لماذا لم نتعلم من دروس أزمة الغزو العراقي للكويت؟
انقسم العرب في تشخيص الأزمة. وانقسموا في أسلوب علاجها فكيف يمكن الاستفادة من دروسها؟ خلال نصف القرن الماضي، انخرطت جماعات أو مجتمعات أو دول إسلامية في 54 صراعا عنيفا. بعض هذه الصراعات انطفأ بسرعة نسبية، وبعضها الآخر لم ينته حتى الآن. وترك كل منها ميراثا من الآلام والخسائر الإنسانية تراوح في الضخامة والشدة بين ما تم نسيانه بسرعة وما ظلت ذكراه تلهب الوجدان. ولكن حقيقة أساسية تبرز بوضوح من خريطة هذه الصراعات، وهي أن نحو نصفها ـ 26 صراعا ـ قد وقع بين مسلمين وغير مسلمين، بينما شمل الباقي خليطا من المسلمين وغير المسلمين على جانبي الصراع. وتظهر تلك الحقيقة بقدر أكبر من الوضوح بالنسبة للصراعات التي خاضها العرب، فأغلبية الصراعات والحروب وقعت داخل دول عربية، وقليل منها وقع بين دول عربية. ويرتبط بذلك حقيقة تابعة، وهي أن العرب والمسلمين كانوا الطرف الأضعف في الصراعات التي خاضوها مع غيرهم دفاعا أو طلبا لحقوقهم التاريخية أو ردا للظلم الواقع عليهم. فالضعف الذي نتج عن الصراعات الداخلية والحروب الأهلية هد الجسم العربي هدا شديدا، وهو ما جعل العرب عاجزين عن خوض الكفاح من أجل استرداد حقوقهم بفعالية. وتفسر هذه الحقيقة الأخيرة إلى حد كبير المفارقة الكامنة في عجز العرب ـ بكثرتهم العددية ـ عن إلحاق هزيمة حاسمة بإسرائيل أو استرداد حقوقهم المسلوبة من خلال الكفاح الفعال ضد هذه الدولة ـ المعسكر، أو هذا المجتمع الاستعماري الاستيطاني الإحلالي والعدواني. والواقع أن هذه الحقائق لا تخرج كثيرا عن الدروس الأساسية للتاريخ العربي ـ الإسلامي. فالصراعات والحروب الأهلية العنيفة والممتدة هي التي مهدت للتدهور والضعف طويل المدى للحضارة العربية ـ الإسلامية، وجعلتها منكشفة أمام شتى صور العدوان والاستعمار. ولم تكن تلك الدروس ببعيدة عن العرب والمسلمين المعاصرين عموما، أو عن القيادة العراقية التي أقدمت على غزو الكويت عام 1990، مسببة بذلك واحدة من أشد الكوارث التي ألمت بالعرب في تاريخهم كله. والآن، وبعد عقد كامل من انفجار هذه الكارثة، لا يبدو مطلقا أن العرب قد استوعبوا الدروس المؤلمة لهذا الغزو وما ترتب عليه من حرب ضارية وممتدة، حتى الآن. لقد انقسم العرب في تشخيصهم لأزمة الخليج الثانية بأسبابها وتداعياتها المباشرة. ومازالت بعض مظاهر الانقسام والخلاف قائمة في الفكر والممارسة السياسية على السواء. ونحن لا ننوي الدخول في مناظرات جديدة حول المواقف. إذ أصبح لدينا حصيلة من الدروس التي توصل إليها الفكر العربي بشتى تياراته، وهي حصيلة كافية لتبين المفارقة التي نقف أمامها الآن، ويتعين علينا فهمها وتفسيرها تفسيرا كافيا. من أهم تلك الدروس المتفق عليها بين شتى تيارات الفكر السياسي العربي ضرورة عصرنة وتحديث النظام العربي وتقويته. ونعني بمصطلح النظام العربي المبادىء والتطبيقات التي تحكم الروابط بين الدول والشعوب العربية. التكامل المفقود فمن المسلم به أن العرب مؤهلون موضوعيا أكثر من غيرهم لتكوين رابطة أو جماعة قـوية تصل بهم إلى درجة