«العين الحمراء» صور من ألبوم الحرب في لبنان

«العين الحمراء» صور من ألبوم الحرب في لبنان

  تضم المجموعة القصصية «العين الحمراء» للدكتورة نور سلمان اثنتي عشرة أقصوصة واقعية، أغلبها من وحي الحرب اللبنانية، تظهر شرورها ومآسيها، تعرّيها دون أي خجل، تفوح منها روائحها النتنة.  شخصياتها ليست من نسج الخيال؛ فوجيه بك وأم غسان ووليد وأبو بسام (ناطور البناية) وزكريا (ابن الحلاق) وفاطمة (الخادمة) والطبيب (ابن ماسح الأحذية)... كلهم وكثير غيرهم شخصيات من لحم ودم. أراد البعض أن يجد فيما حصل على الساحة اللبنانية بعض الحسنات! ولكن في الحقيقة ليست هناك سوى المساوئ. أما د. نور فهي رافضة للحرب، ولا ترى فيها سوى المساوئ والشرور.

 

قدّم العديد من الدول، منها القريب ومنها البعيد، منها الصديق ومنها العدو، الدعم للفئات المتصارعة والمتناحرة في لبنان، كما قُدّم المال والسلاح، عصب الحرب. بعض هذه الدول أعطى السلاح للفريقين المتناحرين لكي يستمر أوار هذه الحرب وتأجُّجها، ولمّا لم يستطع أي فريق أن يحقق نصرًا، وتاليًا لمّا وجدت هذه الدول أنها دفعت مليارات الدولارات ولم تجنِ شيئًا، توقفت الحرب اللبنانية.
 وعندما اتفق اللبنانيون على وقف القتال وتحقيق السلام، لم يبقَ أحد من الذين دفعوا لهم الأموال وأمدّوهم بالسلاح، لكي يستمروا في التقاتل، مستعدًا لأن يدفع لهم أو يقدّم أيّة مساعدة، مما يدل على أن الذين نفخوا في نار الحرب كانوا يهدفون إلى خراب لبنان وتدميره وتهجير شعبه وتحجيم دوره وخنقه وقتله وتصفيته.

شاهدة ورافضة
نور سلمان في حوارها مع ذاتها، ومع الآخرين، شاهدة على ما جرى ويجري على الساحة اللبنانية، وهي تسجل رفضها للحرب، من خلال الرمز، أحيانًا، فالعنوان «العين الحمراء»، رمز للغضب، فالعين الحمراء هي عين الشر، والحرب هي الشر كله!
وهي في حكاياتها هذه صادقة تروي قصة وطن هو لبنان من خلال شخصيات قصصها.
«لا جديد لا جديد»، الطرق تسير تشق الأرض، تقفل مدى وتفتح مدى، لكن فوقها وتحتها وعلى جوانبها حكايات الظالم والمظلوم تلتقي وتفترق، تتصادم ثم يفككها الصدام. وأما العين الحمراء فتغيب مع الغائبين». (ص 27).
«الأبواب فقدت كرامة انتصابها، والبيوت، كل البيوت، أدخلت في دوامة الربح والخسارة، كانت البيوت مسكن العائلات، فأصبحت حضنًا للدم المهدور. لا أحد يدري قدره مع بيته، لا أحد يعرف متى يصبح غريبًا عن بيته ودخيلًا عليه في وجه محتل ومتسلط. الناس لا يتكلمون، والأبواب لا تتكلم. لكن كلامًا كالنار يتكدّس في الهواء.
قصص الغضب كثيرة تتساوى مع قصص النار.
غرائبها، بشاعاتها، شرورها، حقائق يؤكدها الدم والتشرد والانهيار والظلم والاستبداد». (ص 31).
السرقة التي أصبح اسمها شطارة، وقصة الحرام والحلال:
«دلّينا، يا ست، على الحرام الذي يذهب مع أصحابه! الآدمي النظيف لا مكان له في هذا البلد!» (ص 25). أحيانًا تعمد إلى التحليل النفسي فتوفّق. كما في القصة رقم 4 «الخطأ في كل مكان»، حيث تصوّر نفسية الخادمة فاطمة التي تحبّ فريال كريم والأفلام المصرية، وهي تنتهي إجمالًا بخاتمة سعيدة... بالزواج!
وتعطي رأيها في الرجال وفي زواج الحب وزواج المصلحة. ولنستمع إليها تصوّر لنا (ص 52) غرفتها الجديدة في بيروت التي انتقلت إليها من منزلها في الجبل لمتابعة دراستها في الجامعة:
«الغرفة الجديدة ملجأ وسيع وصامت. الجدران صفحات جديدة تواجهني، وفوقها سقف مرتفع تقفز إليه عيناي حرّتين مُثقلتين، ثم تجفلان، فالسقف لا يرضي البصر على الدوام، هو يبدو لي أحيانًا كوجه راهبة قلقة ونادمة، صفاؤه جاف وصموده جاف أيضًا. يتدلّى من هذا السقف مصباح قديم يلفّني نوره الصامت فاترًا مملًّا وجامدًا. صرت أتمنّى غير هذا الانتقال، صرت أرى حريتي الجديدة في هذه الغرفة الجديدة، قفزة إلى دوامة أخرى».
السقف عندها كما السطح أو الشرفة في قصص نجيب محفوظ ورواياته.

