أنطوان فاتو ملك «الروكوكو» المثير للشجن

أنطوان فاتو  ملك «الروكوكو» المثير للشجن

لطالما بدا الفنان الفرنسي جان أنطوان فاتو شخصًا مثيرًا للدهشة والعجب؛ فهو ذلك الشخص المحزون الشَجِن الذي يميل إلى العزلة، ويأنس بالوحدة، ويؤثرهما على ما عداهما من صنوف المرح وألوان المباهج. وهو مع ذلك كله الشخص نفسه الذي يصور متع الدنيا وصخبها ومراحلها أبدع تصوير ويعبّر عنها أقدر تعبير. فشخوص لوحاته دوما يتقافزون بين رقص وغناء، فلا تغادر شفاههم البسمة، ولا يبرح وجوههم الحبور، أما هو فقد ظل سجين عالَمه الخاص المائج بالألوان والأصباغ، ذلك العالم الذي كان يجد فيه ضالته دومًا، وفيه كانت تشتعل جذوة خياله حالما تلمس أنامله الفرشاة ليبدع لنا آياتٍ من الفن الرفيع.

 

وُلد فاتو عام 1684 لأب كان يعمل في بناء الأسقف، وكانت مدينة فالنسيين التي شهدت مولد الفنان حديثة عهد بتبعيتها لفرنسا؛ إذ استولت عليها جيوش لويس الرابع عشر عام 1677 وضُمت فعليًا إلى فرنسا في العام الذي تلاه، بعد معاهدة صلح «نايميخن»، وكانت قبل ذلك تابعة لـ «هولندا الإسبانية». وقد يكون لذلك بعض الأثر في أن الثقافة الفرنسية لم تضرب بجذورها عميقًا داخل نفس فاتو.
كانت فرنسا قد شهدت ازدهارًا كبيرًا في القرن السابع عشر على يد لويس الرابع عشر الملقب بالملك الشمس؛ ففي عهده ازداد نفوذ فرنسا عسكريًّا، فاستولت على أراضٍ عدة وأصبحت من أعظم القوى في أوربا، كذلك ازدهر الاقتصاد متمثلًا في نمو كل من الصناعة والتجارة، وتضخمت ثروة البلاد، مما سمح بألوان من البذخ والترف لم تعرف أوربا لها مثيلًا، فقد شُيّدت القصور وغرست الحدائق والبساتين. 
ويظل قصر فرساي، بما يتسم به من فخامة وأبهة، خير شاهد على تلك الحقبة الباذخة. وقد واكب ذلك الازدهار السياسي والاقتصادي ازدهار آخر على الصعيدين الثقافي والفني، فشهدت الحياة الأدبية أزهى عصورها، إذ كانت الدولة تشجع الأدباء والفنانين وتجزل لهم العطاء، ففاقت بذلك فرنسا غيرها من الأمم في المجالات كافة.
لكنّ ثمة وجهًا آخر لذاك الفخار تمثّل في تكميم الأفواه وقمع الحريات، لا سيما الحريات الدينية. 

حياة هادئة
    لم يدُم ذلك الزهو العسكري طويلًا، فمع نهايات القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر تبدلت الحال، فقد توالت الهزائم العسكرية على فرنسا، مما اضطرها إلى التخلي عن بعض ما حازت من أراضٍ. وقد واكب ذلك الإخفاق العسكري تدهور في الجانبين الفني والثقافي.
 وقضى لويس الرابع عشر نحبه بعدما حكم فرنسا مدة 72 عامًا، فتنفس الفرنسيون الصعداء، وجاء فيليب الثاني دوق أورليانز ليصبح وصيًّا على الملك الصغير لويس الخامس عشر ذي الأعوام الخمسة، ودامت فترة الوصاية لنحو ثماني سنوات، جلب فيها السلام إلى ربوع فرنسا، فلم تعد ميزانية الجيش تبتلع الأموال. تلك هي الحقبة التي عاشها أنطوان فاتو خلال حياته القصيرة وازدهر فيها فنه. وبعد فترة الكساد ازدهر الاقتصاد مرة أخرى وأحب الأغنياء الجدد أن يحاكوا الأرستقراطيين في أسلوب معيشتهم، فابتاعوا البيوت الفاخرة وزيّنوها بكل ألوان الترف والبذخ.
كان والد فاتو رجلًا عنيفًا حادّ الطبع، مما كان له أثر سيئ على نفس ابنه الرقيقة، وربما كان ذلك الأثر وراء عدم قيامه بتصوير أيّ من أفراد أسرته في لوحاته. لقد عاش فاتو حياة هادئة وحيدًا من دون زوجة أو أطفال، ولم يُعرف عنه أنه كانت تربطه قصة حب بفتاة أو بأخرى. وعلى الرغم من ذلك كان يصور في لوحاته الأزواج رفقة أطفالهم والأحباء رفقة حبيباتهم، كأنه كان يرى أن الفن شيء مكمل لحياة البشر وليس شيئًا نابعًا منها. 
كان فاتو على دراية بفن الموسيقى وقارئًا نهمًا، بيد أنه لم يُبدِ - على الرغم من غزارة علمه - رأيًا في أيٍّ من نظريات الفن ولم يأت بنظرية فنية جديدة.