التكامل ثم الوحدة. فحـتى الذين لا يسلمون بوجود قومية أو أمة عربية واحدة متكاملة الأركان لا يختلفون في عمق الميراث المشترك والروابط التي تصل بين الشعوب العربية. وعلى نفس الدرجة من الأهمية ما هو حاصل من اتفاق الآراء على أفضلية التجمعات والوحدات الاقتصادية والسياسية الكبيرة في عصرنا. فإذا كانت الدول الغنية والمتقدمة أصلا تعمل بنشاط على التكامل والاندماج وتكوين وحدات أو تكتلات اقتصادية وسياسية عملاقة، فإن من واجب الدول والمجتمعات الأقل تقدما وقوة ـ من باب أولى ـ أن تعمل في نفس الاتجاه. وتضاعف تحديات التنمية والدفاع ورد العدوان الخارجي ـ وبالأخص العدوان الصهيوني ـ من ضرورة هذه المهمة بالنسبة للعرب. وتنقسم مهمة التكامل والاندماج إلى شقين: سلبي وإيجابي. ففي الشق السلبي لابد من ضمان استقرار سلام عربي شامل، وهو ما أخذ به الميثاق الحالي لجامعة الدول العربية، من ضرورة حل الخلافات بين الدول الأعضاء بالوسائل السلمية. أما الشق الإيجابي فيتعلق بمشروعات عديدة تشمل التكامل الاقتصادي، وتنسيق السياسات الخارجية وصولاً إلى توحيدها، والربط والتنسيق بين شتى النظم الفرعية الداخلية فيما بين الأقطار العربية بالتدريج، وصولا إلى الاندماج. ولاشك أن تنسيق السياسات الدفاعية والعمل بنشاط على الأخذ بمبدأ الدفاع المشترك يشكل جانباً مهماً من أي عملية جادة لبناء وعصرنة النظام العربي. غير أن خصوصية النظام العربي تضاعف من التأكيد على فكرة برهنت عليها الخبرة العالمية. ذلك أن هناك علاقة تبادلية بين حل الصراعات فيما بين الدول العربية حلاً سلمياً من ناحية، وتحقيق التكامل من خلال نظام عربي فعال من ناحية أخرى. فالحل السلمي للنزاعات والصراعات يوفر مناخاً ملائماً من الثقة المتبادلة اللازمة للتكامل. ولكن التكامل نفسه قد يكون أمراً حاسماً لإحداث قطيعة نهائية مع شتى ضروب النزاع والصراع. وكانت هذه الفكرة الأخيرة هي المنطلق الذي أخذت به تجربة الوحدة الأوربية، وهي أكثر تجارب التكامل نجاحاً فيما بعد الحرب العالمية الثانية. والواقع أن النظام العربي لم يأخذ بمبدأ حل الصراعات بصورة سلمية فحسب، بل إنه تشدد في المطالبة باستبعاد أي وجه من وجوه التهديد، حتى ولو بمجرد الشبهة، كما أنه طالب الدول العربية قاطبة بألا تتخذ مبادرات انفرادية نحو العالم الخارجي يكون من شأنها التأثير سلبا في أمن ودفاعات الدول العربية الأخرى. وخلال عقد الثمانينيات سجلت هذه المبادئ في وثائق شتى، ربما يكون من أهمها بروتوكول ضوابط العمل العربي المشترك. فطالب هذا البروتوكول الدول الأعضاء في الجامعة بألا تقيم على أراضيها قواعد أجنبية أو تسهيلات عسكرية لدول أجنبية أو تسمح بعمل منظمات إرهابية من أراضيها لتهديد الدول الأخرى.. الخ، كما أنه طالب الدول العربية بألا تبادر بشن حروب أو قرارات استراتيجية مماثلة على الدول غير العربية دون مشورة الدول العربية الأخرى. صاعقة على الضمير العربي ولكن هذا المبدأ العام وما يستتبعه من مبادئ وضوابط قد بدا معزولا عن عمل تكاملي وتنسيقي نشط في شتى المجالات. ومن ثم فإنه ظل واحدا من المبادئ التجريدية التي لا يملك النظام العربي قوة كافية لتطبيقها. ولم يكن ذلك يبدو ضروريا خلال عقد الثمانينيات أو العقود السابقة، إلا في عقول الخبراء والحكماء. فالتهديدات والنزاعات فيما بين الدول العربية كانت جزئية للغاية، حتى مع وجود الخلافات السياسية والأيديولوجية. وكان من المسلم به أن الدول العربية سوف تحترم هذا المبدأ إلى حد كبير، وأنها لن تتمادى في تصعيد النزاعات والصراعات إلى حد تهديد وجود الدول الأخرى، حتى حدث ذلك بالفعل في بداية أغسطس عام 1990 عندما قام العراق بغزو الكويت. ولذلك وقع هذا العدوان وقع الصاعقة على الضمير العربي. وعندها فقط ظهرت للكافة الصلة الأساسية بين ضعف النظام العربي، ووقوع الغزو، ثم العجز عن ردعه وإنهائه في إطار الجامعة العربية أو غيرها من مؤسسات وروابط النظام العربي. لقد أدى هذا "الاكتشاف" إلى المطالبة بإصلاح النظام العربي وتقويته وتحديثه بوسائل ومضامين شتى. وشملت الاقتراحات تبني مشروع الميثاق الجديد لجامعة الدول العربية، وبصورة خاصة جعل مؤسسة القمةالعربية ركنا ثابتا للنظام العربي، وتأسيس مجلس لرؤساء الوزارات العربية لضمان التنسيق بين السياسات الخارجية، وتقوية الأمانة العامة للجامعة، وتقوية ومأسسة فكرة الدفاع العربي المشترك بآليات ملموسة وقوية، والتحرك بفعالية على طريق تطبيق المواثيق والاتفاقيات الخاصة بالتكامل الاقتصادي، واعطاء عمق مؤسسي حقيقي لمبدأ فض المنازعات بصورة سلمية من خلال محكمة عدل عربية وميثاق للشرف أو بروتوكول ضوابط.. الخ. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث. بل إن ما حدث بعد نهاية حرب تحرير الكويت هو العكس تماماً. فتم تجميد النظام العربي. ولم تتحرك الجامعة العربية خطوة واحدة إلى الأمام، وإنما أخذت خطوات عديدة إلى الخلف، وانكفأت معظم الدول العربية على ذاتها. وزاد التباعد بينها.وتوسعت رقعة الخلاف فيما يتعلق بأمس وأخطر قضايا الأمن، وخاصة في مجال الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وقضايا أمن الخليج ذاته. ومن بين أهم الاقتراحات الخاصة بعصرنة وتقوية النظام العربي تمكين الشعوب العربية من التعبير عن نفسها داخل الجامعة العربية إن من خلال جمعية عمومية لممثلي هذه الشعوب، أو إيجاد إطار للجمع بين المفكرين والمثقفين العرب وتقوية دورهم عبر نظام الجامعة. لقد عكس هذا الاقتراح أهم ثاني الدروس البارزة من انفجار أزمة الخليج الثانية، أي ضرورة الديمقراطية وإقرار التعددية والحريات العامة. فالحقيقة هي أنه لم يكن هناك أي التباس حول الصلة بين الخطأ السياسي والاستراتيجي الخطير الكامن في قرار غزو الكويت، والطابع الاستبدادي العنيف للنظام الصدامي في العراق. ولم يكن هذا الغزو هو المناسبة الأولى التي تظهر فيها هذه الصلة بجلاء لا يقبل المناقشة. فهذا الخطأ نفسه ارتكبته نفس العظمة الاستبدادية في العراق عندما أقدمت على غزو إيران عام 1980. وقد بين مئات من الكتاب والحكماء خطأ الاصطدام العسكري مع ثورة شعبية وعقيدية في بداياتها، كما نبهوا إلى حقيقة أن إيران ثلاثة أضعاف العراق من حيث السكان