الملاح الحي اليهودي بمدينة فاس

الملاح الحي اليهودي بمدينة فاس

تزخر الكثير من المدن العربية والإسلامية، ببعض مآثر اليهود الذين كانوا أقلية عرقية في تلك المدن، والتي اختاروها من أجل الاستقرار لما رأوه من قِيم التسامح في المجتمع الإسلامي، فعاشوا بجانب المسلمين يزاولون أنشطة تجارية وأعمالًا صناعية وحرفًا يدوية، أسهمت في تطور تلك المدن وتوسّعها، وسنتناول في هذا المقال حيّ الملاح؛ أحد أشهر أحياء اليهود في مدينة فاس بالمغرب في شمال إفريقيا.

 

يعتبر حي الملاح اليهودي بمدينة فاس، من أقدم أحياء اليهود في المغرب، حيث تذكر المصادر التاريخية أنه بُني عام 1438 ميلادية، وذلك خلال فترة الحكم المريني، عندما توسّعت مدينة فاس، عاصمة الدولة المرينية في تلك الفترة، ببناء فاس الجديد، الذي أقيم بجواره حي اليهود، في موقع جغرافي متميّز يُعتبَرُ ملتقى التجارة والصناعة والخدمات؛ فقد بُنِيَ في منطقة تُعرَفُ بسوق الملح أو مناجم الملح، وأيضًا قربه من المخازن، التي كانت تستخدم لتخزين الملح قبل نقله عبر القوافل التجارية إلى أوربا وفي اتجاه إفريقيا، لهذا سمّي هذا الحي التجاري والصناعي بحي «الملّاح»، وهو أوّل حي يهودي يتم تسميته بهذا الاسم، حيث أصبحت بعد ذلك جميع أحياء اليهود في بقية المدن المغربية تُسمى بالاسم نفسه... «الملاح».
ولمّا كان موقع هذا الحيّ قريبًا من القصر الملكي، حيث يُقيمُ السلطان المغربي ويدبّر شؤون الدولة، فقد حظي هذا الحي بعناية كبيرة منه وحُسن رعايته، خصوصًا أنّ اليهود كان لهم دور بارز في تنشيط الحياة الاقتصادية، ولذلك سعى السلطان المغربي إلى تحفيز التجار اليهود بالاستقرار في هذا الحي الجديد، عبر توفير الأمن لهم، حيث أنشأ السلطان حصنًا عسكريًا مجاورًا لهذا الحي، هو حصن سيدي بونافع، يؤدي دور حراسة حي اليهود من هجمات القبائل المجاورة لمدينة فاس، خلال بعض الفترات الصعبة كالجفاف والأوبئة والمجاعات أو الحروب والصراعات على السلطة، وقد بقيت معالم هذا الحِصن إلى اليوم، حيث تحوّل إلى متحف للأسلحة الحربية والعتاد العسكري التاريخي.

دور فاعل
أدى إحساس اليهود بالأمن إلى توسيع تجارتهم وتطوير الصناعات والحِرف التي كانوا يزاولونها، فزاد إقبالهم على بناء مساكن جديدة في حي الملاح، وشراء المحال التجارية، فانتعشت الحياة الاقتصادية بمدينة فاس، مما جعل خزينة الدولة تستفيد من أموال الضرائب، وأيضًا تشكيل نخبة اجتماعية لها دور فاعل، حيث كانت هناك مظاهر التعاون والتضامن بين مختلف فئات السكان مسلمين ويهود ومسيحيين، واستعاد اليهود دورهم في الشعور بالانتماء للوطن والشعور بالرغبة في تنمية ثرواتهم، عبر توسيع تجربة بناء حي خاص بهم، في كثير من المدن المغربية الأخرى، مثل مكناس، والرباط، وسلا، والصويرة، ومراكش، والدار البيضاء، وغيرها من المناطق التي كانت فيها أقلية يهودية، علمًا بأنهم كانوا مغاربة في كل شيء، حيث لا يتميّزون عن عموم بقية المغاربة إلّا في شعائرهم الدينية، وعلى الرغم من أنَّ كثيرًا من اليهود دخلوا الإسلام عبر مراحل الفتح الإسلامي للمغرب وشمال إفريقيا، إلا أنَّ فئة من اليهود ظلت محافظة على ديانتها اليهودية، واحتفظت بهويتها المغربية من حيث اللغة العبرية أو الأمازيغية أو العربية، أو غيرها من اللهجات المحلية، وتشبّثها بالعادات والتقاليد المغربية في الطبخ واللباس والأعياد، ولا يوجد الاختلاف إلا فيما له صلة بالدين فقط، ومما زاد هؤلاء اليهود إحساسهم بالقبول والاندماج في المجتمع المغربي المسلم، هو أنَّ السلطان المغربي يكفل لهم الأمن والرعاية، فهم «أهل ذمة» يتمتعون بحماية الملك المغربي.