عين الغضب
العين الحمراء هي عين الغضب. وهي تقول (ص 65): «اتركيه يصرخ هنا، دعي احمرار الحنق، يشعّ في عينيه. غضب الأطفال من غضب الأقدار.
صحافيون يلتقطون الصور الجامدة، والصور المتحركة. لماذا الصور؟ لمن الصور؟ الوجع لا يصوَّر. الوجع له أشكاله وألوانه خارج عدسات النقل المحدود».
في هذه القصص يظهر شعورها مع الناس، وهي تهمّ بحمل العبء عنهم. تشارك في تظاهرات الغضب ضد الحرب، وتمشي في مسيرة الاحتجاج والرفض وتغضب
(ص 97):
«هذا هو حدود غضبهم. فالحدود الكبرى للغضب الأكبر مرهقة مكلفة، وفقراء نحن فقراء، بيت غضبنا نحن كبيت السلحفاة يضم الغاضب وحده، يفصله، يغيّبه ويصغّره!
عدت إلى البيت، النار تحت الماء قوية، وقفت خاشعة أمام الماء وهو يغلي فوقها، يغلي فوقها ويفور يفور، يفور. تمنّيت لو يضمّني هذا الوعاء، تمنّيت لو نتعلّم لغة الماء فوق النار.
لكن نارنا نحن فقيرة، لا تولّد سوی الفتور، سوی الفتور». تقف إلى جانب الفقراء والمحرومين في وطن كانت فئة منه تشكو الحرمان، فلجأت إلى الثورة والعنف وبدلًا من أن تتحرر من حرمانها كانت النتيجة أننا تساوينا اليوم جميعًا في الحرمان.
 تحمل هموم وطنها وشعبها، تشدّ على وجعها كما تشدّ على قبضتها لتصفع القدر.
تعيش مأساة الوطن البائس، تحاول فكّ الحصار عن ذاتها، حصار الرعب والموت والجوع والحرمان، ترتدي أوجاع الناس، تحمل سجنها وتمشي مسكونة بالقلق والألق، جائعة إلى الحق والعدالة، متعطّشة إلى الحرية والمساواة، داعيةً إلى الثورة والنقمة والتغيير.

الاهتراء موت أكبر 
في هذا الحوار - بالقصة رقم 7 «موسم المشمش القادم» - مع ابن بائع الخضار الذي مات من القهر والوجع - تقول (ص 74 - 75): «كريماً طيبًا كان والدك - رحمات الله عليه - وها أنت قد ورثت مهنته!
سبقني وقال: عسى أن أرث سمعته الطيبة.
ولمعت الدمعة في عينيه. ثم استدرك مستغربًا. لكن لماذا كل شيء بالوراثة هنا في هذا البلد؟ الزعامة وراثة، السلطة وراثة، النيابة وراثة، الثروة وراثة، والمهنة وراثة!
أجبته:
 - هذا موضوع طويل كبير حتى الوجع. لكنني أريدك أن ترث عنفوان أبيك وكرمه وصبره!
ابتسم:
«مش حرزانة القصة»، كل هذا لأنه قدّم إليك حفنة من المشمش الناضج حتى الاهتراء؟ 
صرخت:
 - لا، لا، إن الفرق كبير بين النضج والاهتراء، الفرق كبير. تعلّم هذا الفرق. تذكّر هذا الفرق، لا تتجاهل هذا الفرق، لا تتنازل عن هذا الفرق... فلا تغرق أيها الشاب كما غرق غيرك!
سألني ضاحكًا:
- وما يجري هنا في هذا البلد، أهو اهتراء؟ 
- بلى، بلى، إنه اهتراء كبير. لذلك غاب عن هذا البلد متانة العنفوان وحلاوة النضج، الاهتراء ركاكة يا صديقي! الاهتراء موت أكبر»!

