الصّورة الإيجابيّة للكوارث الطّبيعيّة في الأدب المملوكيّ

الصّورة الإيجابيّة  للكوارث الطّبيعيّة  في الأدب المملوكيّ

الكوارث الطّبيعيّة هي أضرار جسيمة تحدث نتيجة حدث طبيعيّ خطير، كالأعاصير والزّلازل والفيضانات وما إلى ذلك، وهي تغيّرات طبيعيّة تتأثّر بالمناخ والظّروف الطّبيعيّة والجغرافيّة المختلفة، وقد تكون رسائل إلهية للإنسان، كي يزيد من عنايته واهتمامه بالنِّعَم الموجودة على الأرض للحفاظ عليها؛ وربّما لا يكون الأمر كذلك، بل يتمّ وفقًا لقوانين التّغيير على سطح هذه الأرض.

 

وبما أنّ الأدب ينبثق من رحم الواقع المعيش، بكلّ أبعاده الاجتماعيّة والسّياسيّة، لذلك نجده يهرع إلى تسجيل الكوارث الاجتماعيّة، وتصويرها، فهو مرآة المجتمع، وأساسه الإنسان. وعلى الرّغم من كلّ الآلام والخيبات والخوف من الكوارث الطّبيعيّة، إلّا أنّها لا تزال تحمل في طيّاتها آثارًا إيجابيّة، نقلها لنا شعراء العصر المملوكيّ، الذين أضاؤوا على هذه الجوانب.
 تعرّف الكارثة في اللّغة العربيّة بأنّها من كرث، يقال كرثه الأمر ويكرِثه بالكسر ويكرُثه بالضم كرثًا، وأكرثه ساءه واشتد عليه وبلغ منه المشقة، وغمرة كارثة أي شديدة شاقة.
كما يُعرّف هذا المصطلح بأنّه الحدث المفاجئ والمؤسف جدًا الذي يصيب الكثير من الناس. والكوارث صنفان: منها ما هو طبيعيّ، أي لا علاقة للإنسان في حدوثها، كالزلازل والعواصف والفيضانات والبراكين؛ بالإضافة إلى الحوادث الأخرى التي قد تكون من فعل الإنسان عن قصد أو عن طريق الخطأ أو الإهمال، مثل حوادث الطّيران والسّفن والقطارات وتسرّب الغاز.
أمّا قاموس أكسفورد للّغة الإنجليزيّة، فيعرّف الكارثة على أنها: حدث يسبّب دمارًا واسعًا، ومعاناة عميقة وهو سوء حظّ عظيم.
الكارثة إذًا، هي اضطراب خطير يؤدي إلى دمار وتعطيل كبيرين في المجتمع. وهي إمّا طبيعيّة، من صنع الله، أو أنّ للإنسان دورًا في ظهورها؛ وكلاهما يسبّبان آثارًا مميتة.

إيجابيّات الكوارث
نتحدّث دائمًا عن السّلبيّات التي قد تنجم عن مثل هذه الحوادث، لكن لا نريد أن نغفل عن النّتائج الإيجابيّة التي تنتج عنها، سواء على المستوى البيئيّ، أو على المستوى الأدائيّ للفرد، وتطوير قدراته، أو على المستوى الدّينيّ والإيمانيّ الذي يوضّح علاقة الإنسان بربّه، إذ يذكّره بضعفه وعجزه ومحدوديّته، وأنّه مهما بلغت قدراته وإمكانيّاته، فهو عاجز أمام الكون وربّ الكون، فيتواضع لله بدلًا من الغطرسة والاستبداد، ويسلك طريق الاستقامة، ويعي أنّه عبد خاضع أمام عظمة الله عزّ وجلّ، فيُعدّ العدّة لملاقاة ربّه يوم القيامة، لأنّ ما حدث هو صورة معبّرة عمّا يحدث في هذا اليوم، للاستعداد لمواجهته، وهو ما أشار إليه تعالى في قوله: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾. (سورة الزّلزلة - الآية: 1 ــ 8).

العصر المملوكي والكوارث الطبيعية
تعدّ فترة الحكم المملوكيّ (1250-1517م) فترة حاسمة في التّاريخ العربيّ الإسلاميّ بشكل خاصّ والإنسانيّ بشكل عامّ، بسبب الأحداث العديدة التي حدثت فيها؛ كما كانت هذه البلاد مليئة بالعديد من السّلاطين الذين تركوا بصمة خالدة في التّاريخ، حيث تمكّن المماليك من بناء إمبراطوريّة ذات حدود واسعة، ومترامية الأطراف تسيطر على ممرّات وبحار وخلجان مهمّة، كان لها ثقل سياسيّ وعسكريّ في العصور الوسطى، إلّا أنّ هذه البلاد، في هذه الحقبة، قد شهدت أنواعًا مختلفة من الكوارث الطّبيعيّة، مثل الزّلازل والفيضانات والأمطار الغزيرة والثّلوج والصّقيع، وظهور أسراب من الجراد والفئران، بالإضافة إلى تفشّي الأوبئة والأمراض (كوارث بيولوجيّة).
أدّت هذه الكوارث إلى تدهور الزّراعة والصّناعة والتّجارة، وانخفاض حادّ في عدد السّكّان، ممّا أدّى إلى تدمير اقتصاد الدّولة المملوكيّة، وكان لحدوثها دور كبير في انعدام الأمن وعدم الاستقرار، ممّا ترك آثارًا نفسيّة شديدة، أثّرت سلبًا على المجتمع أخلاقيًا وسلوكيًّا، ممّا أدّى إلى تفكّك الرّوابط الاجتماعيّة داخل المدن، بالتّزامن مع وقوع الكارثة.
بلغت الكوارث التي ضربت بلاد الشّام، في العصر المملوكيّ، نحو مئة وستّ وخمسين كارثة، منها اثنتان وسبعون كارثة حلّت في بلاد الشّام في العصر المملوكيّ الأوّل (1250-1517م)، وأربع وثمانون كارثة حلّت في بلاد الشّام خلال العصر المملوكيّ الثّاني (1381-1516م).

شجاعة الشّعراء في التّصدّي للكارثة
لدى مطالعتنا لبعض قصائد الشّعر، في العصر المملوكيّ، يطالِعنا حرص الشّعراء على إظهار شجاعتهم، في تصدّيهم للكوارث الطّبيعيّة، فهم لا يهابون الموت، لأنّه أمر محتوم على كلّ إنسان، سواء أكانت منيّته قد آنت بسبب كارثة طبيعيّة، أم لسبب آخر؛ فهم يتقبّلونه. لذلك لم يزرع الشّعراء الهلع والتوتّر في نفوس أبناء الأمّة، بل عمدوا إلى نشر الطّمأنينة والثّقة باللّه، لمواجهة الخوف والقلق؛ وجاء في الشّعر المملوكيّ:   
نخاف ما لا بدّ من شربه
    على زمان هي من كسبه
نحو بنو الموت فما بالنا
    تبخل أيدينا بأرواحنا

الموتى شهداء
الموت هو الموقف الأكثر رعبًا الذي يمكن أن نواجهه على الإطلاق، لذا يُحجِم النّاس عن مواجهته، ويهربون منه ما داموا يستطيعون؛ فنرى النّاس تجزع من الكوارث الطّبيعيّة إن حلّت، خوفًا على أرواحهم. فما هو مصيرهم إن ماتوا؟ وهل سيرتقون إلى رتبة الشّهداء لما لاقوا من أهوال قبل مماتهم؟ 
أفادت الأحاديث الصّحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ من مات تحت أنقاض الأبنية بسبب زلزال أو فيضان أو غيره، فهو شهيد؛ ففي الحديث: «الشّهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد». (رواه مالك وأبو داود والنّسائي). 
وإنّما دخل المقتول تحت الأنقاض ضمن الشّهداء، لأنّ هذه الموتات - كما قال القاضي عيّاض - شهادة بتفضيل الله على أربابها، لشدّتها، وعظيم الألم فيها، فجازاهم الله على ذلك، بأن جعل لهم أجر الشّهداء، أو يحتمل أنّهم سمّوا بذلك لمشاهدتهم فيما قاسوا من الألم عند الموت وشدّته، ما أعدّ لهم كما أعدّ للشّهداء».
وقد وعى الشّعراء ذلك، فوصفوا الموتى في الزّلازل بالشّهداء، ولم يعدّوه غضبًا من الله، بل تغنّوا بشهادتهم، فالشّهداء أحياء عند ربّهم يرزقون؛ قيل:  
لقدرهم ففي الشّهداء صاروا
    ولا في ذلّة المخلوق عار
وليست وفاتهم بالرّدم نقصًا
    وما ليس في سطوة الخلّاق عيب

وهنا لا بدّ من القول، إنّ تفسير وقوع الزّلزال والكوارث الطّبيعيّة بانتقام من الله، ممّن نزلت بهم، فهو مسلك غير سديد، ويتنافى مع أخلاق الإسلام الدّاعية إلى جبر خواطر المنكسرين، بل يعارض النّصوص الصّحيحة، كالحديث المشار إليه آنفًا؛ إذ كيف يكون المقتول تحت الهدم شهيدًا في مرتبة عالية عند ربّه، ومنتَقَم منه في آن واحد؟ لكن، لا مانع من تذكير النّاس أثناء النّوازل والكوارث بالتّوبة من الذّنوب، والعودة إلى الله تعالى، واستغلال ما بقي من أعمارهم في طاعة الله.