لوحات دينية
قدم فاتو من بلدته فالنسيين إلى باريس عام 1702 ولما يزل في الثامنة عشرة من عمره ليكمل دراسته للفن ويكسب قوته من خلال نسخ لوحاتٍ ذات موضوعات دينية لتاجر لوحات كان متجره يقع على جسر نوتردام، ثم تتلمذ على يد الفنان كلود جيو (1673 - 1722)، الذي تأثر به كثيرًا في أسلوبه واختياره لموضوعات لوحاته، فقد اقتفى خطاه في تصوير مشاهد مسرحية مستوحاة من الكوميديات الإيطالية، وكذا فقد كان يُضمّن بعض أعماله الفنية لمحاتٍ ساخرة، كما سنعرض لذلك لاحقًا. 
وعلى الرغم من تفتّق موهبة فاتو في باريس وذيوع شهرته بها، فإنه لم يألفها قط ولم يشعر بأنه جزء منها؛ إذ كانت تتنازعه قوتان؛ الأولى تجذبه إلى تلك المدينة الكبيرة بكل ما فيها من إغراء، مقابل قوة أخرى من داخله، وهي رغبته في النأي عنها، لذا لم يكن يؤثر البقاء فيها طويلًا؛ وكان يتردد عليها بين الحين والآخر، ودائمًا ما كان يخلد إلى بلدته فالنسيين ويتخذها مستقرًا له. ولم يصور فاتو في لوحاته قلب باريس أو ما حول قصر فرساي المنيف، وإنما كان ينزع إلى تصوير أطراف المدينة الكبيرة في التحامها مع الريف الفرنسي. 
أما إيطاليا، فقد كان مشغوفًا بها وبالفن الفينيسي، ولطالما كان يرجو زيارتها، ومما يدل على ذلك الشغف تقدّمه لمسابقة فنية في فرنسا يكافأ الفائز فيها برحلة إلى إيطاليا، لكنّ الحظ لم يحالفه، فقد حلّ بالمركز الثاني، وظل ذلك الحلم بالسفر يراوده، غير أنه لم يُقدّر له ما أراد. 

أبرز فناني «الروكوكو»
أبدع فاتو العديد من الأشكال الزخرفية على الألواح الخشبية لقطع الأثاث. وبرع في ذلك المجال، لاسيما لدى تتلمذه على يد الفنان كلود أودران
(1658 - 1734) الذي انتقل إليه بعد جيو. وكان أودران واحدًا من أهم المصورين والمزخرفين في البلاط الملكي الفرنسي، ولم يلبث أن عُين أمينًا على قصر لوكسمبورج عام 1704. 
وقد ظل فاتو يزاول هذا الفن الزخرفي زمنًا طويلًا، فكان يزخرف خزانات الثياب والآلات الموسيقية والأواني الخزفية، حتى أن أسلوبه في التصوير قد تأثر بالفن الزخرفي أيّما تأثر.
كان فاتو من أبرز فناني عصر الروكوكو في فرنسا، بل هو مَن ينسب إليه الفضل في نشأته، وفن الروكوكو هو أسلوب فنّي عُني بالزخارف التي تتسم بالرقة والسلاسة والانحناءات؛ فالاسم مشتق من كلمة Rocaille، التي تشير إلى أسلوب كان متبعًا في زخرفة الصخور لتزيين النوافير، وكلمة Barocco، وهي الأصل الإيطالي لكلمة «باروك»، الأسلوب الزخرفي المعروف الذي سبق الروكوكو.
 وقد ازدهر ذلك الفن في أوربا خلال القرن الثامن عشر على امتداد نصف القرن ما بين عامي 1730 و1780، واستُخدم في العمارة والزخرفة الداخلية بالمنازل والقصور وزخرفة قطع الأثاث. وهو يشبه أسلوب الباروك، إلا أنه أقل جزالة وفخامة وتعقيدًا وأكثر رقّة ورهافة. وقد عمد الأثرياء إلى الاستعانة برواد ذلك الفن في تزيين قصورهم من الداخل بأشكال زخرفية تصور حياة الطبقة الأرستقراطية وحفلاتهم ومباهجهم. 

