فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي ...

 فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي ...
        

المؤلف: آرثر هيرمان

فكرة الاضمحلال مثل فكرة التقدم، كلاهما في واقع الأمر نظرية عن طبيعة ومعنى الزمن، وهما -الاضمحلال والتقدم- وجهان لعملة واحدة. فكل نظرية عن التقدم تحتوي على نظرية للاضمحلال، وقوانين التاريخ الحتمية يمكن أن ترتد إلى العكس كما تتحرك إلى الأمام.

         ومن الناحية العملية, فإن أي ثقافة سـواء في الماضي أو الحاضر, تعتقد أن البشـر - رجالاً ونساء - ليسوا على المستوى الذي كان عليه آباؤهم وأسلافهم.

         في إلياذة (هوميروس) مثلاً, نجد وصفاً لـ (أجاكس) وهو يرفع صخرة عظيمة بيد واحدة, لا يستطيع أي شاب من جيلنا أن يرفعها بكلتا يديه. بعد ذلك بمائتي عام, في القرن السابع ق.م, كان الشاعر (هيزيود Hesiod) يرى أن الكون تحكمه عملية اضمحلال متوالية بدءاً من عصر ذهبي, ثم عصر برونزي, وأخيراً عصر حديدي يضطر فيه الناس أن يكدحوا لكي يعيشوا. والتشابه بين العصر الحديدي عند (هيزيود) والطرد من جنة عدن مثير, ولكن العصر الحديدي هو أيضاً ترجمة للـ: Kali Yuga في الهندوسية و (الفيدية), آخر وأسوأ العصور الإنسانية, حيث يحكم العالم (الأقوياء والخبثاء والطائشون), وهناك أساطير مشابهة في الصين الكونفوشية وبين (الأزتيك) و (الزرادشت) و (اللابلاندر) وكثير من القبائل الأمريكية المحلية, وقصص البطولة الأيسلندية والأيرلندية, ناهيك عن (سفر التكوين).

         فلماذا يشيع, إذن, هذا الشعور بالاضمحلال في جميع الثقافات? لعله يعبّر عن التجربة الإنسانية في التغيرات التي تعتري الجسد من الطفولة إلى النضج, ثم الانهيار الحتمي للقدرات الجسمية والعقلية في الهرم. وقد كانت عبقرية الإغريق في توسيعهم ذلك الوعي الجسداني بالذات وتحويله إلى فلسفة عن طبيعة الزمن والتغير.

         الزمن عندهم هو التغير: ما كنا عليه, وما نحن عليه الآن سوف ينتهي, سواء كان جيداً أو رديئاً أو وسطاً بينهما, وكان (هير قليطس), يرى أن الكون كله يحكمه قانون واحد للتغير, (كل شيء في تغير مستمر ولا استقرار لشيء).

         كذلك فإن كلمة الزمن باليونانية Chronos هي اسم الإله الذي التهم أطفاله. هذا الوعي بالطبيعة الانتقالية أو العابرة للوجود الإنساني يتخلل كلا من الثقافتين الإغريقية والرومانية.

معنى الاضمحلال وأماراته

         والآن, هناك شبه إجماع على أن الحضارة الغربية على شفا حفرة من الفناء, كما أصبح التشاؤم بخصوص المستقبل هو القاعدة وليس الاستثناء, وقد ظهر في أواخر القرن العشرين عدد كبير من المؤلفات والدراسات, كلها تفيد أن الغرب - والمقصود بالغرب هنا وإلى حد كبير هو الولايات المتحدة - قد أصبح عاجزاً عن التأثير على ما ينتج عن نظامه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.