حي متكامل
الناظر اليوم إلى حي الملاح اليهودي بمدينة فاس، وقد غادره اليهود، وأصبح حياً يقطنه المسلمون، يجد آثار سكانه الأوائل شاهدةً على مرحلة ازدهار عمراني وتجاري واقتصادي واضح للعيان، من خلال طريقة البناء والزخرفة وكثرة المحال التجارية والمصانع، ووجود مقبرة يهودية كبيرة، وأماكن العبادة ومزاولة نشاطات اجتماعية مرتبطة بعادات اليهود، وخصوصًا في احتفالاتهم الدينية.
يقع حي الملاح اليهودي في قلب مدينة فاس، ويمثّل حيًّا متكاملًا، يضم كل المرافق الضرورية، وكان محصّنًا بأسوار تحيط به من كل الجوانب، كما كان الدخول إليه لا يتم إلا من بابين اثنين، يغلقان في الليل ويفتحان في النهار، وعليهما حراسة ومراقبة دائمة، فضلًا عن الحماية العسكرية التي تكفّل بها برج سيدي بونافع الذي يقع داخل الحي اليهودي في الجهة الشرقية، غير بعيد عن القصر الملكي؛ مقرّ إقامة السلطان المغربي.
يوجد في هذا الحي كل شيء؛ من أسواق الذهب والتجارة والصناعات والحِرَف والمهن المختلفة، مما جعله حيًّا نابضًا بالحركة والنشاط، ومؤثّرًا في بقية أحياء المدينة، بل وفي التجارة الدولية، لأنَّ كثيرًا من البضائع والسلع كان يخرج من هذا الحي في اتجاه بقية المدن المغربية ونحو أوربا أيضًا، وكان اليهود يخرجون للتسوق من الأحياء المجاورة، والتي يقطنها المسلمون؛ سواء المغاربة أو الذين هاجروا من الأندلس، ويشترون ما يحتاجون إليه من مواد خام يحتاجون إليها في صناعاتهم وحرَفهم، وأيضًا ما يحتاجون إليه في معيشتهم من الفواكه والخضر والماشية، وفي الوقت نفسه، كان المسلمون يزورون حي الملاح للتسوق، فيشترون الجلود والأواني المنزلية والحليّ الذهبية.

أهم مداخل الاستقرار
أما في بقية أحياء فاس العتيقة فيقطنها المسلمون، حيث جامع القرويين والمدارس والصناعات والحرف التي يزاولونها، وعلى رأسها الصناعات الغذائية والورّاقة وصناعة التحف وأدوات الزينة والفسيفساء ونافورات المياه.. ويظهر التبادل الثقافي والحضاري بين اليهود والمغاربة متجسّدًا في الحي اليهودي الذي اعتمد في بنائه على كثير من فنون الهندسة الإسلامية، وخصوصًا صناعات المسلمين كالفسيفساء والنقش على الخشب، وغير ذلك من آثار الاندماج الاقتصادي، مما انعكس على مدينة فاس التي ارتفع عدد سكانها، وأصبحت حاضرة إسلامية كبرى، بفضل التوسع العمراني الذي عرفته في عهد الدولة المرينية، الشيء الذي يعني أن الأمن والتعايش والتبادل الاقتصادي، من أهم مداخل ترسيخ الاستقرار وبناء مناخ ملائم للتنمية والازدهار، وتبقى الاختيارات الدينية شأنًا خاصًا يخضع لقواعد التعايش بين الأديان، ودون أن يؤثر في التواصل والتعاون بين أبناء الوطن الواحد والوافدين إليه ■