أرقام

الاستثمار العَربي.. محاولة للفهم

حين وقع الغزو العراقي للكويت كان عائد الاستثمارات الكويتية في الخارج يفوق عائدها من النفط.. وهو الأمر الذي حقق صمودا اقتصاديا كان من المتعذر أن يتم لولا ذلك الاحتياطي الخارجي.

حينذاك قال الاقتصاديون: "الآن تضاف حجة قوية لمبررات الاستثمار العربي في الخارج.. فها هو عنصر أمني - لم يخطر على بال أحد - قد فرض نفسه.. وها هو الخارج قد أصبح طوق النجاة ليس لفترة العدوان وحدها، وإنما لشهور أو سنوات بعد العدوان.. وحتى يستعيد الاقتصاد الكويتي عافيته، وتلتقط آبار النفط أنفاسها وتستأنف مسيرتها السابقة".

و.. مع ذلك فإن قضية الاستثمار الخارجي للبلاد العربية تستحق الدراسة والتأمل..

أولا: بسبب ما تردد عن أحجام ضخمة.

ثانيا: بسبب المخاطر السياسية والاقتصادية التي يواجهها ابتداء من تقلب أسعار العملات إلى تقلب أسواق المال، إلى أخطار التجميد وما يبدو في بعض الأحيان أنه حصار على المؤسسات المالية العربية في الخارج.

أما السبب الثالث، فهو حاجة الوطن العربي لمزيد من الاستثمارات ومزيد من التنمية.

هذه الأرقام

نستطيع الاعتماد على أرقام مؤسسة رسمية كبيرة هي المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وأرقامها عن عام 1990 تقول إن الأموال الموظفة في الخارج لحساب البلدان العربية قد بلغت في ذلك العام: مليار دولار.. فماذا يعني هذا الرقم؟

يقولون إن الرقم الواحد لا معنى له.. فالمقارنة وحدها كفيلة بأن توضح أهمية أو عدم أهمية الرقم. إنها تحدد المغزى الحقيقي له.

و.. طبقا لمصادر المؤسسة العربية لضمان الاستثمار أيضا، فإن الرقم كبير بمقياس استثمارات الآخرين عبر الحدود، ورغم كل ما يقال عن عصر الشركات متعددة الجنسية.. فمجموع استثمارات اليابان والولايات المتحدة - في نفس التاريخ - لم يزد على (445) مليار دولار. أي أن الاستثمارات العربية هي الأكبر.. إذا اعتبرناها شيئا واحدا رغم أنها تنتمي لبلدان متعددة تحمل اسم "عربية".

و.. في مقارنة أخرى نلاحظ أن الرقم يكاد يعادل ثلاثة أضعاف الناتج المحلي لبلدان الخليج العربية بما فيها العراق وطبقا للأسعار الواقعية للعملات، وليس الأسعار الرسمية. في عام 1989 كان الناتج المحلي لدول الخليج الست مضافا لها العراق: (213) مليار دولار. لكن فائض الحساب الجاري والذي يمثل رصيد المعاملات الجارية مع العالم الخارجي لم يتجاوز 18 مليار دولار.

بمقارنة ثالثة، نجد أن صادرات هذه البلدان السبعة بلغ نحو مائة مليار دولار عام 1989.. أي أن الأموال العربية التي تراكمت في الخارج منذ بداية الحقبة النفطية عام 1974 لا تعادل أكثر من سبعة أضعاف صادرات عام واحد.. وهو عام لم يتمتع بأسعار عالية للنفط.

وبمقارنة رابعة فإن حجم هذه الأموال لا يتجاوز على الأرجح ما جرى إنفاقه على الجوانب العسكرية. فقد استوردت دول الشرق الأوسط - طبقا لبيانات الكونجرس الأمريكي بما قيمته مائتا مليار من الدولارات في بند وأحد هو الأسلحة التقليدية، وذلك من منتصف السبعينيات حتى عام 1991.

أيضا وطبقا لبيانات معهد "سيبري" بالسويد فإن التكاليف العسكرية لحرب الخليج الأولى (العراق - إيران) قد بلغت رقما يقترب من المائتي مليار، بخلاف ما تم استيراده من أسلحة رئيسية!

