فيلم «أخبار العالم» رحلة البوح والمعرفة

 فيلم «أخبار العالم»   رحلة البوح والمعرفة

فيلم «أخبار العالم news of the world هو فيلم دراما أمريكي من إنتاج سنة 2020، إخراج بول غرينغراس وبطولة توم هانكس، هيلينا زينجل، نيل ساندلاندس... توزيع شركة يونيفرسال بيكتشرز - نتفليكس.  
يحيل عنوان الفيلم «أخبار العالم» إلى مؤشر إعلامي قائم على الاستطلاع ونقل المعلومات والمعارف والحوادث. وهذا يفترض وجود قائم بالفعل يتكلف بجمع هذه المعطيات من وسائل الإعلام والاتصال في العالم لينقلها إلى الجمهور (المتلقي) الذي يستقبل هذه الأخبار والمعلومات. إنها عملية اتصال مركبة تتم بين مرسل يجمع وينقل الخبر وبين متلقٍ مستهدف في عملية الخطاب، متحصل على هذا الكمّ من الأنباء. يبقى أن نتعرف على طبيعة الوسيط الذي ينقل المعلومة، أو وسيلة الإعلام التي وظفها ناقل أخبار العالم. وبربطنا هذا المعطى بالسياق الزمني لقصة الفيلم (يدور في زمن الحروب الأهلية بالولايات الأمريكية)، نستشف أن الأداة الإعلامية الوحيدة التي كانت تتكفل بنقل مختلف أحداث ووقائع العالم آنذاك هي الصحافة الورقية.

 

ينتمي الفيلم إلى أفلام الغرب الأمريكي (الويسترن) التي راجت في القرن العشرين سواء مع السينما الصامتة أو مع السينما الناطقة بعد ذلك، خاصة مع المخرج العالمي سيرجيو ليوني في أعماله الخالدة التي تؤرخ لهذه المرحلة، ولهذه النوعية من الأفلام. وفي السنوات الأخيرة عاد الحنين إلى هذه المرحلة الذهبية في السينما العالمية، لتظهر بين الفينة والأخرى أعمال سينمائية تسترجع خصوصيات هذا النوع، على يد مخرجين جدد مثل كوينتين تارنتينو والأخوين كوين ثم بول غرينغراس في هذا الشريط السينمائي الذي يستحضر جميع خصائص الويسترن سباغيتي : الطبيعة الصحراوية - المناخ الجاف - التضاريس الوعرة - أزياء رعاة البقر - الخيول والعربات - الأسلحة والمواجهات - اللصوص وقطاع الطرق ...إلخ.
تدور أحداث الفيلم في الولايات المتحدة بعد الحرب الأهلية، حيث نصادف شخصية الكابتن كيد، المحارب السابق، وهو يتنقل من قرية إلى أخرى من أجل إيصال الأخبار والمعلومات لأهل هذه المناطق النائية، البعيدة عن المراكز الحضرية الكبرى. والبطل في تنقله هذا يستهدف الحصول على المال مقابل الإعلام بالأحداث المستجدة والإعلان عن الأنباء الطارئة، عبر الصحف التي يقتنيها لقراءتها على أهل كل بلدة يصل إليها.  ومصادفة يلتقي الكابتن كيد فتاة صغيرة وجدها تائهة في منطقة موحشة في الغابة، فعلم بعد ذلك بأنها قد عاشت ظروفًا قاسية، حيث قُتل والداها واختطفها الهنود الحمر ليربوها كابنة لهم، ثم قُتلت العائلة التي تبنتها وأصبحت ضالّة متشردة في البراري الخالية.
سيتحمل الكابتن مسؤولية إعادتها إلى أهلها وعائلتها البعيدين عنها، وسيخصص كل وقته للبحث والاستفسار عن مكان تواجد هذه العائلة. ليقرر أخيرًا خوض المغامرة، ومواجهة التحدي الأصعب، القيام برحلة مليئة بالمخاطر والتهديدات من أجل إيصال الطفلة إلى أقاربها. هذا، رغم أن الطرفين لا يستطيعان حتى التواصل مع بعضهما البعض، نظرا لاختلاف لغتهما، حيث تتحدث البنت الصغيرة لغة السكان الأصليين (الهنود الحمر)، وهذا ما صعب هذه المهمة التي واجهت كل العراقيل والتحديات. لكن لغة الروح وصوت الضمير وهمس الإحساس كان أقوى، وساعد البطل على إنجاز مهمته بنجاح وتجاوز كل الأخطار التي عرقلت مسيرته وأعاقت رحلته : قطاع الطرق - اللصوص - المسالك الوعرة - الطريق الطويلة - المناخ الصحراوي القاسي - استنفاد المؤونة - تعطل وسائل السفر...إلخ.