         في مقدمته لكتابه (ثقافة النرجسية) - 1979 - نبه (كريستوفر لاش) محذّراً, إلى أن المجتمع البرجوازي قد فقد كلا من القدرة والإرادة على مواجهة المصاعب التي تهدد بإحكام سيطرتها عليه, وأوضح أن الأزمة السياسية للرأسمالية, ليست سوى تعبير عن أزمة حادة في الثقافة الغربية. فنجده يقول, مثلاً, إن الثقافة الأمريكية قد هبطت بشدة بعد ربع قرن تقريباً من إعلان (هنري لويس): (القرن الأمريكي), فالذين كانوا يحلمون بالسيادة العالمية, يائسون الآن من حكم مدينة (نيويورك), الهزيمة في (فيتنام), الكساد الاقتصادي, النضوب الوشيك للموارد الطبيعية, تلك كلها عوامل أدت إلى خلق حالة من التشاؤم في الدوائر العليا, راحت تنتشر في أرجاء المجتمع وأفقدت الناس الثقة في قيادتها, بالإضافة إلى أن أزمة الثقة هذه, تحكم الآن قبضتها على الدول الرأسمالية الأخرى). وفي عام 1987, وجدنا (بول كيندي) يعلن في كتابه (سقوط القوى الكبرى) أن الأمريكيين كانوا على وشك أن يلقوا المصير نفسه الذي لقيه البريطانيون في نهاية القرن التاسع عشر, ألا وهو الاضمحلال كقوة عالمية.

         كانت الولايات المتحدة - في رأيه - تعاني من (التوسع الإمبريالي المفرط) وواقعة تحت الضغوط نفسها من القوى العنيدة نفسها التي حطّمت السلم البريطاني (Pax Brittanica) وجرّت العالم إلى الحربين العظميين. عندما وقعت الولايات المتحدة في فخ الالتزامات العسكرية إبان الحرب الباردة, والتحديات الاقتصادية الجديدة على امتداد الإطار الباسيفيكي, انتهى وضع السيادة الأمريكية, وكان لابد أن (تكون المهمة التي تواجه رجال الدولة الأمريكية في العقود القادمة هي (إدارة) الأمور على نحو يجعل التآكل النسبي في وضع الولايات المتحدة يحدث ببطء وهدوء). وقد صدقت نبوءة (كيندي) الخاصة بتبعات (التوسع المفرط), ولكن بالنسبة للاتحاد السوفييتي أكثر مما هي بالنسبة للولايات المتحدة.

            بعد أقل من ثلاث سنوات من ظهور كتاب (كيندي), اختفت الإمبراطورية السوفييتية, بينما تحركت الولايات المتحدة إلى وضع (القوة الكبرى الوحيدة في العالم), إلا أن الحقائق وحدها لا يمكن أن تصنع نظرية في التاريخ, فالتشاؤم والتفاؤل توجهات يضفيها المحلل أو الباحث على تحليلاته وليست استنتاجاً لها. أفكار (كيندي) الخاصة بالتوسع الإمبريالي المفرط كانت تتناسب تماماً مع جو الكآبة السائد حول مصير المجتمع الأمريكي وهو يقترب من نهاية القرن, وإلى الحد الذي جعل المحلل السياسي (كيفن فيليبس) يستخدم أفكار (كيندي) للمقارنة بين (واشنطن دي سي) و (روما الإمبراطورية) و (لندن القرن التاسع عشر), ويقول: إن (كثيراً مما حدث آنذاك يحدث الآن), حيث يتحرك (الاستقطاب الاقتصادي) يداً في يد مع (طبقة وسطى مضمحلة) مع انتشار للترف والانحلال الأخلاقي وفقدان الوطنية القديمة وشكاوى كثيرة من الانهيار الأخلاقي, وهكذا فإن (أعراض الاضمحلال تقوم دليلاً على الاضمحلال ذاته).

         وفي كتاب بعنوان (قضايا العرق) - 1993 - استخدم الناقد الأسود (كورنل وست) الصورة التي رسمها (بول كيندي) كخلفية لتلخيصه لويلات وكروب الولايات المتحدة, والتنبيه إلى أن المجتمع الأمريكي كان يتم تخريبه عن طريق (الكساد الصامت) في الأعمال الصناعية المنهارة والدخول الهابطة والمجتمع المتدهور بشكل عام. كما يرى أن الانهيار الثقافي في إمبراطورية منهارة, قد خلق شعباً (يتدلى هكذا بلا جذور) و(مواطنين لا حول لهم ولا قوة), وهو لا يقصد بذلك الفقراء فقط, وإنما (نحن جميعاً).