والقدرات الاستراتيجية، هذا ناهيك عن الخطأ الأخلاقي الكامن في تفضيل استخدام القوة العسكرية لتسوية نزاع سياسي أو إقليمي مع دولة إسلامية جار ورفيق تاريخي للعرب أثناء لحظة من لحظات الضعف المؤقتة. خسائر فادحة ولم يكن يتصور عقل حصيف أو خبير بالواقع السياسي المعاصر أن تمر عملية غزو الكويت دون وقوع حرب تشارك فيها عشرات من دول العالم انطلاقا من المبدأ أو المصلحة. وإضافة للجرم الأخلاقي الكامن في غزو قطر عربي شقيق وقف بقوة مع العراق أثناء أزمته الناشئة عن الخطأ الأول، فإنه: أي الغزو، مثل الاتجاه المعاكس تماما لما كان يحتاج إليه الشعب العراقي في هذا الوقت تحديدا. فقد تسببت حرب الخليج الأولى في مقتل وإصابة ما يصل إلى نصف مليون إنسان على الجانبين. كما قدرت خسائرها بنحو نصف تريليون دولار، أو أكثر. وبعد نحو ثماني سنوات من الحرب المتواصلة وصل الشعبان العراقي والإيراني إلى قاع الضعف والإرهاق. ومن ثم، فإن توافر الحد الأدنى من حرية التعبير والمشورة ـ ناهيك عن التعددية والديمقراطية ـ كان لابد وأن يعكـس الشعور الشعبي المضاد لأي مغامرات خارجية أو حـروب أخرى. لقد ولد قرار الحرب في أتون الديكتاتورية والاستبداد. كما أن هذا السبب نفسه كان وراء مآسٍ ومصائب لا حدود لها ألمت بالشعب والمجتمع العراقي من الداخل، بعد عقود من ممارسة قسوة لا حدود لها شملت عمليات للتهجير الإجباري، والتصفية الجسدية لآلاف من المعارضين وأصحاب الفكر المستقبلي، والفرز وإعادة التسكين العرقي، والحرب الأهلية.. إلخ. إن عددا قليلاً آخر من المجتمعات العربية قد شهد تجارب مماثلة في قسوتها بسبب فقدان الديمقراطية الداخلية. ولكن جميع الدول العربية تقريبا كانت قد عانت من غياب الديمقراطية، وإن بمظاهر أخف وطأة وأقل تدميرا. بل إن عددا كبيرا من الدول العربية كان ـ قبيل أزمة الخليج ـ يستعد أو يطبق فعلا إجراءات معينة للاستجابة للمطالب الديمقراطية والانفتاح السياسي الداخلي. وضاعف انفجار تلك الأزمة من شدة الشعور بضرورة الإصلاح الديمقراطي لنظم الحكم العربية. ولكن بعد عقد كامل من انفجار الأزمة، تبدو معظم نظم الحكم هذه أقل ديمقراطية مما كانت عليه قبل انفجار الأزمة. وسار بعضها على طريق الانفتاح السياسي الداخلي مشوارا أقصر كثيرا مما كان يبدو ممكنا وضروريا في ذلك الوقت. وفشل العرب في استيعاب ثاني أهم دروس أزمة الخليج الثانية. أين مشروع النهضة? كشفت أزمة الخليج الثانية عن درس ثالث أكثر اتساعا وعمومية من الدرسين السابقين وهو الحاجة لإصلاح عميق للثقافة السياسية العربية. إن العقلانية كانت وستظل جوهر هذا الإصلاح الثقافي. لقد ناضلت أجيال متعاقبة من المفكرين والحكماء العرب لتحقيق إصلاح ثقافي جذري من خلال تسييد العقل والعلم. وصاغوا هذا الطلب الجوهري في مشروع شبه متكامل للتنوير والنهضة. ولم يكن صحيحاً على الإطلاق أنهم أهملوا أو همشوا الخصوصية أو الهوية العربية. بل قام مشروعهم تحديدا على المزاوجة بين أفضل الإنجازات العقلية ـ ذات البعد الكوني والجذور الضاربة في شتى الحضارات ـ للغرب، مع أفضل الإنجازات الثقافية