«برونز وعبّاد الشمس» ترنيمة المحبة والشقاء

«برونز وعبّاد الشمس» ترنيمة المحبة والشقاء

ربما يكون عنوان الرواية محايدًا لا ينبئ عن موضوعها أو أجوائها، فهو مجرد اسمَي بطلَي العمل «برونز وعباد الشمس»، لكن الإهداء هو ما يدخلك في عمق الموضوع الروائي، وهي حالة نادرة أن يكون الإهداء مدخلًا من مداخل فهم العمل الأدبي، يقول الكاتب «إلى الذين كانت دروبهم صعبة ولاقوا المعاناة في سبيل العيش، وإلى أبنائهم وأحفادهم، أهدي هذا العمل». صدرت الطبعة العربية من رواية برونز وعباد الشمس للكاتب الصيني تساو ون شيوان الحائز على جائزة أندرسن العالمية لأدب الأطفال عام 2021 عن بيت الحكمة للاستثمارات الثقافية في القاهرة، بترجمة رنا عبده. وتفكيك إهداء هذه الرواية يشير إلى الكثير من شخصياتها وأحداثها ومعانيها.

 

كل أبطال العمل بلا استثناء كانت دروبهم صعبة، بل غاية في الصعوبة والمشقة والمعاناة، بداية من الطفلة «عبّاد الشمس» ذات السنوات السبع يتيمة الأم، والتي فقدت أباها أيضًا في حادث غرق، وهو يعمل بقرية القمح بعيدًا عن مدينته، فيضطر زملاؤه إلى أن يطلبوا من أسر القرية تبني الطفلة التي لم يعد لها أحد، ويتصارع على تبنّي الطفلة الجميلة أفقر أسرة في القرية؛ أسرة الطفل برونز الأخرس، وأغنى أسرة في القرية؛ أسرة الطفل «قا يوي»، لكنّ الطفلة تختار الأسرة الفقيرة، لأن لديها تجربة مع كل من الولدين، قا يوي كان سيتسبب في غرقها لمجرد أن يلعب ويضحك، وبرونز هو الذي أنقذها.
البطل الثاني للعمل «برونز» هو أيضًا دروبه صعبة لدرجة شديدة القتامة، فلم يولد بحالة الخرس، لكن حادثًا مرعبًا تسبب له فيها، فأصبح وحيدًا شبه منبوذ، رغم طيبته وذكائه.
أسرة برونز تعيش طوال حياتها في الفقر، كل همها تدبير قوت اليوم، وإذا استطاعت أن تدبر ما يكفي لدخول ابنها المدرسة تشعر بأنها حققت المستحيل.
كل أهالي قرية القمح يعيشون حياة صعبة شبه معدمة، يشقون ويكدحون للبقاء على قيد الحياة والأمل، بل إن أغنى أسرة في القرية مصدر غناها أنها تمتلك سربًا كبيرًا من البط لا أكثر، ومعظم بيوت القرية عبارة عن عشش من القش، تعاني القرية حتى عناصر الطبيعة؛ الفيضان، والجفاف، والجراد، إضافة إلى الحرائق الكبيرة.

سعادة ملونة
كل هذه المعاناة فقط «في سبيل العيش»، كما يقول الإهداء، البقاء أحياء وعدم الموت جوعًا، لكن هل هذه هي فقط حياتهم؟ ما الذي يجعلهم يستمرون في مثل هذه الحياة، أمجرّد الرغبة في البقاء؟
بالتأكيد لا، فإذا كانت حياة أهل قرية القمح جميعًا تتسم بالمعاناة والشقاء وشظف العيش، لكنّ بها طيفًا من سعادة ملونة، وترنيمة موسيقى علوية حلوة، ألا وهي الحب والتعاطف الإنساني.
ففي المصائب يتعاون الجميع حتى إنهم يقسمون الطعام بين بعضهم البعض، وعندما تختفي عباد الشمس - أو برونز- لأي سبب، تبحث القرية كلها عنهما، وعندما يأتي أهل المدينة لاسترداد عباد الشمس يقف لهم أهل القرية جميعًا ويرفضون أخذها بقوة السلطة، ثم يوافقون عند إقناعهم بأن هذا في صالح مستقبلها. وأسرة برونز، الأب والأم والجدة وبرونز نفسه، يقترون على أنفسهم، ويعملون في عدة أعمال، لكي تدخل عباد الشمس المدرسة بالنقود التي ادّخروها من أجل ابنهم، يؤثرها برونز على نفسه، ويعملون جميعًا من أجل محبتها، فتبادلهم الطفلة حبًّا بحب، حتى إنها تعمل في هذه السن الصغيرة كأنها شخص كبير، وتقوم بمغامرات مهلكة حتى تساعدهم ولا تكون عالة عليهم بشكل كلي. 

