جمال العربية

 جمال العربية
        

تجليات الجمال:
بين أثَرَةِ أبي فراس وإيثار أبي العلاء

         مازلت أذكر زمناً تقضّى, من أيام الصبا الجميل الباكر, كان فيه معلم اللغة العربية يدرّبنا على الكتابة, وتأمّل النصوص والأفكار, ويسألنا أن نفيض في التعبير والمقارنة بين شاعرين, يقول أحدهما:

مُعللتي بالوصل - والموتُ دونه

 

إذا متّ ظمآنا فلا نزل القطْرُ

         ويقول الآخر:

فلا هطلتْ عليّ ولا بأرضي

 

سحائبُ ليس تنتظمُ البلادا

         وكنا نندفع - على الفور - في خفّة من امتلك في قبضة يده الحقيقة, وأدرك ببديهة الفطرة أن قائل البيت الأول تتملّكه الأثرة, وتسيطر عليه نزعة ذاتية فردية, فهو لا يريد الخير للآخرين مادام قد حُرمه, ولا يتمنى للآخرين الريّ أو الارتواء مادام هو يبيت (ظمآنا), أما قائل البيت الثاني فشاعر تغلب عليه نزعة الإيثار, إيثار الآخرين على نفسه, فهو لا يرتضي لنفسه الخير إذا لم يكن شاملاً يعم الآخرين, ولا يلذّ له الشعور بالخير والارتواء ما لم يكن الآخرون يشركونه فيه, ويهبط عليهم كما هبط عليه.

         لم يكن ليلفتنا - في ذلك العهد البعيد - تأمل في الصياغة الشعرية للبيتين, أو عكوف على الصورة الشعرية المشتركة بينهما, وهي صورة المطر, الذي يصبح في بيت الشاعر الأول الذي تتملكه الأثرة مجرد قطْر, وفي بيت الشاعر الثاني الذي يتملكه الإيثار سحائب محمّلة بالغيث أو المطر العميم الذي من وفْرته يهطل وينتظم البلاد أي يعمّها بالخير. فالخيال الشعري في البيت الأول - تصويراً وتجسيداً - مرتبط أشدّ الارتباط بالفكرة التي يضخّها أو ينتجها في شرايين عبارته قاسية الوقع, بينما اتسع المعجم الشعري في البيت الثاني للهطول والسحائب وشمول البلاد على إطلاقها واتساعها في دائرة المكان ودائرة الكرم والعطاء.

         حتى إذا امتدّ بنا العمر, وعرفْنا من أمر الإبداع الشعري العربي ما لم نكن نعرفه ونحن صغار, أدركنا أن البيت الأول من قصيدة مشهورة لأبي فراس الحمداني, هي أطول قصائده وأكثرها دورانا على الألسنة والأقلام, وأن البيت الثاني من قصيدة لأبي العلاء المعري لا تقلّ شهرة ودورانا عن قصيدة أبي فراس.

         وأتاحت لنا المعرفة الجديدة رؤية لكل من البيتين في سياق حركة القصيدة, وانهمار أبياتها, وفي سياق الحركة الروحية والوجودية لكلّ من الشاعرين.

         قصيدة أبي فراس واحدة من روحياته التي قالها وهو أسير في بلاد الروم, بعد أن أبلى أحسن البلاء, ونافح عن ديار الإسلام, وشارك في صدّ جيوش الإمبراطورية المتفوّقة عداً وعدّة, لكنه - في الأسر - لا يعاني فقط مرارة الغربة وهوان حال الأسير وقيوده الثقال, وإنما يتعرض لمحنة أشدّ وأدهى, هي محنة تباطؤ سيف الدولة الحمداني - أمير حلب - عن فك أسره ومفاداته, ورفضه الاستجابة لاستغاثات العجوز أم أبي فراس, حضّاً له على دفع الفدية وإطلاق سراح الفارس الأسير.

