الأخوان فليفل رائدا الأناشيد الوطنية في العالم العربي

الأخوان فليفل رائدا الأناشيد الوطنية في العالم العربي

منذ عام 1923، بدأ محمد فليفل (ت 1999) وأخوه أحمد ( ت 2000) من لبنان في تأليف نصوص وألحان الأناشيد الوطنية (والمارشات العسكرية)، والتي جاوزت الألفين، وقد اعتمدتها أوطان عربية، وحفظتها أجيال مستمرّة. واليوم ما زلنا ننشد من ألحانهما من شعر إبراهيم طوقان:
موطني... موطني...  الجلال، والجمال، والسناء، والبهاء في رباك
 والحياة، والنجاة، والهناء والرجــــــاء في هواك
كتبت فيهما «لسان الحال» قديماً: «تداول المجتمع الأهلي هذه الأناشيد، وعلمتها المدارس لتلامذتها، فأخذوا ينشدونها؛ لما فيها من غايات سامية ترمي إلى توثيق التآخي الوطني وترقية العواطف».

 

في بيروت، ولد محمد فليفل في عام 1899، وأخوه أحمد فليفل في عام 1906، وبعد أن حفظا القرآن الكريم في كتّاب الشيخ مصباح دعبول تابعا دراستهما في مدارس جمعية المقاصد الإسلامية، ثم في المدارس العثمانية: السلطانية والرشيدية ودار المعلمين.
درس الأخوان فليفل أيضاً العزف على بعض الآلات الموسيقية في دار المعلمين، وتربيا في بيت «موسيقي»، إذ كانت والدتهما حسنة الصوت، تردّد الأناشيد الدينية نقلاً عن والدها شيخ مؤذني الجامع العمري الكبير في بيروت والعازف على الناي، وخالهما عازف العود.
وفي عام 1919 دخل البيانو إلى بيت فليفل، وأحضر لهما والدهما معلمة إيطالية لتعلمهما العزف عليه، ثم تابع محمد دراسته في المعهد الموسيقي الوطني حتى شهادة التخصص، والتحق أحمد بفرقة موسيقى «دير المخلّص» حيث تعلّم العزف على البيانو وآلات النفخ.

الموسيقى العسكرية
عرف الأخوان فليفل منذ طفولتهما فِرقَ الموسيقى العسكرية التي كانت تجوب شوارع  بيروت في المناسبات والأعياد، وفي عام 1923 أسس الأخوان مع أصدقائهما «فرقة موسيقى الأفراح الوطنية»، وراحت الفرقة تتدرّب على عزف الأناشيد والألحان الشائعة، وتشارك في احتفالات المدارس والجمعيات الأهلية، وتطوف شوارع المدينة في المناسبات الوطنية والدينية.
ثم تعيّنا أستاذين للموسيقى في المدارس الرسمية والمقاصد ودار المعلمين، وفي الكونسرفتوار، قبل أن تؤسَّس «موسيقى الدرك»  اللبناني، حين عين كل منهما فيها برتبة ملازم، ولبسا البزّة العسكرية، فانطلقت «موسيقى الدرك» منذ عام 1942.

في تعليم الموسيقى
تابع الأخوان فليفل تعليم الموسيقى وإدارة فِرقها في المدارس والمعاهد الخاصة والموسيقية، وفي الإذاعة اللبنانية، حتى بعد تقاعدهما. في عام 1935 كلفتهما الحكومة العراقية إصلاح الأناشيد التربوية المدرسية. وفي عام 1952 كلفهما الملك عبدالعزيز آل سعود تأسيس موسيقى الحرس الملكي السعودي.
وعلى أيديهما تخرّج كثير من المطربين والمطربات والموسيقيين، ومن المطربات: نور الهدى، ولور دكاش، وفيروز التي تعلّمت منهما أصول الإنشاد والنطق والموسيقى، ومن المطربين: محمد البكار ومحمد سلمان ومصطفى كريدية، والموسيقار توفيق الباشا أيضًا.
وكان لهما فضل إطلاق «البيت الموسيقي» في عام 1942، والذي صار «نقابة الموسيقيين اللبنانيين».

القيم في أناشيدهما
كنتُ محظوظًا إذ درست على يد محمد فليفل أواسط الستينيات «الأناشيد الوطنية»، وكان يردّدها لنا وهو يعزف على البيانو، ثم يعرّفنا معانيها وما فيها من قيم علينا تطبيقها، وهو المربي والعسكري:  قيم مدنية وأخلاقية ودينية، في العلاقات الاجتماعية، في العلاقات العائلية، في حُسن التصرّف والحديث، في احترام الكبير والضعيف، في حماية الأملاك الخاصة والعامة، في احترام القانون قدر ما كنّا نعرف منه، مستشرفًا مستقبلًا لنــــا جميعًا، يوحّدنـــــا في سيــــاق مدنـــــي راقٍ، يبني لــنــا مؤسســـات حاضـــــنة:  
 فنحـــن الشباب  لنا الغد،    
ومجده المخلّد نحن الشباب

