أرقام

أرقام
        

السلاح وسيناريوهات المستقبل

         .. ولا أقصد هنا تطور تكنولوجيا الأسلحة وما تفاجئنا به كل يوم, لكنني أقصد سيناريوهات المستقبل في منطقتنا التي لا تكف عن استيراد المزيد من الأسلحة حتى باتت هي الأكثر استيرادا للسلاح في العالم كله.

         وربما كانت هناك أكثر من طريقة لحساب المستقبل.. فهو يمكن أن يأتي كخط مستقيم ممتد يبدأ من النقطة الحاضرة ويتواتر بنفس الإيقاع كما هو الحال في حسابات السكان التي تتغير ببطء ولا يمكنها تجاهل ما يحدث على أرض الواقع من نمو سكاني سريع أو بسيط.. ولكن وخارج هذه الدائرة فإننا يمكن أن نتصور مستقبلا بديلا يقوم على نفس الواقع الراهن ويعتمد على فلسفة التغيير.

         هل يمكن أن يحدث ذلك في الدائرة العسكرية? المبررات كثيرة أبرزها ذلك التنافس على موارد الأمة العربية بين التنمية (أي حياة الإنسان ومستوى معيشته) ونفقات الدفاع (أي أمنه القومي).

         هناك مبرر للتغيير ونفي الواقع والانتقال لواقع جديد تكون فيه المزارع والمصانع والمدارس سابقة للمدافع والصواريخ والطائرات والجنود.

         ولكن, ومرة أخرى نسأل: هل يمكن تصور هذا السيناريو?

         تعالوا نختبر ما يجري مسترشدين بأرقام تثير الفزع.

         ............

         لقد شهد العالم ـ كما هو معروف ـ عدة حقب من سباق التسلح وكان المبرر صراع الأيديولوجيات التي تحكم العالم.. ومناطق النفوذ التي تحكمها هذه الأيديولوجية أو تلك.. إنه صراع الشرق والغرب والذي انتهى بسقوط الاتحاد السوفييتي.

         بعدها انتقل العالم إلى حقبة جديدة تراخى فيها مناخ العسكرة, وسجلت أرقام المراكز الاستراتيجية ذلك التراجع حتى أن تقريراً لصندوق النقد الدولي قد جرى نشره في مارس (1997) يقول إن العالم قد كسب من تخفيض التسلح (345) مليار دولار عام (95), ووجهها لأغراض التنمية الاقتصادية والبشرية, وبدراسة عينة مقدارها (80) بلدا ـ يقول التقرير ـ فقد اتضح أن (51) بلدا قد خفضت إنفاقها والمحصلة النهائية أن العالم قد أنفق نسبة محدودة من ناتجه المحلي عام 95.. نسبة لا تزيد على (2.4%) من هذا الناتج بينما كان متوسط عشر سنوات (85 ـ 95) هو: (3%) فقط لا غير.

         يحدث ذلك في العالم لكن الشرق الأوسط شيء آخر. بدأ العسكرة منذ الخمسينيات مع اشتعال حرب فلسطين, وتزايد حركة الاستقلال, وتولي العسكريين الحكم في الكثير من البلدان, ومع اشتداد الحرب الباردة والتنافس بين المعسكرين.. ثم وفي حقبة النفط توافرت موارد أكثر وتجددت بعدها أزمات حربي الخليج الأولى والثانية وعدد من الحروب الأهلية والمشاكل الحدودية.. إلى جوار الصراع التاريخي مع إسرائيل.

         كانت هناك دائما المبررات, وكانت الصورة النهائية قبل نهاية القرن العشرين, وكما يروي تقرير معهد الدراسات الاستراتيجية ـ صادر في لندن في خريف (1999)ـ أن الشرق الأوسط يخصص للنشاط العسكري أكثر من ضعفي المعدل العالمي, حيث بلغت نسبة الإنفاق للناتج المحلي (7%) عام (98), وبما يعادل (61) مليار دولار ذهب معظمها لشراء الأسلحة حتى أن إحدى دول المنطقة قد استوردت أسلحة قيمتها حوالي (22) مليار دولار خلال عامي (97) و(98).

         هل يمكن أن يتغير هذا الواقع وقد جاء على حساب عجز الموازنات الخليجية والتوسع في الاقتراض والانكماش في التنمية بسائر البلدان العربية, ذلك هو السؤال.

         .............

         السيناريو الأول هو بقاء الحال على ما هو عليه مع تصاعد الأرقام طبقا للتقدم في فنون الحرب وتكنولوجيا السلاح وأثمانها.

