عروض الطهي ورواجها المعاصر
مما لا شك فيه أنه في عصرنا الحالي هناك هوَس بالطعام، ليس فقط من ناحية استهلاكه، بل بأي شيء وكل ما يتعلق به، وللتأكيد على ذلك ما علينا سوى إلقاء نظرة على انتشار مدونات الطعام والعروض التي لا نهاية لها، على ما يبدو، لكتب الطبخ من قبل هذا المدون الشهير أو ذلك الطاهي المعروف. بالإضافة إلى كل المواقع الموجودة على الويب المخصصة لمراجعات المطاعم ومحادثات الطهاة مثل
Eater.com و SeriousEats.com، فضلًا عن الوصفات التي لا نهاية لها على موقع بينترست.
لم يعد الاهتمام بالطعام يقتصر على عدد من برامج الطهي المتفرقة على شاشات التلفزيون كما كانت الحال في السابق، وذلك منذ أول ظهور لبرامج الطهي في أربعينيات القرن الماضي، بل أصبحت هناك شبكات بأكملها مخصصة لهذا النوع من البرامج على مدار الساعة، مثل Food Network و«فتافيت» وغيرهما.
لكن لماذا هذه الشعبية المتزايدة لهذه البرامج والفيديوهات والمدونات وكل ما يتعلق بالطعام؟ لماذا استمرت برامج الطبخ وتطورت مع الزمن ولم تختفِ كما العديد من البرامج التلفزيونية التي ظهرت وتوقفت بعد فترة زمنية معيّنة، مهما طال عمرها ومهما كان مقدار نجاحها؟
قد يكون التفسير الواضح المباشر أننا نتعلم منها كيفية تحضير الوصفات الشهية واكتساب الحيل الصغيرة في المطبخ، ولأنها تساعدنا على توسيع مخزون وصفات الطهي لدينا. غير أننا لا يمكننا حصر الأمر في ذلك على الإطلاق، وإلا لماذا نشاهد برنامجًا مدته نصف ساعة أو أكثر لنتعلم كيفية عمل قالب حلوى بالشوكولا، مثلًا، بينما يمكننا قراءة الوصفة في دقيقة واحدة؟ ولماذا هذه الشعبية لتلك البرامج حتى بالنسبة للأشخاص الذين لا يهتمون بالطبخ ولا هم من الذين يحضرون وجبات الطعام في منازلهم؟
عشاق عروض الطهي
في الواقع ينقسم عشاق عروض الطهي عادةً إلى فئتين؛ المشاهدون الذين يرغبون في التعلم والاستمتاع أيضًا بالجانب الترفيهي للعروض، وأولئك الذين يهتمون بكل شيء ما عدا العناصر الإرشادية لعملية إعداد الطعام، والذين على الرغم من أنهم قد يقدرون المعلومات المستندة إلى الحقائق التي يقدمها الطهاة، فإنهم في المقام الأول يبحثون عن الإثارة والاستمتاع، لا سيما في برامج مسابقات الطبخ.
في الآونة الأخيرة تحولت عروض الطبخ إلى برامج ترفيهية يتابعها الجميع، ولم يكن تحويل ممارسة الطبخ إلى ثقافة ترفيهية بالأمر الصعب لأنه، ببساطة، كما يقول الكاتب البريطاني الشهير جورج برنارد شو: «ليس هناك حب أصدق من حب الطعام». ومن هنا يمكن للجميع الاستمتاع بعروض الطهي، لكونها تحاكي رغبتنا الدائمة في الطعام وتغذي ما يمكن تسميته بالجوع البصري من خلال عرضها الصور الجذابة للأطعمة اللذيذة. فصور الطعام الجذابة تشكّل متعة في حد ذاتها، وذلك على حد قول المتخصصة في علم الأعصاب راشيل هيرز ومؤلفة كتاب «لماذا تأكل ما تأكله؟» الذي يستكشف العوامل الحسية والنفسية والاجتماعية التي تدخل في تجاربنا مع الطعام، حيث تشير إلى أن مجرد النظر إلى الصور أو مشاهدة مقاطع الفيديو الخاصة بالطعام يؤدي إلى تنشيط الدوبامين والمواد الكيميائية الأخرى في دماغنا، كما يحصل عادة عند رؤية الطعام نفسه على أرض الواقع. فالانجذاب إلى طعام لذيذ المظهر أمر مدفوع بتركيبتنا البيولوجية، وتحديدًا منطقة في الدماغ تسمى النواة المتكئة وهي المنطقة المسؤولة عن المكافآت، لكونها تنشط عند حصول الإنسان على الطعام اللذيذ أو المال، كما تنشط عند حصول الشخص على ثناء أو مديح لشخصه.