         وإلى جانب كتاب (وست), وكتابي (فيليبس: (رأس المال المتغطرس) و (نقطة الغليان), كانت هناك كتب أخرى كثيرة عن مستقبل أمريكا, عناوينها كلها مثيرة للاكتئاب والتشاؤم مثل: (فجر الديمقراطية الكاذب), و(شرك الديمقراطية) و(محاكاة الديمقراطية) و (بيع أمريكا) وإفلاس أمريكا) و (الحلم الأمريكي المهدد). كل هذه الأفكار التشاؤمية عن الاضمحلال وعن المصير تحمل لغة مألوفة ولا تخلو من نظرة سابقة. فتحذيرات (كيفن) من حقبة (ريجان) أو (حقبة الجشع) - كما يقول - تشبه الهجوم على العصر الأمريكي (المطلي بالذهب), من قبل (براهمة بوسطن) مثل (هنري آدمز). وعندما كان (كيندي) يحذّر من أن القرن الواحد والعشرين سوف يفتح الباب لصراع (الغرب ضد الباقي), فإنه كان (يردد - على نحو ما - أفكار (آرنولد توينبي) و (أوزوالد شبنجلر) و (بنيامين كيد), أو أي عدد آخر من أنبياء التشاؤمية في العقود الأولى من القرن العشرين. والحقيقة أن أولئك الكتّاب أنفسهم هم الذين صاغوا - في الأصل - مصطلح (الغربي) ليصفوا به حضارة أوربية مترنّحة كانت تذوي أمامهم مثل شمس غاربة.

الرأسمالية الجديدة... وماذا تفعل?

         وفي عام 1992 ظهر كتاب (ألبرت جور) - نائب الرئيس الأمريكي - وعنوانه (الأرض في الميزان), والذي يؤكد أن (بقاء حضارتنا ذاتها يصبح موضع شك, إن لم نتمسك بالحفاظ على الأرض, جاعلين من ذلك الهدف مبدأ تنظيمياً جديداً لنا). فارتفاع درجة حرارة الأرض, ونقص الأوزون, وتدمير الغابات الطبيعية, وانقراض السلالات المهددة, وتلوّث الماء والهواء, كل ذلك يشكـّل تهديدات قاتلة لوجودنا ذاته, والنتيجة: (أننا ننقاد للأدوات والتكنولوجيا المغرية, التي جاءت بها الحضارة الصناعية, إلا أن ذلك يخلق مشكلات جديدة, فنصبح منعزلين عن بعضنا, منفصلين عن جذورنا). كما يرى (آل جور) أن البشر في جميع أنحاء العالم لابد أن يعيدوا النظر في عاداتهم وممارساتهم التي تعبّر عن هذه الأزمة, والتي كانت سبباً لها من البداية, ومن بينها (الرأسمالية الجديدة المولعة بالكسب والتي عميت عمّا تسبّبه للبيئة من دمار). ويرى (جور) أننا نشعر بالابتعاد عن جذورنا في الأرض كلما ارتفع صرح الحضارة وأصبح شديد التعقيد, وأن الحضارة تواجه الآن (أزمة هوية جماعية), وأنها تعاني من أزمة روحية بسبب خواء المركز وغيبة الهدف.