         ومبررات الاستمرار قائمة في المديين القريب والمتوسط, فالأزمة في الخليج والتربص المتبادل يشهدان استمرارا لا نعرف نهايته, والصراع العربي ـ الصهيوني, حتى لو توقف بتسويات سلمية سوف يعقبه احتياط وتحفز من الطرفين وسوف يظل القلق الإسرائيلي من نقض المعاهدات قائما بما يدعوها للاستمرار في التسلح والتحالف مع أطراف خارجية من أجل ذلك.. وعلى الجانب الآخر فسوف تستمر أطراف عربية في مواجهة الخطر النووي الإسرائيلي بامتلاك أسلحة أخرى تقليدية وغير تقليدية لملء الثغرة بين القوتين, أي أن السباق سوف يستمر تذكية مشاكل جديدة من طراز: صراع المياه التي تعاني من ندرتها كل الدول, المالكة للأنهار أو غير المالكة لها.

         وإذا أضيفت لذلك حروب الطوائف والقوميات ذات الأقلية والحروب العرقية والقبلية مما يدخل في باب الحروب الأهلية فإننا لا نجد في الأفق المنظور حلا لمشكلة الأكراد أو جنوب السودان أو عموم الصومال, حتى الجزائر مازالت عاجزة عن أن تلملم أشكال العنف.

         وكل ذلك يصل بنا للسيناريو المطروح: الاستمرار في العسكرة وتعثر التنمية وهشاشة الموقف إزاء العامل الدولي الذي يخلق قوانين جديدة في التعامل لا مكان فيها للضعفاء.

         ............

         والسيناريو الثاني يبدأ من نقطة نفي الواقع, بمعنى تغييره من أجل الهبوط بمخصص الدفاع في الشرق الأوسط, الذي بلغ (61) مليار دولار عام (98).

         ويتطلب هذا السيناريو استراتيجية مختلفة لا يضعها العسكريون ولكن يضعها الساسة ومتخذو القرار, وهي استراتيجية عمادها: حل الأزمات وتخفيف التوتر بدلا من إشـعاله, هـي اسـتراتيجـيـة التعاون لا المجابهة, والسياسة بدلا من الحرب, والعقل بدلا من المدفع.

         أعلم أن الأمر صعب, خاصة فيما يتعلق بالصراع العربي ـ الصهيوني أو الصراع في الخليج, ولكن ألم تستطع القوتان الكبريان: موسكو وواشنطن أن تتراجعا بالتسليح? ألم يخفض العالم كله رغم استمرار كثير من الأزمات معدلات تسليحه ونفقات دفاعه?

         في كل ذلك لم تكن العاطفة هي البوصلة المحركة, ولكن كانت المصلحة. وبمنطق المصلحة ومع كثير من الاجتهاد يمكن أن تنتهي حرب السودان وحرب الجزائر وخلافات الحدود في الخليج والجزيرة العربية أيضا, وبمنطق المصلحة لا بد أن تجد الخلافات مع العراق وإيران مخرجا يعتمد على احترام التاريخ وتحقيق الأمن القومي لكل الأطراف, وإزالة آثار العدوان في الحالتين .. حالة احتلال الكويت أو احتلال جزر الإمارات.

         في هذا السيناريو نقول إنه لا بد من إزالة أسباب التوتر, والتربص والعسكرة الكثيفة ولكن, ماذا عن العامل الخارجي? ماذا عن دول أجنبية ذات مصلحة?

         تقول أرقام معهد الدراسات الاستراتيجية بلندن إن الولايات المتحدة بمفردها قد حققت (49%) من إجمالي مبيعات الأسلحة في العالم خلال عام (98).. وإن هناك ثلاث دول هي أمريكا وفرنسا وبريطانيا قد حققت مبيعات في ذلك العام قدرها حوالي (46) مليار دولار, بينما لم تترك لبقية موردي العالم سوى عشرة مليارات.

         السؤال: وهذه الأطراف كلها فاعلة في أزمات الشرق الأوسط هل تؤيد سيناريو رقم (1) أم سيناريو رقم (2)?

         والسؤال لا محل له إذا كنا نتـحـدث عن قرار عربي أو شرق أوسطي مستقل بعيدا عن دوائر تجارة السلاح.

         البدائل إذن واضحة وعلينا أن نختار المستقبل, فالمستقبل ليس قدرا لا راد له. إن المستقبل يمكن أن يكون صناعة محلية, وهي صناعة لا تحتاج إلى اختراع أو معجزة سماوية, فالعقول العربية تستطيع أن تفعل.

 

محمود المراغي