برامج الطبخ والاستهلاك غير المباشر
ذكرت شركة ستاتيستا الألمانية المتخصصة في بيانات السوق والمستهلكين، أن متوسط إجمالي عدد المشاهدين لقنوات الطبخ في الولايات المتحدة قفز من 137 ألف شخص عام 2018 إلى 142 ألفًا عام 2020.
من الناحية العلمية يعود هذا النمو في شعبية تلك القنوات، إلى قدرة العروض التي تقدمها على تحفيز التجارب المتعددة الحواس باستخدام الإشارات المرئية، فهناك حقيقة علمية تقول إن أكثر من ثلث دماغنا مخصص للرؤية. لذلك عندما نرى شخصًا يعد الطعام أمامنا تتيح لنا مجموعة الإشارات المرئية التي يقدّمها الإحساس بأننا جزء من التجربة نفسها، حيث تستطيع أدمغتنا أن تتخيل مذاق الطعام دون تذوقه بالفعل.
يقول أستاذ علم النفس في كاليفورنيا ومؤسس مدونة «التسويق العصبي» مات جونسون، إن البشر بارعون في محاكاة التجارب متعددة الحواس باستخدام الإشارات المرئية وحدها، وأنه من خلال رؤية شخص آخر يطهو ويصنع طعامًا لذيذًا يمكننا محاكاة وتخيل مذاق هذا الطعام».
ومن هذا المنطلق تندرج عروض الطبخ تحت ما يُعرف بـ «الاستهلاك غير المباشر»، لأن مشاهدة عروض الطهي تعني تناول الطعام بشكل غير مباشر بالمعنى الحرفي، لأننا نحصل على صور ذهنية تمكننا من تذوق الطعام وشم رائحته من دون تذوقه أو شمه فعليًّا. وهذا الاستهلاك غير المباشر يسمح بالحصول على جزء صغير من هذه التجربة اللذيذة الممتعة من دون أي سلبيات مثل السعرات الحرارية أو عناء شراء المكونات وإعدادها وعملية التنظيف لاحقًا.
الإشارات المرئية
أما بالنسبة للإشارات المرئية التي تستخدم، فهناك الكثير من أسرار علم النفس التي يحرص القيّمون على برامج الطهي على اتباعها عند تصميمهم إياها، لا سيما لدى نقلهم الصور والحركة المناسبة في كل تفصيل من تفاصيل عروض الطهي المرئية.
وقد تكون كل تلك الأسرار تتماشى مع مقولة «العين تأكل قبل الفم أحيانًا» الذي كان أول مَن أطلقها أبيقيوس، التاجر والمتذوق الروماني الذي ألّف كتابًا شهيرًا في الطبخ خلال القرن الروماني الأول قبل الميلاد. فالصورة الجميلة التي تغازل العيون في برامج الطبخ تكون مكتملة من خلال مزيج الألوان والإضاءة والديكور والحركة أيضًا، فالمطابخ مجهزة بأحدث الأدوات والأواني الفاخرة الجميلة التي تهدف إلى إثارة الإعجاب والرغبة في نظر المشاهدين. فبالنسبة للإضاءة، تكون مدروسة بشكل كبير لتعكس الطعام بأفضل طريقة. أما الألوان فلها قصة أخرى، حيث يوضح أستاذ علم النفس التجريبي في جامعة أكسفورد، تشارلز سبنس، أن برامج الطبخ تحرص دائمًا على إظهار ألوان محددة ومزجها بطرق معيّنة، إذ إن لكل لون دلالة نفسية، فمن المعلوم أن اللون الأصفر يرتبط بالسعادة، بينما ينظر إلى اللونين الأزرق والأزرق المائل إلى الخضار على أنهما مهدئان، في حين يعتبر اللون الأخضر لون التفاؤل، كما أن للحركة، وفق سبنس، أهمية كبرى خاصة عند رؤية المواد الغذائية، وهي تتحرك كالجبنة المذابة السائلة والعجين وهو يتضاعف حجمه والكريما التي تتحول من سائل إلى مزيج متماسك، وهي تغطي قوالب الحلوى بطريقة شهية.
