الاعتراف بنا.

  • قلنا: بهذه المناسبة تردد أيضا أن دولا اشترطت الاعتراف بكم مقابل استخدام ميناء بربرة كقاعدة عسكرية مثلما كان حالها في عهد سياد بري, ما صحة ذلك?

         فأجاب: كما ذكرت لك لا مجال للشروط مطلقا في علاقاتنا بأي جهة, فسمعتنا وكرامتنا ليستا عرضة للمساومة, أما فيما يخص سؤالك فلن اكتمك سرا, وأستطيع أن أقول لك إن ذلك قد حدث, وكان ردنا الرفض المطلق, ولن أستطيع أن أسمي لك هذه الدول, نحن لدينا حساسية شديدة في مسألة التدخلات الدولية, حتى وإن كان ظاهرها الرحمة مثل التدخل الدولي في الجنوب, ولهذا انتقدناه, والأيام أكدت صحة وجهة نظرنا, فقد ضاعت 6 مليارات دولار دون نتيجة تذكر, فمازال أخوتنا في الجنوب يتقاتلون, ولم يستطيعوا حتى الاتفاق على حكومة مركزية منذ تسع سنوات.

  • سألناه: إذا تقرر أن يكون هناك استفتاء لتقرير مصيركم هل تقبلون بذلك?

         فقال: ولم لا.. هذه ما نريده ونسعى إليه, بشرط أن يكون تحت رعاية دولية وبضمانات منها, وإنني على ثقة أن النسبة الأكبر ستكون لصالح الاستقلال وبأكثر من 80%, إنني من منبركم هذا أناشد المجتمع الدولي, بالذات العالمين العربي والإسلامي مواجهة مسئولية ما يحدث في أرض الصومال, إذ إنني أخشى أن ينفد صبر مواطنيه, وبالتالي يذهب كل ما أنجزناه هباء, ويغرق الشمال مجددا في مستنقع العنف شأنه في ذلك شأن الجنوب, وكل ذلك نتيجة أن لا أحد يريد أن يجرؤ على اتخاذ القرار التاريخي السليم. ومن المفارقات أنه عندما نلنا استقلالنا في 26 يونيو 1960 تواصلت اعترافات الدول بنا حتى بلغت نحو 38 دولة من بينها الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن ومصر وإمبراطورية إثيوبيا آنذاك, فرمينا بكل ذلك عرض الحائط, وبعد أقل من أسبوع عرضنا على أخوتنا في الشمال الوحدة, وبعد أربعة عقود زمنية ننتظر الاعتراف مرة أخرى. إنها مفارقات محزنة ومضحكة معاً.

 

 

فتحي الضو