مشاعر صافية 
أما قصة الحب الرائعة بين برونز وعباد الشمس فهي أسطورة لا تُنسى، من أول لقاء اعتبر نفسه الأخ الأكبر لها، وجعل من نفسه مسؤولًا عنها وحاميًا لها ومنفذًا لكل ما تتمناه، وهي شعرت به الأخ التي تتمناه وتحبه وتعمل كل ما تستطيع ليكون راضيًا عنها. حتى الفتى المشاغب قا يوي ووالده البخيل سليط اللسان، عندما تتأزم المواقف يظهر معدنهم الطيب، فيرسلون بطتين إلى أسرة برونز تساعدهم على البقاء؛ أسرة برونز ترى أن واحدة تكفي وتعيد الثانية. وكذلك يساعد قا يوي كلًّا من برونز وعباد الشمس في الاختباء من أهل المدينة عندما يأتون لاسترداد عباد الشمس.
هذه المحبة الغامرة، والمشاعر الصافية البسيطة؛ هي التي تستحق الحياة أن تعاش لأجلها، وهي الشيء الوحيد الذي كان متوافرًا بكثرة في قرية القمح.
بقية الإهداء إلى «الأبناء والأحفاد»، تشير إلى زمن الرواية في ستينيات القرن الماضي، كما تشير إلى أهمية أن تعرف الأجيال الجديدة ما عاناه السابقون ليوصلوهم إلى ما هم عليه الآن، إذًا لا بدّ أن عباد الشمس الذكية المجتهدة بعدما ذهبت إلى المدينة تفوقت، ووصلت إلى مستوى علمي ووظيفي أفضل بكثير، وحققت لأبنائها ما لم يحلم به برونز وأسرته وكل قرية القمح، مما يوفر لهؤلاء الأبناء ثم الأحفاد مستوى معيشيًّا أرقى، ويتطور باستمرار، كأنه حال الصين نفسها التي ترفض أن تستسلم للظروف الصعبة، وتصرّ على الكفاح، واضعة نصب عينيها تحقيق المستحيل في المستقبل القريب أو البعيد.

أسلوب ساحر
للكاتب أسلوب ساحر في الاستحواذ على عقل وقلب القارئ، باستخدام لغة بسيطة، بها بعض الغنائية المحببة، وبالحديث الدافئ عن تفاصيل الحياة اليومية للشخصيات، وأفكارها ومشاعرها، والأهم من ذلك خيط المحبة المتين الذي يربط الشخصيات بعضها ببعض، ويسري في نهر الرواية رقراقًا ملونًا، فتتعجب من تلك المشاعر النبيلة التي تحملها قلوب هؤلاء البسطاء؛ القدرة على الكفاح، والصبر، والحلم، والأمل، والعطاء بلا حدود، والمحبة غير المشروطة، حتى إن الصراع في كثير من أجزاء الرواية يكون بين الشخصيات حول أيّهم يعطي أكثر، ويعبّر عن محبته أفضل.
 كما تدهشك قدرة البسطاء المعدمين على التحايل على ظروفهم في سبيل تحقيق ما يرغبون فيه. فعباد الشمس تدخل المدرسة، وبرونز لا يدخلها رغم رغبته في التعلّم، لكن ليس لديهم نقود لدخوله، فتقوم عباد الشمس بتعليم برونز كل ما تتعلمه في المدرسة أولًا فأولًا. وعباد الشمس تريد أن تكتب الواجبات المدرسية ليلًا، لكن الأسرة ليس لديها مصباح، وليست قادرة على توفير تكلفة الغاز، فيقوم برونز بصيد اليراعات المضيئة ووضعها في زهرة اليقطين، ليصنع لأخته عشرة مصابيح تحيل الليل إلى نهار. وعندما تريد عباد الشمس أن تشاهد السيرك الذي لا يأتي إلى تلك المناطق النائية سوى مرة كل عدة سنوات، يحملها فوق كتفيه ويقف مدة طويلة لكي تشاهد بينما هو نفسه لا يستطيع المشاهدة بسبب الزحام الشديد. وعندما تتعمد عباد الشمس الرسوب في الامتحانات لتوافق الأسرة على تركها المدرسة، لتخفف عنهم عبء مصاريفها، تقوم الجدة التي تعاني مرضًا شديدًا، وتتحامل على نفسها، وتذهب إلى مدير المدرسة ليعيد امتحان عباد الشمس. وعشرات القصص والتفاصيل التي تعبّر عن الحب الذي يدفع العقل إلى التفكير غير المألوف لتحقيق المراد.