إلى جزيرة سيترا
  جاءت لوحات فاتو تفيض رقة وعذوبة، إذ تصور فتيات حسناوات بصحبة عشاقهن يتضاحكون ويرقصون ويتغازلون ويتسامرون وينعمون بمسرات الحياة ومباهجها، وبما فيها من ألق، تحوطهم الطبيعة الخلابة الساحرة، بينما تُعزف الموسيقى وتتهادى الألحان. 
ومن أشهر لوحات فاتو التي أبدعها على ذلك النسق «الحج إلى جزيرة سيترا»، التي أبدع منها ثلاث نسخ، أولاها أنجزها عام 1710، وهي موجودة الآن بمعهد شتادل في فرانكفورت. 
أما الثانية فقد أنجزها بعد 7 سنوات ليقدمها إلى أكاديمية الفنون الجميلة في باريس، بعدما صار عضوًا بها، وقد علّقت في بهو الاستقبال بالأكاديمية، بعدما نالت استحسانًا كبيرًا، ومن هنا قررت الأكاديمية أن تقر تصنيفًا جديدًا هو «حفلات الغزل في الضيعة» لتدرجها ضمنه، وهو الذي غدا نواة لفن الروكوكو فيما بعد، لكن تلك التيمة لم تصمد طويلًا، فسرعان ما ذوت وخبا بريقها مع أفول أسلوب الروكوكو إبان الثورة الفرنسية التي اندلعت عام 1789، لتحل محله الكلاسيكية الجديدة، فقد رأى فيها فرنسيو ما بعد الثورة أنموذجًا لحياة اللهو والدعة التي كان الأرستقراطيون يرفلون فيها في العهد الملكي البائد، حتى إنه ليقال إن الفنان جاك لويس دافيد (1748 - 1825) قام هو وتلامذته برشق اللوحة بكسرات من الخبز اليابس. واللوحة موجودة الآن في متحف اللوفر. 
أما النسخة الثالثة، فقد أنجزها بعد ذلك بعامين، وهي موجودة الآن بقصر تشارلتون بورغ في برلين.

 رشاقة الفرشاة
   في هذه اللوحة أطلق فاتو العنان لخياله، فقد تخيل جزيرة سيترا - وهي في الميثولوجيا الإغريقية الجزيرة التي استقرت عليها أفروديت إلهة الحب بعدما جرفتها أمواج البحر على شاطئها - جزيرةً يقصدها العشاق للقاء أحبائهم. وتصوّر اللوحة نهاية ذلك اللقاء، حيث يستعد العشاق للعودة إلى ديارهم بعدما اكتحلت عيونهم برؤية مَن يحبون. 
وتتسم اللوحة برشاقة ضربات الفرشاة وحيويتها. ويلوح تمثال أفروديت في يمين اللوحة محاطًا بالورد الجميل، بينما يظهر العاشقون بملابسهم الريفية وبأيديهم عصي الحجاج، إذ إنهم يحجون إلى أراضي العشق المقدسة.
 وفي اللوحة نرى العشاق مثنى مثنى؛ فعشيق يهمس في أذن محبوبته، وثانٍ يمسك بيدي حبيبته، مساعدًا إياها على النهوض، وآخر يضع يده حول خصر من يحب، بعضهم غير آبهٍ لموعد الرحيل، والبعض الآخر يملؤه الحزن والأسى عندما حانت لحظة الفراق ومغادرة الجزيرة، ونلحظ في اللوحة تشابه ملامح المحبين، إذ يبدو أن الفنان لم يكن يهتم بتمييز وجوه شخوص اللوحة قدر اهتمامه بالفكرة ككل، فكرة فانتازيا الحب والغرام. ويظهر في اللوحة أيضًا مدى تمكُّن فاتو من إبراز لغة الجسد لدى العاشقين، وكذا إبراز الطبيعة في ثوب جديد غير ذاك الثوب المتأنق لحدائق لويس الرابع عشر، بل إنه صوّر الطبيعة على عفويتها وتلقائيتها وبكارتها. 
  وقد اختلف النقاد فيما بينهم حول ما إذا كان العشاق يستعدون للرحيل إلى الجزيرة أم يغادرونها، إلا أن جلّهم يميل إلى أن اللوحة تصور العشاق وهم يغادرون الجزيرة، مدللين على ذلك بوجود تمثال أفروديت، وهو تمثال في الجزيرة نفسها، وكذا أمارات الحزن البادية على وجوه المحبين لتركهم إياها، وكذا وقت الغروب الذي يوحي أن زيارتهم قد آذنت بأفول.