 كنّا ننشد باعتزازِ مَن ينتمي بصدق وحب وشغف للمجتمع، للوطن، للمستقبل. 
وفي الأناشيد الدينية كانت لنا أناشيد جامعة، في السيدة مريم أنشدنا من شعر سعيد عقل:

 أحبـــــك حنّت لك الأنجــمُ
 وزنبــق قدســـك يا مريــمُ
 مباركـــة أنت دون النســــاءِ
 مبـــارك الثمـــــــرُ الأعظـــــمُ
 ألَا معـــــكِ الله يــا مريـــــمُ
 ألَا معـــــــــكِ الله  يا مريـــــــــمُ

وفي النبي الرسول (صلى الله عليه وسلم)  أنشدنا للشاعر أحمد دمشقية:
 نـــــورٌ به دنيــا الحضارة تنعــمُ
 والحق يعلـــــــو والعدالــــــــة تحكُــــــــــــــمُ
 يا قومَنــا صلُّــوا عليه وسلّموا
 ظهر الهــدى ولد الرسول الأعظمُ

اختارا القصائد، وأنشدناها معهما، نحن المسلمين والمسيحيين ، ولم نسأل عن خصوصية الهوية الدينية لأحد، وكانا قد لحنا أوبريت ميلاد السيد المسيح، ونالا عليه وسام الصليب المقدس.

وللشجرة أنشدنا في عيدها المكرّس وطنيًّا لأول مرّة للشاعر محمد يوسف حمود:
 جنّــــــــة فــــــــــي وطنــــــــــــــــــــــــــــــي
 مـــــــــــــــن صبــــــــــاح الزمـــــــــــــــن
 تملأ الأرض اخضــــــــــــــــــــرارًا
 والسمـــــــــــاوات افتـــــــــــــــــــــــــــرارًا
 بالشجر / يتعالى في الهواء
 والثمـر / يتلألأ كالضيــــاء

وكانت عناوين الأناشيد هذه: الحضارة لغات متعدّدة / التحية / الأم / يا أمهات /أيها اليتيم / جارتنا / الفلاح / المهاجر / كشاف هيا / نار المخيم / المعلم / الفقراء / عيّدوا / الممرضات / نحن يا عمّال / هللوا للعيد/ للمقاصد ... / هذه عناوين، أو هي مواضيع أسست لثقافتنا الاجتماعية الجمعية المدنية.
وهذه الأناشيد هي قصائد ومقطوعات لشعراء كبار، مجيدين، وللأخوين فليفل أيضًا، فقد كانا شاعرين ينظِمان الكلمات المناسبة لما يشعران به على وقع موسيقاهما.
من الشعراء الذين لحّنا لهم: عمر أبو ريشة – الياس أو شبكة - عارف أبو شقرا - بشارة الخوري (الأخطل الصغير) - عمر الزعني - رشيد الخوري -  يحيى اللبابيدي – أحمد الصافي النجفي - رشاد دارغوث - سابا زريق - إبراهيم طوقان - مارون عبود - وديع عقل - عبد الرحيم قليلات.

أناشيدهما في البلاد العربية
تجاوزت أناشيد الأخوين فليفل الألفين عدًّا، وتجاوزت الحدود الجغرافية في انتشارها، فعمّت البلاد العربية.
لقد عاش الأخوان فليفل محطات ولادة الأوطان العربية، سياسيًّا، فصاغا، كما اختارا من القصائد، ما يتلاءم مع الواقع العربي الجديد، من دون نسيان ما يجمع شعوب هذه الأوطان، في موسيقى تلهب المشاعر، وتثير الحماس، وتجمع السواعد والقلوب. 
وفي كل نشيد اختاراه كان يوجد ما يميّز الوطن الذي يتبناه: الأرز والجبل هنا، الصحراء والفروسية هناك، العنفوان ... العمّال، البحر... القائد والزعيم... في اختيارات مدروسة،  فنسمع لهما في الأردن، من نظم الشاعر نسيم نصر:
إيــه عبــــــــد الله مَــــــــــــــــــــن
قــــــــــــام للحــــــــــــــــــرب
 هاشميـًّـا فـــــي ســــــــــــــــنن
 شيمـــــــــــــة العـــــــرْب
وفي السعودية:
 ســـــائـــــل الجـــــــــــــــــــــــــــــــــدود
 ســـــائــــــــــــــــــل الحقـــــــــــــــــــــــــــــــــب
 يهتفـــــــــــــــــــــــــــــوا ســـعــــــــــــــــــود
 عــــاهــــــــــــــــــلُ العـــــــــــــــــــــــــــــــــرب
وفي المغرب، من نظم الشاعر إبراهيم طوقان:
 فتية المغرب هيـــــا للجهــــــــــــادِ
 نحن أولى الناس بالأندلسِ
 نحن أبطالٌ فتاها ابن زيـــــاد
 ولها ترخص غالي الأنفسِ