في ختام الفيلم يكتشف كيد أن أهل الطفلة يعاملونها بعنف وفظاظة، ويطالبونها بمساعدتهم في الأعمال الشاقة، ويرفضون الاحتفاظ بها دون أدنى مساهمة، ويدرك آنذاك الخطأ الذي ارتكبه بتسليمه هذه الطفلة البريئة إلى هذه الأسرة القاسية التي لم ترحم طفولة هذه الصغيرة البريئة، ولا ماضيها المؤلم، المليء بالكرب والتعاسة، ليكتشف في النهاية أن مصيره مرتبط بمصيرها، وأن مستقبله شديد الوثاق بمستقبلها، وأن روحه متصلة بروحها، فيقرر - جراء ذلك - الاحتفاظ بها ومشاركتها الحياة السعيدة التي لم يعشها هو الآخر في ماضيه الحزين بسبب موت زوجته وافتقاده حنان الأبناء.
جاء الحوار في الفيلم مختلا ومشوشا، نظرا لكون البطل والطفلة جوهانا لا يتواصلان إلا بلغة الجسد، بحكم اختلاف لغتها عن لغته. فالصبية كانت تتحدث بلغة الكيوا (الهنود الحمر)، نظرا لاختطافها (بعد موت أبويها) من طرف عائلة هندية، تبنتها وتكفلت بتربيتها، قبل أن تلقى حتفها هي الأخرى، لتبقى الصغيرة وحيدة ضالة في هذا العالم.  وقليلا ما تنطق البنت جوهانا أو تتكلم في الفيلم، حيث تعبر عن جميع المشاعر والأحاسيس بملامح الوجه ولغة الإيماء والإشارة : الحزن - المأساة - الانجذاب - الصدام - النفور - الإشفاق على حال البطل ...إلخ.
فالتواصل إذًا عسير وصعب بين الطرفين، لكن رغم ذلك كانت القناة الروحية أبلغ وأفصح في التعبير والبوح، الإعلام والإعلان، الكشف والإظهار، التصريح والتوضيح. ورغم صمتها برعت الممثلة الصغيرة هيلينا زينكل، في تأدية دور الطفلة المختطفة، حيث تظهر على عينيها وملامحها آثار الخوف والقلق والخوف والرغبة في الحب والأمان... إلخ. لتستطيع بذلك إيصال رسالتها، وإشعار البطل بقساوتها ومعاناتها، وإخطاره برغباتها وآمالها، وإطلاعه على أفكارها ومواقفها. الشيء نفسه يصدق على كيد الذي نجح في إقناع الفتاة بالعودة إلى أهلها، وتمكن من مد حبل الود والعطف، الحب والحنان، الأمن والسلام إلى قلب الطفلة الفزِعة.
يقوم البطل كيد والطفلة جوهانا برحلة من أجل اكتشاف الذات والعالم، من أجل تحقيق المبتغى المزدوج الذي يسمى حبكة الفيلم : تحقيق السلام النفسي والروحي للكابتن الحزين بسبب وفاة الزوجة، وتحقيق الأمن والأمان بالنسبة للطفلة المختطفة التي يريد إيصالها إلى عائلتها، فوضعيتهما هي وضعية متشابهة ومشتركة بالصدفة : البطل كيد المتأزم بسبب موت زوجته أثناء خوضه غمار الحرب، وجوهانا التي اختطفت من طرف الهنود الحمر وأصبحت وحيدة بعد أن فارقت عائلتها.
في بداية الفيلم، نلتقي مع هذه الجملة التي تلفظ بها كيد وهو محاط بالجماهير الغفيرة التي تتلقى أخباره من الصحف الأمريكية «ربما الليلة يمكننا الهروب من مشاكلنا والاستماع إلى التغييرات الكبيرة التي تحدث بالخارج». حيث يود الكابتن أن يجذب مستمعيه إلى تلقي الأنباء الجديدة في الظاهر، لكن هذه الجملة لها دلالة أعمق من معناها السطحي، حيث ترتبط بما سيأتي من أحداث لاحقة، كون إن الكابتن يريد ترك مشاكله الشخصية وهمومه وأحزانه بسبب وفاة زوجته، ليتفرغ إلى حل مشكل خارجي. ترى ما طبيعة هذا المشكل وما أسبابه؟ إنه مشكل الطفلة المختطفة التي فقدت الصلة بأقاربها، فأخذ كيد عهدًا على نفسه بمساعدتها على إيجادهم، وهذا ما ستبرزه الوقائع التالية من الفيلم.