         المرارة التي تملأ صدر أبي فراس, حتى على أقرب المقرّبين إليه, ومعاينته لنوع لعين من الشوائب التي تترسّب في قاع النفس الإنسانية, لا تتكشّف إلا في مثل هذه المواقف والأحداث, وتذكـّره الدائم واستحضاره لشجاعته وبلائه في مفاداة سيف الدولة وحماية دولته وعرشه وبلاده.

         كل ذلك يهيئ لنغمة الكـُفْر بالآخرين, والاتكاء على مشاعر الفردية والذاتية والأثرة, وكأنه يقول لنا: نفسي أولاً, وليهلك من بعدي الآخرون!

         يقول أبوفراس:

مُعللتي بالوصل, والموتُ دونه

 

إذا مت ظمآنا فلا نزلَ القطْرُ

حفظْتُ, وضيّعتِ المودة بيننا

 

وأحسن من بعض الوفاء لك الغَدْرُ

بنفسي من الغادين في الحيّ غادة

 

هواي لها ذنبٌ, وبهجتُها عُذْرُ

تروغُ إلى الواشين فيّ, وإنّ لي

 

لأذْنا بها عن كل واشية وقْرُ

بدوْتُ, وأهلي حاضرون, لأنني

 

أرى أن داراً - لستِ من أهلها - قَفْرُ

وحاربتُ قومي في هواك, وإنهم

 

وإياي, لولا حبّكِ, الماءُ والخمرُ

فإن يكُ ما قال الوشاةُ ولم يكن

 

فقد يهدم الإيمانُ ما شيّد الكـُفْرُ

وفيت, وفي بعض الوفاء مذلّة,

 

لإنسانة في الحيّ شيمتُها الغدْرُ

وقورٌ, وريعانُ الصبا يستفزّها,

 

فتأرنُ أحياناً كما أرنَ المُهْرُ

تسائلني مَن أنت, وهي عليمة

 

وهل بفتى مثلي على حاله نُكْرُ?

فقلت: كما شاءت, وشاء لها الهوى

 

قتيلُكِ, قالت: أيّهم?فهو كـُثْرُ

فقلت لها: لو شئْت لم تتعنّتي

 

ولم تسألي عني, وعندك بي خُبرُ

فقالت: لقد أزرى بك الدهر بَعْدنا

 

فقلتُ: معاذ الله, بل أنت,لا الدهرُ

         وينفسح أمامنا المجال لدلالات شعرية وفنية أرحب وأغنى, لو أننا أخذنا بما تتضمنه القراءات المعاصرة لهذا النص الشعري من تأويله, فالتي يخاطبها أبو فراس في هذه الأبيات - طبقا لهذه القراءة المغايرة - ليست امرأة محبوبة, وإنما هي (الحرية), قضيته التي تمتلك عليه ليله ونهاره, وهي حرية ترتبط بالفعل وشجاعة الحرب والقتال, وتستنفره وتحرّكه وهو حبيس سجن الروم, وهي المسئولة - باعتبارها وسيلة وغاية - عمّا آل إليه مصيره, فقد كان خروجه من أجلها وفي سبيلها, فلا مجال, إذن, لتهكمها به وشماتتها فيه وإعلانها أن الدهر قد أزرى به ونزل به من عال شامخ إلى خفْض - كما قال حطّان بن المعلّى - فهي وحدها سبب ما أصابه وما يعانيه, ومن أجلها يتململ في قيوده وأثقاله, وفي سبيلها يقول قرب ختام قصيدته:

تهون علينا في المعالي نفوسنا

 

ومَن يخطب الحسناء لم يُغْلها المهْرُ

فإذا ما تركنا عالم أبي فراس - المثقل بالأثرة والمرارة والشكوى من الزمان والناس - واتجهنا إلى عالم الشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري, الحبيس في سجون ثلاثة أشدّ ضراوة وهوْلا من سجن الروم, يعبر عنها بقوله:

أراني في الثلاثة من سجوني

 

فلا تسأل عن النبأ النبيث

لفقدي ناظري, ولزوم بيتي

 

وكون النفس في الجسم الخبيث

         هذه السجون الثلاثة لم تؤد - كما كان متوقعا - إلى مزاج سوداوي, أو غضب عارم على البشر, أو مرارة تفحّ بسمومها في وجوه الآخرين, على العكس تماماً, لقد طهّرته من كل أوضار الحياة وأوشاب المطامع وصراخ النزوات والرغبات, وجعلته أبعد ما يكون عن هوس الدنيا وفتنتها, وأشدّ رغبة في اعتزالها والنأي عن أشراكها.