         وفي شهر أبريل عام 1995  انفجر طرد بريدي مفخخ في مكتب المدير التنفيذي لإحدى شركات تصنيع الأخشاب في (سكرامنتو) ليقتله على الفور, بعدها قالت التحريات إن الجريمة كانت من تدبير مجهول خارج على القانون في عملية حرب عصابات قادها رجل واحد (ضد الدولة بكاملها), والحقيقة أن مفجّر القنبلة كان قد أتبع هجومه هذه المرة ببيان مكون من 35000 كلمة بعنوان (المجتمع الصناعي ومستقبله), يلخص كل النظريات التشاؤمية بخصوص المجتمع الحديث ومستقبل أمريكا ومستقبل كوكب الأرض, أي كل النظريات التي ظهرت على مدى العقود السابقة. ويرى البيان أن الثورة الصناعية - بما خلفته من آثار - كانت كارثة على الجنس البشري أفقدت المجتمع توازنه وجعلت الحياة مستحيلة, أما الأوغاد الحقيقيون فهما التكنولوجيا والرأسمالية بسعيهما الذي لا يكل من أجل الكسب المادي), والعلم الذي يواصل مسيرته العمياء (دون الالتفات لصالح الجنس البشري). واتهم مفجّر القنبلة الأمريكيين المحدثين بأنهم يعيشون حياة الأرستقراطيين المترفين المتفسّخين, وبأنهم (ضجرون إلى أبعد الحدود) وأنه قد تمت عملية (غسيل مخ) للناس لكي يصبحوا في حالة من الامتثال والانقياد تشبه حالة الحيوانات المروّضة. لم يكن المفجّر يهدف إلى ما هو أقل من ثورة كونية (تقلب الأسس التكنولوجية والاقتصادية للمجتمع القائم.. وليس الحكومة فقط). بعد ذلك سيكون من الممكن أن تقوم أيديولوجية جديدة مضادة للمجتمع التكنولوجي الصناعي. أما هذه الأيديولوجية الجديدة فهي حركة البيئة الراديكالية. وعندما ألقي القبض على مفجّر القنبلة في إبريل 1996 اكتشفوا معه نسخة من كتاب (الأرض في الميزان), مستهلكة من كثرة القراءة وتحمل صفحاتها تعليقات كثيرة, ولكن الرجل لم يكن لديه أي أوهام حول سهولة إقامة المجتمع الجديد المثالي. كان يتحدث باسمه: (إن هدفنا ليس سوى تدمير الشكل الحالي للمجتمع) - أي الغرب الحديث.

         يرى مؤلف الكتاب أن بعض الناس يتحدث عن اضمحلال الحضارة, والبعض الآخر يعيش ذلك الاضمحلال بالفعل). وهو يتناول أصول فكرة الاضمحلال الغربي وانتشارها, وكيف أنها كانت تشكّل الأساس المظلم للفكر الأوربي الحديث في القرن التاسع عشر, ثم أصبحت الموضوع الذي فرض نفسه وتأثيره على الثقافة والسياسة في القرن العشرين, ولكن فكرة الانهيار لم تؤثر على حياة الناس فقط, ولكن لا تنفصل عن فكرة الحضارة ذاتها, ففي مقابل كل مثقف غربي يخشى اضمحلال المجتمع الغربي (مثل (هنري آدمز) و (آرنولد توينبي) و (بول كيندي) و (تشارلز موراي)), نجد مثقفاً آخر يتطلع إلى ذلك الاضمحلال بلهفة شديدة. وعلى مدى عقود ثلاثة, كان المفكرون والنقّاد الأمريكيون, يرسمون ويقدمون صورة للمجتمع الأوربي أكثر رعباً مما قدمه أي متشائم مثل (موراي) أو (كيفن فيليبس). أما نقد المجتمع الصناعي الغربي فيعود إلى القرن التاسع عشر وهي وجهة نظر ترى المجتمع الحديث مجتمعاً شديد المادية, مفلساً من الناحية الروحية, مجرّداً من القيم الإنسانية. هذه النظرة يطلق عليها المؤلف مصطلح التشاؤمية الثقافية, التي لم تعد تسأل عن إمكان إنقاذ الحضارة الغربية من الاضمحلال, وإنما تطرح السؤال على نحو مختلف: هل تستحق الحضارة الغربية - فعلاً - أن ننقذها?

         هذه التشاؤمية الثقافية تجسّد رؤية خاصة للتاريخ الحديث متمثلة في عنوان الكتاب العمدة (أفول الغرب) لأوزوالد شبنجلر. فلاسفة (التشاؤمية الثقافية), مقتنعون بأن العالم الحديث والإنسان الحديث واقعان في فخ عملية اضمحلال وتدهور وسقوط حتمي, وهي تعتمد إلى حد كبير على فلسفة (نيتشه), الذي كان يصف المجتمع الأوربي في أيامه بالمرض والتفسّخ, أو كما كتب في عام 1885 أن (هناك عنصر تآكل في كل شيء يميز الإنسان الحديث), ويمتد خط السقوط من (نيتشه) وتلاميذه (مارتن هيدجر وهربرت ماركيوز, ومفجّر القنبلة المجهول) لكي يفرز في النهاية تلك الرؤية المفردة للغرب الحديث, والتي لخّصها ماركيوز في كتابه (الإنسان ذو البعد الواحد).