عوالم مبهجة
هكذا تقدم عروض الطبخ نافذة على عوالم مبهجة تتسم بالصورة المثالية، لذلك ليس من المستغرب اللجوء إلى مشاهدتها عندما تكون الضغوط النفسية كبيرة، وعندما نشعر بالفوضى والتوتر في حياتنا، إذ قد يكون من المريح مشاهدة عروض كهذه، حيث يكون كل شيء دقيقًا ومنسقًا ويمكن تنفيذه بسهولة، على ما يبدو، بحيث يتفوق هذا الاختيار على مشاهدة برامج وأفلام أخرى يمكنها أن تستنزف طاقاتنا العقلية وتتطلب منّا التركيز على تقلبات الحبكة المعقدة.
كما أن الناس يسعون إلى مشاهدتها لنفس الأسباب التي يحبون فيها مشاهدة عروض تصميم المنزل، حيث يمكن لـ «المشروع» كله أن يكتمل على مدار ساعة أو نصف ساعة، بحيث يعطي الشعور غير المباشر بالإنجاز. ومن جهة ثانية نظرًا إلى أن جميع عروض الطعام تتبع صيغة معيّنة تبدأ من تحضير المكونات، وصولًا إلى الطبق النهائي، فإنها تجعلها قابلة للتنبؤ، إذ من المتوقع أنه ستكون هناك نهاية سعيدة في شكل طبق طعام لذيذ شهي جاهز على الطاولة.
وإضافة إلى كل ذلك، فإن برامج الطبخ قد تعطي أملًا لمن لا يحبون الطبخ حين يصبح الاستمتاع بتجارب تحضير الطعام هذه على الشاشة بديلًا مرضيًا لكل مَن يشعر بأن الطهي معقّد بشكل محبط أو مضيعة للوقت أو مجرد عمل شاق، وأنه يتطلب مهارات صعبة المنال. وفي هذا الإطار، تقول الطبيبة المتخصصة في الطب النفسي أشويني نادكارني إن العديد من مرضاها عبّروا لها عن استمتاعهم بمشاهدة عروض الطهي بقولهم إنهم يعتبرونها مثيرة بالنسبة لهم، على الرغم من عدم اهتمامهم بالطبخ كممارسة فعلية، لأنها تجعلهم يؤمنون بإمكانية ما يمكن أن يكون.
ويمكن لشذرات الأمل الصغيرة هذه أن تمنع المخاوف من عدم تلبية المطالب المجتمعية من كون الأشخاص ليس لديهم مهارة تحضير الطعام اللذيذ، لا سيما السيدات منهم، ومن هنا تقول اختصاصية علم النفس الإكلينيكي ومؤلفة كتاب «التقدم بالعمر بفرح»، د. كارلا مانلي، إن برامج الطهي تخفف من الضغوط الاجتماعية عندما تدفع العقل إلى التخلص من الضغط والتوتر، وتقول: «لا يمكنني فعل ذلك اليوم، لكنني سأفعل ذلك يومًا ما».
لكل هذه الأسباب كان هذا الرواج الكبير لبرامج الطهي حول العالم، لا سيما في العقود القليلة الماضية، ولهذه الأسباب تطورت برامج الطهي واستمرت مع مرور الزمن، وانتقلت من كونها عروضًا تقدّم الإرشادات التعليمية المباشرة حول كيفية تحضير الطعام إلى عروض تقدم تجربة تعليمية - ترفيهية متكاملة، وتفتح نافذة هروب مسلية من الواقع ■