والفكرية والعلمية للحضارة الإسلامـية، وخاصة في القرن الرابع الهجري. كما أنهم أثبتوا زيف الادعاء بوجود صدام أو تناقض بين الدين الإسلامي الحنيف والميول الأعمق في التاريخ والحضارة العربية أو الهوية العربية ـ العربية الإسلامية من ناحية ومبادىء العقلانية والمعرفة العلمية التي نهض مشروع الحداثة على أساس منها من ناحية ثانية، وقبيل أزمة غزو الكويت، بدا أن الثقافة السياسية العربية على استعداد للقبول ولتمثل امتصاص فكرة العقلانية، من خلال إعادة تأسيس التعاون على أساس من المصالح والحصافة والاعتدال والأخذ بنتائج البحوث والجهود العلمية. ولكن الغزو العراقي للكويت كشف الغطاء عن عمق الخلل في الثقافة السياسية العربية، وافتقارها للعقلانية والحداثة. وقد أوضحنا من قبل كيف أن قرار غزو الكويت ـ وقرار غزو إيران قبله بعشر سنوات ـ قد نشأ على قاعدة ذهنية تفتقر كلية للحصافة والعقلانية وأبسط مبادئ الحساب الإستراتيجي والسياسي، وقد أدرك كثير من المفكرين والحكماء العرب هذه الحقيقة. كما أدركوا أن الخطأ الجسيم في حسابات القيادة العراقية لم يكن سوى تعبير غاية في التدني عن ظاهرة ثقافية عامة تكشف عن نفسها في دول عربية كثيرة. ومن ثم فإن عصرنة وعقلنة الثقافة السياسية العربية بدت بوضوح أحد أهم أبعاد عملية التجاوز الجذري للظروف التي أنتجت قرار الغزو والأزمة. ولكن بعد مرور عقد كامل على الغزو العراقي للكويت، تظهر الثقافة السياسية العربية وكأنها فشلت تماما في استيعاب هذا الدرس. كما أن الحياة السياسية العربية تشهد تضاعف وتكاثر تضاعيف وتداعيات الخلل الثقافي الكامن في الافتقار إلى العقلانية والقبول بمشروع الحداثة. ولهذا السبب تحديدا أكثر من غيره صارت المجتمعات العربية أكثر ضعفا وهوانا الآن عما كانت عليه، حتى قبيل لحظة الغزو. فإضافة إلى خسائر الغزو والأزمة والتي قدرت بنحو ستمائة مليار دولار، مازالت الموارد العربية تهدر في مشتريات السلاح، وتمويل أجهزة الأمن الداخلي الجبارة. وانفجرت عدة حروب أهلية ضروس في السودان واليمن والجزائر والصومال، وزادت التبعية الاقتصادية شدة واتساعا وكثافة في شتى الفروع بما في ذلك الأمن الغذائي عدة مرات، واستمر هروب رءوس الأموال خارج الوطن العربي، وتضاعف مدى عدم الاستقرار السياسي في عديد من الأقطار العربية، وتمزقت المجتمعات العربية في عدد كبير من الدول العربية، في الوقت الذي زاد فيه العرب والمسلمون مهانة وهوناً في النظام الدولي، واتسعت الفجوة الفاصلة في مستويات التطور بين العرب والعالم. وتعد المنطقة العربية ثانية أسوأ مناطق العالم من حيث الأداء الاقتصادي في العالم ـ بعد إفريقيا جنوب الصحراء ـ خلال العقد الماضي كله. وفي الوقت الذي كان العرب في مسيس الحاجة لمواصلة النضال ضد إسرائيل من أجل استعادة حقوقهم التاريخية، كان المواطنون العرب يقتلون قتلاً عشوائيا ـ ودون تفسير محدد ـ سواء على أيدى جماعات الإرهاب في الجزائر وبلاد عربية أخرى، أو على ايدي حكوماتهم ذاتها. لقد فشل العرب أكثر من أي لحظة سابقة في تاريخهم في مقابلة التحدي الحضاري في الداخل والخارج، وفي استيعاب أفكار العقلانية والعلم والحداثة. لماذا لم نستوعب الدروس? والآن لابد من كلمات موجزة في محاولة الإجابة عن السؤال الكبير: لماذا فشل العرب في استيعاب دروس أزمة غزو الكويت وما سبقها وما لحقها من أزمات؟ ولكن قبل محاولة تلمس إجابة عن هذا السؤال، لابد من طرح سؤال سابق عليه ألح على عشرات من علماء التاريخ العرب والأجانب، وهو: هل يتعلم أحد من دروس التاريخ؟ ينقسم علماء التاريخ حول هذا السؤال إلى فريقين: الأول، يرى أن التاريخ العالمي، والتاريخ القومي "بالجمع" لعشرات من الأمم القديمة والحديثة حافل بنماذج وأحداث تكرار أخطاء الأولين. ويعني ذلك بكل بساطة أن فكرة التعلم تجريدية، ونادراً ما تتحقق في الواقع. بل ويذهب بعض فلاسفة التاريخ والعلوم الاجتماعية إلى القول بوجود دورة أو دورات تاريخية، وخاصة فيما يتعلق بالعنف السياسي. وقد تكون تلك الاعتراضات صحيحة، ولكن بالنسبة لممارسة محددة، وهي قياس قرار ما أو فعل سياسي ما على قرار أو فعل استراتيجي أو سياسي سابق عليه، إن هذا القياس يشكل جوهر ما يسمى بالنزعة التاريخانية التي اضمحلت بتأثير الهجوم المستمر عليها من جانب فلاسفة التاريخ والعلوم. غير أننا اذا استبعدنا القياس، فثمة فرصة كبيرة للتعلم من التاريخ. ومن دون التعلم لا يحدث أي تقدم، بل إن التاريخ والحياة عموما هما نتاج للتعلم المستمر. غير أن التعلم ليس مجرد عملية ذهنية أو حتى ثقافية، برغم أهمية هذا المستوى لحدوث التعلم الخلاق أو المبدع الذي يتجاوز القياس وينطلق لإعادة تكوين الموقف التاريخي. فالتعلم له مستوى آخر تماماً، ومن دونه لا يحدث استيعاب لدروس الماضي، ونعني تحديدا مستوى الممارسة النقدية. وما حدث بعد أزمة الخليج هو التعطيل العمدي للممارسة النقدية على مختلف المستويات، بل إن ما حدث في الحقيقة هو التعلم العكسي. فعلى المستوى العربي العام، لجأت مختلف أطراف الصراع في أزمة الخليج إلى (تكميش) صلتها بالنظام العربي وإضعافه. وتضاعف الانبهار بالقوة كمنهج لتسوية الخلافات والنزاعات، حتى على المستوى المحلي، وبالتالي انكمشت الساحة السياسية الرسمية بأكثر مما كانت منكمشة. وحتى على مستوى الأزمة ذاتها، لم يتمكن أي طرف من تغيير توجهاته كتعبير عن استيعاب الدروس المؤلمة التي قادت إلى الغزو والحرب. بل وصارت القوة هي المنهج المعتمد في التعامل مع تداعيات الأزمة ونتائجها. لقد نشر أن الرئيس صدام حسين أجاب عن سؤال لأحد تلاميذ المدارس بخصوص الغزو قائلاً: "ماذا تفعل عندما ترسب في امتحان الدور الأول"؟ إن الإجابة الصريحة التي قدمها هو أن يدخل التلميذ امتحان الدور الثاني. ويعني ذلك أنه قد ينتهز أي فرصة تالية. وفي المقابل، فقد بالغت الولايات المتحدة والقوى العربية المناهضة في إلحاق العقاب بالعراق وعزله، وهو ما أضر بالشعب العراقي، وضاعف صعوبة تمكينه من تغيير نظامه السياسي الذي قاده إلى سلسلة من الكوارث الهائلة داخليا وخارجياً. لقد ظلت نفس القوى السياسية مهيمنة داخل الدول العربية، وداخل النظام الإقليمي والعالمي. ولذلك لم يحدث تعلم إيجابي، وسادت مناهج التعلم السلبي.