تنتمي جوهانا إلى عائلة من أصول ألمانية، وهذا ما بدا واضحًا حينما سألها كيد في جلسة استراحة ليلية: «هل تتذكرين عائلتك الألمانية؟». ثم اختطفها الهنود الحمر بعد أن قتل الجنود والديها وشقيقها في الحرب الأهلية (الأمريكية)، والشيء نفسه سيقع مع عائلتها الهندية الجديدة التي ستحرق ويقتل جميع أفرادها. ولم يتبقَّ للطفلة اليتيمة سوى عمتها التي تقطن في بلدة نائية وبعيدة، لهذا جاهد الكابتن كيد كثيرًا، وقاوم كل الأخطار والمصاعب التي واجهته في الطريق من أجل إيصالها إليها ولمّ شمل العائلة. وهذه الحواجز عديدة ومتنوعة، منها :
- حواجز طبيعية: صعوبة التضاريس الصحراوية للغرب الأمريكي، مشقة الطريق الطويلة ومنعرجاتها الوعرة، الصحراء القاحلة.
- حواجز مناخية: الحرارة المرتفعة، الجفاف.
- حواجز بشرية: قطاع الطرق، العصابات، اللصوص... إلخ.
- حواجز مادية: موت الخيول في حادث، تعطل العربة وتحطمها، استنفاد الذخيرة واستنزاف المعدات.. إلخ.
ولتجاوز هذه المعيقات احتاج كيد إلى التسلح بالصبر والحيلة والذكاء والقوة: الصبر على مواجهة مشقة الطريق الطويلة، الحيلة والذكاء لشدّ اهتمام الطفلة وإلهائها عن مآسيها ومصائبها، والقوة لمقاومة الهجومات الذي تعرض لها باستمرار، من طرف قطاع الطرق والعصابات التي تعترض الطريق من أجل السرقة أو الاعتداء. فالبطل كيد كان محاربًا قديمًا بفرقة تكساس في الحرب الأهلية الأمريكية التي دارت بين ولايات الشمال وولايات الجنوب، وبعد نهاية الحرب أصبح يشتغل ناقلًا لأخبار العالم (من الصحف) إلى البلدات البعيدة والفقيرة التي لا تصلها الجرائد واليوميات، وكان يتلقى جراء ذلك تعويضًا ماليًّا بسيطًا. بينما ماتت زوجة الكابتن بالكوليرا، وكانت بالتالي مصدر الأزمة النفسية التي يمر بها بسبب حزنه على موتها، واعتقاده أن هذه الوفاة هي عقوبة من الله على قتله العديد من الأبرياء والفقراء في المعارك والحروب الأهلية.
من جهة أخرى، يتابع الفيلم إلقاء الضوء على ظاهرة مهمة في العديد من مشاهده ولقطاته، إنها العنصرية التي نخرت المجتمع الأمريكي، وجعلت قواعده الاجتماعية مفككة البنى، مشتتة الأسس. فشريط (أخبار العالم) يلمح إلى قضايا العنصرية والعبودية من خلال لقطات تبرز استغلال العبيد (السود، الهنود، الآسيويين، المكسيكيين..) من طرف السكان البيض في الأعمال الشاقة والمقرفة، أضف إلى ذلك أن أهل البلدة (تكساس) التي زارها الكابتن كيد رفضوا رفضًا تامًّا القانون الذي وضعه الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن لوقف الرق ومنح الحرية للعبيد : الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية...إلخ، ولهذا، فقد حرض الكابتن الفئات المقهورة والمضطهدة (المكسيكيين، العبيد، الهنود)، على الثورة من أجل حريتهم ضد فارلي الثري ورجاله المستبدين، من خلال قصة رواها لهم من منشور الصحيفة. وقد مثلت هذه الحكاية فرصة للبطل من أجل إلهاب حماس الجماهير للثورة على هذا المتغطرس، وبالتالي استغلال الفرصة للهرب من كمينه وتهديده، بعد أن حاصر هذا الشرير عربته وقيّد حركته وتوعّد صبيته في تلك البلدة.