         ولأن فلسفته العميقة المتأملة, قادته إلى الحقيقة الإنسانية, المتمثلة في التجرّد والمشاركة, فقد أصبح اتساع عقله الرحب المنفتح ووجدانه الخصب الممتلئ, لكل ما يشمل الآخرين سمْتا من سماته الأساسية, وتوجّها يفيض عنه. لقد كفّ عن نفسه طمعها فيما ليس له, فكفّ طمع الآخر - الذي يمكن أن يكون عدوّا - فلم يعد يعاديه. وكأنه كان ينظر إلى قول مهيار الديلمي:

ملكت نفسي مُذْ هجرْتُ طمعي

 

اليأس حُرٌ والرجاءُ عبْدُ!

         من هنا يجيء بيت أبي العلاء المعري في سياقه الطبيعي من قصيدته ومن فلسفة حياته:

تجنّبت الأنام فلا أواخي

 

وزدت عن العدوّ فما أعادى

ولما أن تجهّمني مُرادي

 

جريْتُ مع الزمان كما أرادا

وهوّنتُ الخطوب عليّ, حتى

 

كأني صرتُ أمنحها الودادا

فأيّ الناس أجعله صديقاً

 

وأيّ الأرض أسلكه ارتيادا?

كأني في لسان الدهر لفظٌ

 

تضمّن منه أغراضاً بعادا

يُكرّرني ليفهمني رجالٌ

 

كما كرّرت معْنىً مستعادا

ولو أنّي حُبيتُ الخلد فرْدًا

 

لما أحببْتُ في الخلد انفرادا

فلا هطلتْ عليّ ولا بأرضي

 

سحائب ليس تنتظمُ البلادا

ولي نفسٌ تحلّ بي الروابي

 

وتأبى أن تحلّ بي الوهادا

         لكن جدل الأثَرة والإيثار - كما يتجلى في بيتي أبي فراس الحمداني وأبي العلاء المعري - يظل جوهر الجدل الذي يواجهنا كلما تأملنا العديد من الثنائيات: الحياة والموت, الدين والدنيا, النهار والليل, الشرق والغرب, الفقر والغنى, وصولاً إلى الحجى والحظّ في صياغة أبي العلاء المحكمة:

عجبتُ من الصبح المنير, وضدّه

 

على أهل هذي الأرض يطّلعان

وقد أخرجاني بالكراهة منهما

 

كأنهما, للضيق, ما وسعاني

أشاحا فقالا - ضلّةً - ليس عندنا

 

محلٌ, وفي ضيق الثرى وضعاني

أيعكسُ هذا الخَـلْقَ مالكُ أمره

 

لعلّ الحجى والحظّ يجتمعان?

         هذه الجدلية المستمرة, التي يواجهها أبوالعلاء, ساخرا مرة, متململا أخرى, نافذا إلى صميمها بالوعي والحكمة التي تقترب من حقيقة اليقين, عندما يعلن إيمانه بالعقل وثقته المطلقة فيه دليلاً وهادياً وإماماً:

يرتجي الناسُ, أن يقوم إمام

 

ناطق في الكتيبة الخرساء

كذبَ الظن, لا إمام سوى العقل

 

مشيراً في صُبحه والمساء

         ومن أثرة أبي فراس إلى إيثار أبي العلاء يسطع عقد منظوم من تجليات الجمال في العربية, إبداعاً وفكراً, ويمتد حبل متين من هاجس التأمل والمعاودة إلى يقين الحكمة ووعي الحياة.

 

فاروق شوشة