قلق على المصير
تتساءل عن هذا الوطن كيف يكون وطنًا وهو «لا يلبّي أي طلب من قلوب الفقراء وأفواههم وأحلامهم».
فقط أكوام القمامة تساوي بين المناطق.
أما القلق فهو السيد! القلق على المصير. إن حرقة الغربة لا تقل عن حرقة الفقر، والهجرة هي الجرح النازف أبدًا في رئة الوطن الذي أرادوا أن يخنقوه.
وبعد، لا تريد نور سلمان وطنها مستباحًا، مرفأً مأجورًا للعواصف، تريد أن تصرع التنين الذي يفترس وطنها الحبيب. تريد إخماد نار الحرب التي تحاصرها وتأكل من لحمها وتشرب من دمها. سدّت في وجهها دروب الخلاص ولم يبق لها سوى الكلمات تتسلّقها، تمتطيها، تبحر عبرها هربًا من الكابوس الذي تعيش فيه.
تغرف في قصصها هذه بكلتا يديها من مأساة الناس، ومن واقعهم المرير.

قصص واقعية
وبعد، قد لا تكون كل «قصص» نور سلمان قصصًا مستوفية شروط القصة القصيرة أو الأقصوصة؛ بنائها وتقنياتها، من بداية وخاتمة وحبكة (Plot) وذروة (Climax) وحَلّ وشخصيات وسياق وحوار وسرد ومفاجأة.
لكنها قصص واقعية، صور من «ألبوم» الحرب، وسمّيت قصصًا أو خواطر أو أي شيء آخر، فهي تروي قصة حرب لبنان القذرة بواقعية، تأخذها من أفواه الناس العاديين البسطاء وعن وجوههم. هي نوع من «يوميات» الحرب. تقف عند هموم الناس اليومية وأشيائهم الصغيرة التي أفرزتها الحرب، وتعكسها مضخّمة فاضحة. رغيف الخبز الذي بات لا يحصل عليه إلا بشقّ النفس، وانقطاع الماء والكهرباء وغالون الماء... هذا العذاب اليومي! والنفايات في كل مكان... لتقول لنا: «انظروا... هذه نتائج الحرب». 
وهي ليست صحافية تكتب ريبورتاجًا مصوّرًا لصحيفة يومية عن حرب لبنان. إنها فوق ذلك تنقل لنا التغيير الذي أحدثته الحرب في حياة الناس وتفكيرهم وقيمهم وعلاقاتهم بعضهم بالبعض (السرقة، والتسلّط، والخوّة، والاستغلال، والقهر، والحلال والحرام، والرعب، والخوف، والقتل والموت) إن بطل هذه القصص، إلى جانب الكاتبة، هي الحرب، الحرب التي تدخل في حياة الناس اليومية بتفاصيلها. نور سلمان «أديبة في السوق» - كما كان عمر فاخوري (1895 - 1946) «أديبًا في السوق»، عايش الحدث.
هذه القصص تتناول، في أكثريتها، الناس البسطاء، بلغة بسيطة مباشرة، فيها أحيانًا تعابير عامية وكلمات غير عربية: «مش حرزانة القصة»، «بونجور، تلبق لك»! المشمش «المخبص»! يا ضيعان الرجال!» «مونولوغات».

عين البصر وعين البصيرة
تداخلت الفنون الأدبية في الفترة الأخيرة، فالنثر أصبح يُدعى شعرًا، والفرق بينهما لم يبق كبيرًا، فيقال «قصيدة النثر»! 
و«القصة» تقصّ، تروي، تحدّث، تنقل عن ألسنة الناس (تسجّل)... وهي في «قصصها» هذه تفعل ذلك، تنقلها «بعينها الحمراء»... مَن يداوي عين الوطن المصابة بالرمد؟! فالعين هي العدسة اللاقطة للمشاهد والمرئيات. وهكذا تشترك عين بصرها وعين بصيرتها في تسجيل الأحداث التي تعيش في صميمها ولا تقف على هامشها. وهي تحرّك النص، تعطيه ديناميكية وتنقله من رتابة السرد وتسبغ عليه شيئًا من الدرامية الفاجعة. وهي أخيرًا تتحدث عن ذاتها من خلال شخصيات قصصها. وإذا كانت الحرب قد توقفت، فإن آثارها وذيولها لم تنتهِ، بل هي مستمرة وباقية في حياة الناس وفي وجدانهم، في همومهم، وفي أجسادهم ومشاعرهم وأحاسيسهم وذاكراتهم وضمائرهم. وهي مستمرة كذلك في قصص نور سلمان وعلى ألسنة أبطالها. وأخيرًا، النقد ليس تجريحًا بالضرورة، وليس عليه ألّا يرى سوى المثالب والعيوب. عمل الناقد أن يبيّن قيمة الأثر الأدبي الذي ينتقده ويكشف خفاياه ويضع مفتاح فهمه في أيدي القرّاء.
أرجو أن أكون قد وفّقت إلى شيء من ذلك. وأن تبقى أنوار نور سلمان مشعة لتنير غياهب الوطن! ■

 

وقف شاهداً على خراب الحرب يحمل هموم وطنه ومسكوناً بالقلق والأمل