الفيلم يشير أيضا إلى بعض الأحداث التاريخية التي عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية، منها الحروب الأهلية الطاحنة التي دارت بين ولايات الشمال وولايات الجنوب، وكيف استغل أهل الشمال - الذين انتصروا في الحرب - أهل الجنوب في مختلف أنواع العمل والشقاء لصالحهم. كما يعالج (الفيلم) أيضًا الصراع التاريخي بين المستوطنين الأمريكيين وسكان أمريكا الأصليين الذين يدافعون عن أرضهم ووطنهم وخيراتهم، وهذا ما نلمسه في حوار كيد مع الطفلة : «المستوطنون يقتلون الهنود من أجل أرضهم، والهنود يقتلون المستوطنين لاستعادتها»  .
وفي حوار آخر دار بين البطل وأحد الجنود القدامى في الحرب الأمريكية، يصرح هذا الأخير بجملة بليغة ومعبرة: «الفقراء يخوضون حرب الأثرياء». وهي عبارة تدل على أن هذه الحروب الأهلية التي خربت الولايات المتحدة الأمريكية، وجعلتها تعيش الشتات والتفرقة، هي حروب مصالح ومنافع اقتصادية لا يستفيد منها إلا الأغنياء، بينما حطبها ووقودها الذي يعاني ويقاسي ويضحي بحياته فيها هو المواطن الفقير الذي يستغل بأبشع الطرق في هذه المعارك. والدليل على ذلك - حسب قول الجندي المتقاعد - هو أنهم يضطرون بعد نهاية الحرب إلى البحث عن عمل آخر ومصدر بديل للرزق يقيهم شر الحاجة والفاقة. والكابتن كيد هو خير مثال على ذلك، لأنه لم يستفد شيئًا من سنين إخلاصه ووفائه كجندي في الحرب الأهلية، فاضطر بعد انتهاء فترة عمله إلى التنقل والترحال من أجل نقل أخبار العالم مقابل المال الذي سيوفر له لقمة العيش.
لا تتكامل عناصر الفيلم الدرامي إلا بحضور العقدة أو الورطة، والورطة التي واجهت البطل هنا هي كيفية إيصال الطفلة إلى أهلها في ظل صعوبة المسار وبعد المقر وطول المسلك، ثم المخاطر المهددة في الطريق، والتي تجلت في العصابة التي حاولت خطف الطفلة بالقوة بعد أن فشلت في شرائها (لاستغلالها جنسيًّا) من كيد. حيث نصادف مشاهد دينامية وحركية تؤطر الصراع والصدام، عبر التركيز على مطاردة العصابة للبطل والطفلة في الصحراء القاحلة ثم بداية المعركة بين الطرفين باستعمال المسدس أو البندقية، وكيف يتمكن الكابتن بمهاراته الحربية وذكائه المبهر في المبارزة، من التخلص من هذه الورطة والقضاء على أفراد العصابة الثلاثة.
وتلتقط الكاميرا هذه اللقطات بمشاهد سريعة وقصيرة، حركية ونابضة، مثيرة ومشوّقة، دينامية ودرامية، يتخللها توظيف لأسلوب الصمت والسكون، حيث تغيب الأصوات (باستثناء أصوات الطلقات والرصاصات)، ويسود الترقب والانتظار لمعرفة مصير هذه المعركة المثيرة. إن الصمت هنا له ارتباط بالمخاض العسير الذي يواجه الرفيقين أمام مشكلة صعبة، فيترك المخرج للمشاهد فرصة توقع المصير المجهول، والمشاركة النفسية للحدث، في ظل الإثارة التي تطبع المشهد وتحبس أنفاس الجمهور.
في النهاية سيقرر كيد تبني الطفلة جوهانا بعد أن رفضت عائلتها الاهتمام بها، وبعدما فرضت عليها الشقاء والعمل وهي طفلة صغيرة. ليختار جيف، أخيرًا، الاحتفاظ بها، معلنًا تقاربه الروحي معها، واندماجه العاطفي بجانبها، وانفعاله الحسي بقربها. وهذا ما تمظهر في الجملة الحوارية التي تلفظ بها الكابتن كيد بلغة الكيوا الأصلية في المشاهد الأخيرة، حيث سيطلب من جوهانا العودة معه ومرافقته بالكلمات التي تعلمها منها، إيحاء بتخلصه من أزمته والعثور على ذاته وتحقيق استقراه النفسي، من خلال التماهي الروحي مع هذه الطفلة التي شغلت باله، وملأت خياله بعد وفاة الزوجة.