         لم يعد بقاء أو زوال الحضارة الغربية هو القضية التي تشغل بال المتشائم الثقافي. ما يشغله هو: (وماذا بعدها?). التشاؤمية الثقافية في مضمونها الأوربي الأصلي, تتقاطع مع المنظور السياسي والأيديولوجي.

البحث عن نظام جديد

         هذا الفكر الثقافي التشاؤمي هو الذي يشكـّل نظرة الغربيين إلى أنفسهم وإلى مجتمعهم. أفكار مفجّر القنبلة, ثوار العالم الثالث الماركسيون, علماء الدراسات الإفريقية, نائب الرئيس الأمريكي (جور), حركة السلام الأخضر, (روبرت بلاي), (مادونا) أولئك جميعاً يعبرون عن الافتراضات الرئيسية للتشاؤمية الثقافية وإن اختلفت الوسائل. فبداية من الهوس الحالي بأسئلة (الهوية) و(التنوّع), وانتهاء بالمحللين النفسيين المحدثين وما يسمى بمجتمع التداوي, فإن التشاؤمية الثقافية قدمت رؤية غنية وثاقبة عن الحداثة والتغيير, وإن كانت رؤية معقدة ومحدودة بذاتها, بيد أن هناك تناقضاً واضحاً في قلب تلك الفكرة القديمة, فهي إذا كانت تنطوي على رسالة جادة عن الكآبة والهلاك, إلا أنها تحتوي على رسالة نبيلة أيضاً.

         المتشائم الثقافي يؤكد - كما يؤكد المتشائم الماركسي - على أن المجتمع الغربي الحديث الفاسد بعد أن يفرغ من تدمير نفسه ويختفي, سوف يحل محله شيء آخر أفضل منه. ولن يكون النظام الجديد المنبثق اقتصادياً أو سياسياً بالأساس, بل إنه سوف يتضمن هدم الثقافة الغربية في مجموعها الكلي, النظام الجديد سوف يأخذ شكل اليوتوبيا البيئية التي كان يحلم بها مفجّر القنبلة, وقد يكون الأساس الأعلى الذي قال به (نيتشه), وقد تكون الاشتراكية القومية الآرية عند (هتلر), أو تلك الوحدة اليوتوبية بين الأيديولوجيا والإيروس عند (ماركيوز), وقد تكون الفلاحين الثوريين عند (فرانز فانون), هذا النظام الجديد قد يحمله (أصدقاء الأرض) في حركة أنصار البيئة, أو (الملونون) عند دعاة التعددية الثقافية, أو (الأمازونيون الجدد) عند الحركة النسوية الراديكالية, أو (البشر الجدد) عند (روبرت بلاي), ولسوف يتنوع شكل النظام المستقبلي بتنوع الأذواق, ولكن ميزته الأهم ستكون (طبيعته اللاغربية), وربما المعادية للغرب.

         على أن المتشائم الثقافي لا يهمه ما سوف يتم صنعه بقدر ما يهمه ما سوف يتم تدميره, وبالتحديد المجتمع الحديث (المريض), لذلك يتلقى المتشائم الثقافي الأخبار السيئة بفرح, ويعتبرها أخباراً (سارة), ونجده يحتفي بالكساد الاقتصادي وبالبطالة وبالصراعات والحروب العالمية والكوارث البيئية ويعتبرها كلها مؤشرات تعجّل بالدمار النهائي للحضارة الحديثة.