تغيّر أخلاق النّاس
خلال الأزمة التي خلقتها الكوارث الطّبيعيّة، وُجد من يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يفتحون قلوبهم قبل بيوتهم، فصار النّاس يقلعون عن المعاصي ويتقرّبون إلى االله بالطّاعات؛ يقول الشّاعر:
وهذا يودّع إخوانه
    وهذا يجهز أكفانه
وهذا يلاطف جيرانه
    وهذا يخالل من خانه
وهذا يعير ميزانه
    فهذا يوصّي أولاده
وهذا يهيء أشغاله
    وهذا يصالح أعداءه
وهذا يوسع إنفاقه
    وهذا يغير أخلاقه

يوضّح الشّاعر في هذه الأبيات، أنّ النّاس بعد الزّلازل، رجعوا إلى فطرتهم السّليمة، وازداد إيمانهم، فالتّقرّب من الله يعين على تلقّي الرّسائل، والوقوف على معان، والتّخلّق بصفات تحمله على الرّضا وعدم التّسخّط، خصوصًا أنّ أثر الألم لا يختلف فقط بحسب درجته، وإنّما يختلف بحسب طبيعة الشّخص الذي يتلقّاه، وهنا يظهر أثر الإيمان وفضائل النّفس وسماتها الأخلاقيّة. 
المصائب قد تدفع إلى الصلاح واستكمال نواقص النّفس، وتجلو القلب وتستنزل الرّحمة، وتزيل الغفلة عن الله، وتقرّب العباد منه سبحانه: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا﴾ (سورة يونس - الآية: 12)، وتصقل النّفس السّارية إلى الله فلا يفجؤها الموت فيما بعد؛ لأنّها خبرت ألوانًا ودرجات منه. 

التّقرّب إلى الله
إنّ المصائب آية تنطوي على عظة، وتحمل على إحداث تغيير في طبيعة النّفس وسلوكها، وهذا ما يفسّر مغزى الحثّ على التّوبة والصّدقة والوعظ والاستغفار عند حدوث الزّلزال. وقد غيرت الكوارث الطبيعية، التي حصلت في العهد المملوكي، في بعض العادات الاجتماعية، وكان الناس يعتادون ممارستها في حياتهم اليومية، ومن ذلك ما ذكره أبو شامة في رسالة له في بركان المدينة المنـورة، يقـول: وبالله يا أخي إن عيشنا اليوم مكدرة والمدينة قد تاب جميع أهلها ولا بقى تسمع فيها رباب، ولا  دف، ولا شُرب»؛ ويقول الشّاعر:
يا كاشف الضرّ صفحا عن جرائمنا
لقد أحاطت بنا يا ربّ بأساء
نشكو إليك خطوبا لا نطيق لها
حملًا ونحن بها حقا أحقاء
فاسمح وهب وتفضل وامح واعف واعف وجد
واصفح فكل لفرط الجهل خطاء

فالشاعر يدعو الله، ويتقرب منه، ليزيل عن عاتقهم هذه المشاكل والآلام، لأنّ الدّعاء هو الوسيلة والصّلة بين العبد وربّه، وهو من أحبّ العبادات إلى الله تعالى، لأنه دائمًا يحبّ سماع صوت عبيده ينادونه؛ وهذه الأهوال تمحو الذّنوب التي اقترفها الإنسان، فاالله حفظ لنا هذ القلب القادر على تكفير الذّنوب في الشّدائد، وغفران الخطايا.
فعدّ العلماء أنّ للكوارث الطّبيعيّة، ومنها الطّاعون، فوائد، فهي تعيد الإنسان إلى ربّه وتقربّه من الله. يقول ابن الوردي: «ومن فوائده تقصير الآمال، وتحسـين الأعمال، واليقظـة من الغفلة، والتّزوّد للرّحلة».
ولم يتوقّف التّقرّب إلى الله على عامّة النّاس والبسطاء، بل تعدّاه إلى السّلاطين والحكّام، فقد تقرّبوا إلى الله، ويذكر قاضِي المدينة المنوّرة «شمس الدّين سنان بن عبد الوهّاب الحسيني»، فـي كتـاب أنشأه في بركان المدينة، ما قام به من وعظٍ وإرشادٍ للأمير، ونتائج ذلك كلّه في الناس: «وطلعتُ إلى الأمير وكلّمته وقلت له: قد أحاط بنا العذاب، ارجع إلى الله، فأعتق كلّ مماليكه وردّ علـى جماعة أموالهم، فلمّا فعل هذا، قلت له: اهبط السّاعة معنا إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فهبط، وبتنا ليلة السّبت والنّاس جميعًا، والنّسوان وأولادهم، ولا بقي أحد في النّخيل ولا في المدينة، إلّا عنـد النّبيّ صلّى االله عليه وسلّم».
ختامًا، إنّ الابتلاء قديم قِدَم الحياة البشريّة، ووجوده مرتبط بوجود الإنسان، ومنذ خلق اللهُ آدمَ والابتلاءات تترى وتتوالى، وتتعدّد أنواع الابتلاء وأسبابه وتختلف آثاره، وقد تكون الآثار مادّيّة أو روحيّة، ونرى أنّ الأدب صوّر النتائج الإيجابية للكوارث الطّبيعيّة، فلم ينقل الصّورة السّلبيّة لها فقط، بل كان وسيلة للتقرب إلى الله ■