ويمكن تصنيف القوى الفاعلة في هذا الفيلم إلى نموذج عاملي مساهم في الأحداث على الشكل التالي:
- الموضوع: إيصال الطفلة إلى عائلتها.
- الذات: الكابتن كيد.
- المرسل: الإشفاق على حالها، والتأثر بمصيرها (اليتم وفقدان العائلة).
- المرسل إليه: عائلة الطفلة.
- العامل المساعد : التناغم بين الطرفين - التفاهم - التعاون والتشارك والاتحاد - التشبت بالطموح والأمل - الإصرار - التسلح لمواجهة الأخطار - الاستعداد جيدا لمخاطر الرحلة وتحدياتها - العربة التي ستنقلهما في هذه الرحلة - الخيول والأحصنة - العمل والمال الذي يجنيه - المرأة صاحبة الفندق التي ستساعدهما على التواصل - الفتى جون كارلي الذي سينقذهما من هجوم فارلي.. إلخ. 
- العامل المعيق : الرحلة الصعبة والطويلة - الطريق الصحراوية الصعبة والوعرة - المسار الخطير المليء بالتهديدات - العصابة التي تعترض طريقهما - فارلي ورجاله المستبدين الذين يستغلون العبيد - تحطم العربة وموت الأحصنة - التعب والإجهاض والطريق الشاقة - درجة الحرارة المرتفعة والعطش - العاصفة الرملية.. إلخ.
إذا انتقلنا إلى الجانب الفني في الفيلم فسنلاحظ أن المخرج وظّف - في البناء الصوتي للعمل - موسيقى مشحونة بالانفعال العاطفي الذي يواكب أزمة الطفلة التي فقدت عائلتها وكذا البطل الذي فقد زوجته، لهذا فقد جاءت متخمة بالألحان ذات الإيقاع الرتيب تماشيًا مع طبيعة الجو الكئيب. وأحيانًا نستمع إلى نغمات بالقيثارة تلمح إلى جو الرحلة في أراضي الغرب الأمريكي، وهي موسيقى شبيهة بأنغام أفلام الويسترن سباغيتي التي عايشناها سابقا مع الفنان الكبير اينيو موريكوني في تحف سينمائية خالدة : حدث ذات مرة في الغرب، الطيب والشرس والقبيح، من أجل حفنة دولارات..إلخ.
أما فيما يخص البناء البصري للشريط، فإننا نصادف اهتماما كبيرا بالألوان الرائجة في أفلام الويسترن: الأصفر والبني وهي ألوان تتلاءم مع فضاء الفيلم الصحراوي (الصحراء الامريكية الغربية) وطبيعة الفيلم (أفلام الغرب الأمريكي أو الويسترن). كما نجد حضورا للألوان الداكنة والإنارة المظلمة والخافتة في الأجواء العاطفية التي تعبر عن الحزن والمآسي واللحظات العاطفية الحزينة (حزن الطفلة على عائلتها - حزن البطل على زوجته)، وأيضا حينما يريد المخرج تصوير الواقع الأمريكي الذي تلا الحرب الأهلية : واقع الخراب والمآسي والتفرقة والعنصرية والشتات... 
وفيما يخص التصوير وطبيعة المشاهد، فقد ارتكز المخرج على التنويع في اللقطات :
- لقطات عامة عبر الطائرة (من الأعلى إلى الأسفل)، تحيط بفضاء الغرب الأمريكي والصحراء الواسعة والشاسعة، بلقطات عامة تصور الفضاء كاملًا بعمومياته.
- لقطات كلية، تحيط بهذه الفضاءات، مع إبراز بعض من خصوصياتها، وملامح شخصياتها، وتفاعلهم داخل الحقل المؤطّر.
- لقطات كبرى ومقربة، سواء المقربة الواسعة (من الرأس إلى الحزام) أو المقربة الضيقة (من الرأس إلى الكتف)، للتركيز على أفعال الشخصيات، وسلوكها، وملامحها المضطربة، وانفعالاتها النفسية (القلق والخوف والصدمة والتردد عند الطفلة، والحزن والأسى والألم في محيا كيد المتأثر بفقدان الزوجة). 