رواية دائرية
الرواية دائرية، ففي الفصول الأولى نرى دخول أهل المدينة إلى المنطقة القريبة من قرية القمح، ثم تعارفهم مع أهل القرية، وتبني أسرة برونز لعباد الشمس، ثم يغادر أهل المدينة المنطقة، ويعودون بعد ذلك ليأخذوا عباد الشمس معهم. كذلك نرى في الفصول الأولى كيف أصيب برونز بالخرس إثر رعبه من حريق هائل دمّر القرية، ثم تنتهي الرواية بحزنه الشديد على ذهاب عباد الشمس إلى المدينة، والذي يسبّب له ألمًا لا يقل عمّا سببه له الحريق، فيعود إليه صوته وهو ينادي بكل ما أوتي من قوة «عباد الشمس... عباد الشمس».
يأتي ذكر قرية الكتان أكثر من مرة في هذه الرواية، وهي القرية التي دارت فيها أحداث رواية بيت من القش للكاتب نفسه، التي تدور في الفترة الزمنية نفسها أيضًا، حتى إن بعض الشخصيات والأحداث نجدها هي نفسها في الروايتين، مثل الأب الذي يقسو على ابنه، لأن زوجته تركته وذهبت مع رجل يغني في الأوبرا، لأن الزوج لم يفِ لها بوعده أن يبني لها ثلاثة منازل من القش، وبعد أن يقوم الأب والابن بتجميع ثلاث كومات كبيرة من القش تقضي عليها النيران. وكأن الكاتب يستقي الروايتين من مَعين الذكريات نفسه، وهما معًا تكونان حالة واحدة من الكفاح والمحبة والأمل.

ارتباك
  رغم كل ما في الرواية من عمق ودفء وجمال ومحبة، فإن القارئ المدقق يجد بها بعض الارتباك في استخدام الراوي، فمنذ البداية يعتقد القارئ أن من يحكي له الرواية هو صوت الراوي العليم، والذي يمثّل صوت الكاتب نفسه بشكل ما، لكنه يلاحظ في أماكن متفرقة من الرواية ظهور راوٍ آخر يستخدم ضمائر حكي مختلفة، ويكون هذا الظهور بلا مبرّر فني، بل إنه يربك المتلقي، إذ يتوقف القارئ عن القراءة ويسأل نفسه: مَن الذي يحكي هنا؟ ومن أي وجهة نظر يتم تقديم الرواية لي؟ ففي صفحة 105 يقول الراوي: «قالت أمي وأبي»، فتحول بذلك إلى راوٍ مشارك بلا سبب فني، وهو كراوٍ عليم كان يجب أن يقول: «قالت الأم والأب». كما يقول الراوي بلا مبرر «لا أعرف» أو «لا أعلم» في فقرات كثيرة من الرواية مثل ص 126، وص 128، وص 288، وغيرها. 
وفي ص 271 يقول الراوي: «فأجابها أبي»، كأن برونز هو الذي يحكي، وفي ص 279 يتحدث بضمير الجمع (طلب منّا)... إلخ.
هذه فقط بعض الأمثلة المربكة، فطبيعة الراوي هي التي تحدد طبيعة عقد التلقي مع القارئ، وإذا كان الراوي غير منضبط وغير واضح في ذهن الكاتب، فسيؤدي بالتأكيد إلى خلل قرائي يشوّش المتلقي. ومع ذلك فإن هذه الرواية من القوة بحيث لا تجعلك هذه الملاحظة الخاصة بالراوي على أهميتها الشديدة تترك الرواية ولا تكملها، بل سينجرف قلبك مع تيار المحبة الدافق بين شخصيات العمل، مغلفًا بعطف شديد عليهم لما يعانونه من مصاعب تكالبت عليهم فيها قوى الواقع مع الفقر وقوى الطبيعة، لكنهم يقاومون، ليصلوا إلى مستقبل أفضل، وهذا هو المغزى الإنساني المهم من وجودنا على هذه الأرض ■