وللسينما دَوْرٌ

         هذه حقبة تشاؤم شعبي, تشاؤم عام, والتشاؤمية المعاصرة لا تتجلى فقط في الكتابات المثيرة للكآبة مثل (نهاية العقل الأمريكي) و (آلان بلوم) أو (المسيرة المترنّحة نحو عمورة) لـ(روبرت بورك), ولكننا نرى ذلك يتم تعميمه في الأفلام السينمائية ذات الرسائل المستوحاة من نماذج تشاؤمية ثقافية (أفلام مثل (محارب على الطريق), (الاستدعاء العام), (عالم الماء), (الهروب من نيويورك)). المجتمع المدني العادي أصبح مجتمعاً قمعياً متفسّخاً خلواً من الإبداع, معادياً للطبيعة بشكل واضح بعد أن أوصلته تكنولوجياته إلى حافة الدمار إن لم تكن قد دمّرته بالفعل. أما الأفراد الذين يتمتعون بالحيوية والقدرة الكافيتين للصراع ضد المد التخريبي الذاتي للمجتمع, فإن السينما تقدمهم لنا عائشين على الهامش: هم مجرمون حقراء أو أفراد شرطة أوغاد أو متشردون.. هم الطبقات الدنيا, أو بعبارة (نيتشه): (اللاأخلاقيون), البطل الحديث في أفلام الحركة (هائم بين عالمين) - عبارة ويمر الأثيرة - عالم الانحلال وعالم الحقيقة الأعلى الكامنة وراءه.

         والواقع أن أبطال أفلام الحركة اليوم - كلهم - صور ورسوم منتزعة من صفحات (نيتشه), إرادة القوة الكامنة فيهم تقوم بتقزيم بيئتهم المتحضرة الفاسدة ثم تدمّرها في النهاية. وصانعو أولئك الأبطال يزوّدونهم بقدر كاف من الجنس والعنف واللغة البذيئة كعلامات على حيويتهم, بينما المجتمع العادي يتحطّم إلى شظايا من الزجاج المكسور والطائرات والسيارات المفخخة والمباني المدمّرة. هذه الموضوعات والأفكار التشاؤمية نفسها موجودة بإلحاح في أغاني (الروك) وعلى شاشة الـ: (MTV). والشكوى تتزايد من الثقافة الجماهيرية المتفسّخة, وكأن المؤسسات التربوية والترفيهية تعود إلى تلك الموضوعات مرغمة, وذلك لا يتضمن الجنس والعنف فقط كتعبير عن الحيوية, ولكنه يتضمن أيضاً كل الافتراضات التشاؤمية التاريخية التي تفرز التشاؤمية الثقافية: فشل الديمقراطية الحديثة, مخاطر الرأسمالية الكبيرة والدولة البوليسية التي تعمل بالكمبيوتر, الأخطار المحدقة بالحياة من جراء التكنولوجيا والعلم الزائدين عن الحـد أو الأقل مـن الحد (في الطب والصحة), والتلاشي المطرد للطبقة الوسطى.

         ويرى (هيرمان) أن المجتمع الأمريكي اليوم - من الجامعات ومعاهد التعليم العام إلى برامج الثرثرة والـ: (توك شو) في التلفزيون - هو وريث فكرة الاضمحلال الحديثة بشكلها المزدوج الغريب. (الثقافي والتاريخي) التشاؤمية الثقافية هي الصورة النقيض للتشاؤمية التاريخية مثلما فكرة الاضمحلال هي نقيض فكرة التقدم. المتشائم التاريخي يرى مزايا ومناقب الحضارة واقعة تحت هجوم قوى شريرة ومدمّرة لا تستطيع أن تتغلب عليها. التشاؤمية الثقافية تزعم أن تلك القوى هي التي تشكل عملية التحضير من البداية. المتشائم التاريخي قلق لأن مجتمعه على وشك أن يدمّر نفسه, المتشائم الثقافي يقول إنه يستحق التدمير. المتشائم التاريخي يرى (الكارثة في الأفق), كما يقول (هنري آدمز), المتشائم الثقافي يتطلع إلى الكارثة حيث يعتقد أن شيئاً ما أفضل, سوف ينبعث من بين رمادها.