وحين أنشدت فرقتهما في مصر، بحضور الرئيس جمال عبد الناصر، نشيد «راسخ عزمنا» للشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب، ووصل النشيد إلى:
«واحد شعبنا الكبير يا لشعب مؤمِن 
صاعق جيشنا هامة لا تنحني»
يقال: دمعت عينا عبد الناصر، وحين انتهى الإنشاد اقترب من محمد فليفل ليعانقه ويقول له: هذا النشيد ليس خاصًّا للجمهورية العربية المتحدة، بل للشعب  العربي كله. سمّوه «نشيد الشعب العربي»، وهكذا كان. إن تأصيل الشعور الوطني، احتاج إلى جرأة واقتحام في بداياته، (وربما ما زال يحتاج إلى ذلك اليوم)، أقصد بالشعور الوطني ذاك البعيد عن الطائفية والمذهبية والتقوقع... هو الشعور بالوطن كله، بأركانه كلها، الإنسانية والطبيعية، بتاريخه، بمستقبله، بأحلام شبابه، بقيم رجاله، بتقدير أبنائه العاملين من أجل حاضرهم ومستقبلهم.

في لبنان وسوريا
وفي لبنان، في عهد رئيس الجمهورية شارل دبّاس، في عام 1926، أقيمت مباراة لاختيار النشيد الوطني، وكان النشيد السابق هو المارسيلييز الفرنسي، وقبله النشيد السلطاني التركي، فشارك عدد كبير من الشعراء فاز من بينهم رشيد نخلة عن قصيدته التي مطلعها:
  كلنا للوطن
  للعلى للعلم
  ملء عين الزمن
  سيفنا والقلم

ثم جرت مباراة ثانية لاختيار لحن للقصيدة، ففاز مدير الكونسرفتوار وديع صبرا وخسر الأخوان فليفل، فخرج حينها الشيخ بشارة الخوري (الرئيس فيما بعد) وربت على كتف محمد قائلًا: «أعجبت كثيرًا بلحنكما لكن الظروف حتّمت علينا وعلى اللجنة اختيار لحن وديع صبرا لثقافته وكبر سنه وشهرته في البلاد الأوربية، وأنتما ما زلتما شابين والمستقبل أمامكما».

لكنهما لحّنا النشيد الوطني السوري بعد فوزهما في مباراة شارك فيها ستون موسيقيًّا، كان من بينهم جورج صبرا. 
وكان مطلع النشيد:

حـماةَ الـديارِ عليكمْ سـلامْ 
أبَتْ أنْ تـذِلَّ النفـوسُ الكرامْ
عـرينُ العروبةِ بيتٌ حَـرام
وعرشُ الشّموسِ حِمًى لا يُضَامْ

خاتمة
وما زلتُ أتساءل: كيف تقبّل العرب، على اختلافهم، واللبنانيون على تنوّعهم، (وعلى اختلافهم: الكتائب، النجادة ، الطلائع، المرابطون، الكشاف، المقاصد..)  أناشيد محمد وأحمد فليفل، لشاعر: مصري أو عراقي أو فلسطيني أو لبناني، أو شيوعي، أو قومي عربي، أو قومي اجتماعي سوري، ومن كل المذاهب، أتساءل الآن، ولم يكن هذا التساؤل سابقًا واردًا، لأن الكلمة كانت صادقة في النشيد، واللحن المرافق كان صادقًا أيضًا. 
فقد كنّا ننشد: الفخر والاعتزاز والعنفوان، غير وجِلين، وغير هيّابين، لا من الانتداب الفرنسي ولا من الانتداب الإنجليزي ولا من سلطة مستبدة... كنا نستغذب الكلمة، فنصرخ بها ملء أفواهنا، وقلوبنا هي التي كانت ترافق الإيقاع فنرفع صوتنا فنردد للشاعر عبدالحليم الحجار:

الفـخر في بـلادنـا والعـزُّ باتحـادنا 
    وعـن ذرى أطـوادنـا والأرز لا تـسلْ
حـبـذا لُبـنـان جنّـة الخـلـود  
    مـهـبـط الـبـيان تُـربـة الجـدود 
أسـرجـوا الخيـول، واقـرعـوا الطبـول
    واقحموا السهـول واحرسـوا الجبـل

أو:  للشاعر فخري البارودي:
  بلاد العرب أوطانِي
  من الشام لبغدانِ 
  ومن نجد إلى يمنٍ
  إلى مصر فتطوانِ

نصف قرن في خدمة الأناشيد الوطنية العربية، أمضاها الأخوان فليفل، وهما- باعتراف الخبراء- رائدا الموسيقى العسكرية في العالم العربي، ومن أوائل من نظَم جملة موسيقية عربية تميزت بإيقاعها، دالّة على أصالة الموسيقى العربية، ولو أن أدواتها كانت الأوركسترا الغربية ■