و.. تضاف لذلك تكاليف حرب الخليج الثانية (الكويت - العراق) وسوف تفوق بجانبيها العسكري والمدني.. (كتكاليف مباشرة أو خسائر) المائتي مليار دولار.

رقم الاستثمار الخارجي إذن ليس صغيرا، لكنه أيضا ليس غريبا أو مستغربا.. وقد تكون على مدار سنوات طويلة ممتدة.

وكانت التدفقات السنوية في صعود وهبوط طبقا لإيرادات النفط والتي هبطت لأقل من النصف في الثمانينيات قياسا على السبعينيات.

ملاحظات أساسية

حول الرقم توضع ملاحظات أساسية.. فالانتماء كما قلنا ليس لكيان عربي واحد.. لكنه لكيانات عربية كثيرة تتخذ قرارها - كل على انفراد - بالاتجاه للسوق الخارجية.. وهذه الكيانات ليست حكومية بالضرورة، فالكثير منها مؤسسات خاصة وأفراد. الملاحظة الثانية والهامة، أن ذلك الرقم لا يمثل فائضا نفطيا بالضرورة، فطبقا لأرقام نفس المؤسسة (ضمان الاستثمار) فإنه بين (670) مليار دولار موظفة بالخارج. كانت هناك مائتا مليار لمواطنين من دول العجز العربية. والنسبة هنا لافتة للنظر؛ فهي تكاد تقترب من ثلث الاستثمارات العربية في الخارج.

هذه الملاحظة تضعنا أمام حقيقة هامة، وهي أن الاستثمارات الخارجية ليست للأثرياء فقط.. فما هو القاسم المشترك الذي جعل الأموال تهاجر؟.. وإذا كانت القدرة الاستيعابية لدول النفط محدودة بحجم السكان وطبيعة النشاط الاقتصادي.. فهل يصدق الشيء نفسه بالنسبة لبلدان مثل: مصر أو السودان أو تونس أو المغرب؟

الإجابة هنا: أنه مناخ الاستثمار وظروفه.

نعم.. البلدان العربية بحاجة للمزيد من الاستثمارات التي يمكن أن تأتي على حساب الاستثمار الخارجي.. ولكن.. أي نوع من الاستثمار؟..وفي ظل أي شروط؟

إن معظم البلدان العربية "تحت الإنشاء"، بمعنى أنها مازالت في مرحلة توفير الأساسيات من بنية اقتصادية ومرافق وخدمات.. وبالرغم مما يحتاجه ذلك من استثمار ضخم، لكنه استثمار حكومي بالضرورة، أو هو كذلك.. في معظمه.

وفي قضية الاستثمار بشكل عام يثار السؤال: ما هي أفضل مجالات الاستثمار؟.. والسؤال بالنسبة للقطاع الخاص - بل وللقطاع العام أيضا - مرهون بعدة عناصر يدخل بينها:

** مستوى الربحية المتوقع، وهل يكون أكبر في السوق المحلية أم الخارجية.. ابتداء من اليابان وهونج كونج وسنغافورة. وامتدادا لأوربا وأمريكا.

** قضية الاستقرار في هذا السوق أو ذاك.. والاستقرار سياسي واقتصادي.. وحين وقعت أزمة المناخ في الكويت كانت عنصر طرد للاستثمار المحلي الخليجي.. وعندما استمرت الحرب العراقية - الإيرانية.. وبعدها وقع "زلزال أغسطس 1990.. كان ذلك يعني أن هناك حقبة كاملة - أو يزيد - من عدم الاستقرار. لقد كان العنصر الأمني طاردا بالضرورة.

فإذا أضيف لذلك - وفي مختلف البلدان العربية من المحيط للخليج - تذبذب السياسات وعدم وضوح الرؤية وتزايد نسبة التضخم فإن كل ذلك يمثل عنصرا من عناصر فقدان الثقة.

** ثم تأتي قضية وجود - أو غياب - سياسات للاستثمار قادرة على أن تضع المال في موضعه، وترشده بالفكرة، والدراسة، والقانون، والإجراء الإداري لخير وسائل الاستثمار.

وبالمقارنة نقول: إننا أمام سوق عالمية أكثر تنظيما وأكثر جذبا.. وإن كانت تحمل الكثير من المخاطر. وأحدها: تمييز غير معلن، وغير محاب لرأس المال العربي. يقابل ذلك سوق عربية قلقة وغير ناضجة.