         ارتفاع موجة التشاؤمية الثقافية هو أبرز ملامح القرن العشرين, لا في عالم الأفكار فقط. وإنما في عالم السياسة والثقافة بشكل مباشر. قبل الحرب العالمية الثانية كانت الطبيعة السياسية للتشاؤمية الثـقافية هي طبيعة اليمين المتطرف, فقد استولت على شخصيات مثل (جورج سوريل) الذي سـاعد على ظهور الحركة الفاشية الإىطالية, و (ماركوس جارفي) الذي قلدها. وفي فرنسا حركت جماعة من الكتاب والمثقفين الذين واتتهم الفرصة لوضع أفكارهم موضع الممارسة في عهد نظام (فيشي).

         وفي ألمانيا - بالطبع - كانت هي التي ألهمت (ثورة اليمين) وصعود الاشتراكية القومية. وظهرت حتى في مركزي القيم الليبرالية المتحضّرة: إنجلترا والولايات المتحدة. وعندما ارتبطت بالدوال الدموية للعرقية الثقافية, ساعدت التشاؤمية العرقية على إفراز الكابوس الشمولي لألمانيا النازية.

         الحرب العالمية الثانية و (الهولوكوست) كان لابد أن يشكـّلا هزيمة للتشاؤمية الثقافية, ولفترة قصيرة كان يبدو أنهما قد فعلا ذلك.

         كانت هناك يقظة في الاهتمام بالتاريخ الغربي وموروثه الإنساني, أعمال منتشرة مثل (قصة الحضارة) لـ (ويل وآريل ديورانت), و (فكرة الحرية) و (فوائد الماضي) لـ (هربرت ج. موللر), هذه الأعمال قدمت نظرة إيجابية قوية عن التراث الفني والفكري للإنسان الغربي, بينما أعاد كتاب (وليم أونيل): (نهوض الغرب) كتابة تاريخ العالم الذي كتبه (توينبي) بنغمة أكثر تفاؤلا. كتاب: (آرنست كاسيرر): (أسطورة الدولة), وكتاب (كارل بوبر): (المجتمع المفتوح وأعداؤه), وكتاب (فردريش فون هايك): (طريق العبودية), هذه الكتب كلها كانت تحاول أن توضح كيف انحرف الأوربيون الجدد عن جذورهم الليبرالية, جذور القرن التاسع عشر, نحو الاستبداد السياسي, إلا أن جذور التشاؤمية الثقافية بقيت كما هي.

التشاؤمية الثقافية

         وإذا كانت (توني موريسون), و (رونالد تاكاكـي) و (ميشيل فوكو) و (نعوم تشومسكي) و (إدوارد سعيد) و (موراي بوكشين) يبدون حديثين وراديكاليين في نظر المعجبين بهم, فإن أقوالهم تبدو عادية جداً ومألوفة جداً بالنسبة لآخرين.

         ولكن تشاؤمية اليسار الثقافية قد أحدثت - وكما رأينا - انعكاساً مروعاً في الأقطاب التحليلية. فبدلاً من أن تكون الليبرالية والعسكرية علاجاً أو ترياقاً مضاداً للحضارة الليبرالية الواهنة, نجدها تقدم كتعبير عادي عنها كما يقول (دبليو - أي - بي - دوبوا). وبدلاً من أن يكون الإنسان النوردي الأبيض حاملاً للحيوية الثقافية والعرقية, نجد أن غير البيض في العالم الثالث هم الذين يقومون بهذا الدور.

         وبدلاً من اعتبار التكنولوجيا الحديثة نقيضاً للتقاليد الثقافية الآرية, نجد كتاباً مثل (جيرمي ريفكن) يقولون إنها نتاج وحليف لها. وبينما توجه تشاؤمية اليمين الثقافية انتقادات شديدة للانحلال الفيزيقي والانحراف الجنسي وتعتبرهما نتاجاً نموذجياً للغرب المتفسّخ, فإن تشاؤمية اليسار الثقافية تحتفي بهما وتمجّدهما.

         هذه هي واجهة التشاؤمية الثقافية اليوم. قاعدتها الأساسية موجودة بين المثقفين, وما يطلق عليه أحياناً (الطبقة الجديدة): المدرسين, الطلاب, الفنانين, الكتّاب, المشتغلين بالإعلام.

 

طلعت الشايب   

 
  




غلاف الكتاب