50 لوحة
   أبدع فاتو الكثير من اللوحات التي تصور حفلات الغزل تلك، إذ بلغ عددها نحو 50 لوحة نذكر منها أيضا لوحة «أغنية الحب» (1717)، ويظهر فيها رجل يعزف على قيثارته لحنًا عذبًا لمحبوبته التي بجواره وحولهما الطبيعة الخلابة. 
وقد سار على نهج فاتو في تصوير حفلات المجتمعات الراقية في الطبيعة الغنّاء وغزل المحبين فيها كثير من الفنانين؛ منهم فرانسوا بوشيه
(1703 - 1770) وجان فراغونار (1732-1806).
ومن التيمات الفنية التي اهتم فاتو بتصويرها في بدايات حياته الفنية مشاهد المعارك، تلك التيمة التي ذاع صيتها منذ بواكير القرن السابع عشر، وبرع فيها فنانون كُثُر مثل جوزيف باروسيل (1646 - 1704). وكان من أشهر تلك المشاهد مشاهد الفرسان بالمعركة، حيث تموج حركتهم مع حركة الخيول في تلاحم وعنف، ما يوحي اشتداد وطيس المعركة.
 بيد أن تناول فاتو تلك الموضوعات جاء على نحو مختلف عن مجايليه، فقد انصب جُلّ اهتمامه على مَن عانوا ويلات تلك الحروب، لا على القادة والجنرالات، ولا على تصوير القتال الدائر في المعارك، إذ لم يكن يميل إلى تصوير العنف، بل إنك لتلحظ وجود نساء وأطفال في معظم تلك اللوحات.

مبيت مؤقت في العراء
 تعد لوحة «مبيت مؤقت في العراء» (1710) خير شاهد على ذلك؛ إذ تزدحم فيها العناصر البشرية، لعل أبرزها الطاهي الذي يرنو في اتجاه المشاهد وتحفّه جذوع الأشجار المقطوعة. 
 ويظهر أحد الجذوع وقد تدلّى منه قدر تحته حطب أشعله أحد الجنود. وفي اللوحة أيضًا امرأتان تُرضع إحداهما وليدها، بينما التف حولهما ثلاثة أطفال آخرون. أما المدفع فقد أُقصي إلى طرف المشهد، دلالة على عدم اهتمام فاتو بإبراز أدوات القتال. وقد استقى فاتو عناصر تلك اللوحة من واقع الحياة، حيث رسم جنودًا حقيقيين في بلدته فالنسيين إبان الحرب، وضم تلك العناصر معًا لتكوين اللوحة. واللوحة موجودة الآن بمتحف بوشكين للفنون الجميلة في موسكو. 
أما في لوحة «نقطة استراحة» التي أبدعها في العام نفسه، فتظهر مجموعة من الجنود المكدودين من أثر المعركة، وتبدو في مركز اللوحة زوجة أحدهم بملابس رثّة، حاملة طفلها على ظهرها، حيث تمْثُل في اتجاه المشاهد. وثمة جندي قاعد على الأرض ورأسه ملفوف في ضمادة، أما السيدتان اللتان تبدوان في زي أنيق على يسار اللوحة، فقد جاءتا لتفقُّد الأحوال مع ضباط الجيش الذين يظهر اثنان منهم يلوّحان بإشارات توحي إلقاء أوامر. 
وفي لوحة «أعباء الحرب» (1713) نجد أن الجنود لا يقاتلون أعداء لهم، بل إن عدوهم يتمثّل في الرياح؛ إذ يسيرون في طرق وعرة وظهورهم تنوء بأحمال ثقال، بينما تهب رياح عاصفة، وترى الشمس تلوح في الأفق على استحياء من بين السحب، وترسل أشعتها على قرية فقيرة بمرمى البصر ينشد الجنود بلوغها قبل حلول الظلام. 