- لقطات متوسطة، للقبض على مغامرة البطلين، وخوضهما لرحلات متعددة في الغرب الأمريكي : رحلات البحث عن الذات والأمن والأمان، رحلات التطهّر من الأسى والخوف والعزلة، رحلات التضامن والتشارك النفسي في سبيل مواجهة الصعوبات والعراقيل (البعد عن الأهل - موت الزوجة...).
- اللقطة الأمريكية، شأنه شأن باقي أفلام الغرب الأمريكي (الكاوبوي) يوظّف الشريط لقطات أمريكية تؤطر الشخصية من أعلى الرأس إلى منتصف الفخذين للدلالة على التكافؤ في حوار ثنائي بين شخصيتين، أو في حوار فردي بين الشخصية والجمهور حينما ينفرد الممثل بإطار الكاميرا.
كما نلاحظ أيضا، في هذا العمل الفني كثرة التقطيع واعتماد المشاهد القصيرة وتعدد زوايا التصوير. وهي من أهم خصائص هذا النوع السينمائي، نظرا لأنه ينبني على رحلات متعددة، وانتقال من مكان لآخر ومن موقف لآخر ومن حوار لآخر ومن شخصيات لأخرى، وهذا ما فرض التنويع في الزوايا، واعتماد المشاهد ذات النفس القصير التي تمسك بلب المشاهد واهتمامه، فيظل مرتبطًا بالحبكة الدرامية وبمسار الرحلة الخطيرة ومآل الطفلة الضائعة.
إضافة إلى ذلك، تميز الفيلم بالتناغم في الأداء التشخيصي، والتوافق في المواقف والأفعال والتصرفات بين الكابتن كيد من جهة والطفلة جوهانا من جهة أخرى. وهذا الانسجام التشخيصي أهم نقطة ساهمت في تميز هذا الفيلم وغناه الفني، فبالرغم من اختلاف اللهجة والجهل بالمنطوق إلا أن لغة الروح، وبوح الكيان، وإشارة الملامح، ودلالة الانفعالات، وخلفية الأفعال والتصرفات، هي عوامل رئيسية ساعدت البطلين على مد جسور التواصل والتفاهم والتناغم.
من جهة أخرى، استعان هذا العمل السينمائي بمختلف عناصر الفضاء الخاصة بأفلام الويسترن : الصحراء المقفرة ، الجبال والصخور القاحلة، غابات وواحات في بعض المناطق، جواميس وأبقار، رياح ورمال متنقلة، نبات الصبار الذي نصادفه في الطريق الصحراوي..إلخ. فالمكان كان من عناصر التميز في هذا الشريط السينمائي، نظرا لارتباطه بالمتخيل السينمائي لموجة السبعينيات (الويسترن سباغيتي)، وهي موجة صوبت اهتمامها كثيرا إلى عنصر المكان، مستثمرة في ذلك الأرض الصحراوية القاحلة التي تبعث على المغامرة والتلصص والسرقة والقتال وحرب العصابات.
في الختام، لا يمكن إلا أن نشيد بهذا العمل السينمائي الفريد، الذي أحيا الذاكرة السينمائية العالمية لأفلام الغرب الأمريكي، موظفًا حبكة سينمائية درامية تتأسس على وجود طرفين متنافرين لغةً وجسدًا وفكرًا، فيحاول كل منهما مدّ صلة التواصل مع الآخر، حتى وإن اختلفت اللهجة، حتى وإن تناقضت الثقافة، حتى وإن تعارضت الفكرة. لينتصر في النهاية صوت الروح والإحساس، صوت القلب والكيان، صوت الحب والتعاون. 
وقد نجح هذا الفيلم في جذب كثير من الجماهير إلى قاعات السينما، كما حاز تقييمات مميزة من طرف نقاد وخبراء السينما، وهذا ما جعله يترشح لجوائز الأوسكار هذه السنة، مخلفًا صدى رحبًا ومكانة مرموقة بين الأفلام الأمريكية. وقد ساهم حضور النجم توم هانكس - المتوج بالأوسكار - في بروز هذا الفيلم وشهرته بين الجماهير الأمريكية، ليترشح بذلك للفوز بأوسكار مجموعة من الفئات: أفضل موسيقى تصويرية - أفضل تصوير - أفضل صوت - أفضل إنتاج ■