في الهواء الطلق
  من الملاحظ أن فاتو لم يبدع لوحات تصوّر أماكن مغلقة إلا قليلًا؛ فجلّ لوحاته كانت في الهواء الطلق تصوّر الطبيعة الخلابة. يذكر أيضًا أنه كان دومًا يمزج الطبيعة بالأشخاص في تناغم تام وانسجام كامل؛ فنادرًا ما كان يصور الطبيعة لذاتها، على الرغم من ولعه بها. 
كان الفنان أنطوان مولعًا بتصوير ممثلي المسرح، لا سيما الممثلين الإيطاليين وهم يؤدون أدوارهم المسرحية، أو حتى بعيدًا عن خشبة المسرح. وله في ذلك لوحات كثيرة منها ما فُقد، ومنها ما لا يزال موجودًا، مثل لوحة «مهرجان وعروض تمثيل»، التي يُحتفظ بها في قصر سان سوسي بمدينة بوتسدام الألمانية، وقد أبدعها حوالي عام 1707. 
 واللوحة تعج بأناس عديدين، فنرى أناسًا يرقصون ونرى المهرج ومَن يقرع الطبول، وكذا نرى قارئة الكفّ ممسكة بيد أحد الشبان لتخبره عما يخبئه له القدر، واللوحة يشيع فيها جو من المرح والصخب. يُذكر أن تصوير حشد من البشر هو من سمات الفن الفلمنكي الذي تأثر به فاتو في بداياته وحتى عام 1712. 
وفي لوحة «طرد الممثلين الطليان» يصور فاتو أولئك الممثلين المسرحيين الإيطاليين لدى رؤيتهم المرسوم الملكي الذي يقضي بطردهم من فرنسا، وكان ذلك عام 1697. ويمزج فاتو في تلك اللوحة الجد بالهزل، فهو يصور الممثلين كأنهم يؤدون دورًا في مسرحية؛ إذ يغلب عليهم الأداء المسرحي المصطنع لدى تلقيهم الخبر. 
  ولعل الملك كان قد قضى بطرد أولئك الممثلين، نظرًا لتهكمهم على عشيقته مدام دي مينتينون. 
ومن المؤسف أن تلك اللوحة فُقدت، إلا أن نسخة منها نفذها الفنان لويس جاكوب (1712 - 1802) بطريقة النقش الغائر لا تزال باقية إلى الآن.

تعاطف خفي
 ونستشف من هذه اللوحة التعاطف الخفي من جانب الفنان مع أولئك الممثلين ومدى امتعاضه من رقابة البلاط على الفنون، وربما كان ذلك الطابع الفكاهي الذي أدرجه فاتو في اللوحة مقصودًا بالأساس كي يحمي نفسه من عقاب البلاط الفرنسي. 
وفي عام 1719 اشتدت على فاتو العلّة، فسافر إلى إنجلترا ومكث فيها شهورًا طلبًا للتداوي، لكن من دون جدوى، فقد تمكّن منه المرض. 
وفي إنجلترا أبدع لوحته «الرقصة» وغيرها من الأعمال، على الرغم من مرضه، ثم عاد إلى باريس في صيف عام 1720.
 وفي العام الأخير من عمره 1721، توهجت قريحته وتملكته الرغبة في إبداع الكثير من الأعمال، وآثر العيش منعزلًا في قرية نوجنت على نهر مارن شرقي باريس، حيث الهدوء والسكينة، وفي تلك الفترة أبدع لوحة «المسيح على الصليب» من أجل كنيسة القرية، ولربما يدل اتجاهه إلى تصوير المقدسات في تلك الفترة على المنحى الديني الذي بدأ يتخذه إبان فترة مرضه. وقد صورته الفنانة التشكيلية الإيطالية روزالبا كارييرا في بورتريه لدى زيارتها باريس قبيل وفاته بستة أشهر، تلبية لرغبة راعيه الثري بيير كروزا، وكان فاتو حينذاك يعاني مرض ذات الرئة؛ لذا فهو يبدو في اللوحة بنظرة شاردة حزينة. وظل فاتو يعمل بدأب إلى أن تدهورت صحته ووافته المنية عام 1721 ولمّا يكمل عامه السابع والثلاثين ■