شخصية العرب في المعلقات

شخصية العرب في المعلقات

تكاد المعلقات في العصر الجاهلي أن تكون تاريخ العرب الحقيقي في السياسة والمجتمع والتراث المتحدّر من تراكم آثار الزمن الصحراوي على جغرافية الوعي والوجدان فيه روحيًا وأخلاقيًا وسياسيًا واجتماعيًا، وقد تجلت الشخصية العربية في شعر المعلقات بانسجام يكاد يكون تلقائيًا وتلقينيًا عند الجميع في عموميات الفعل الاجتماعي الناتج عن طبيعة الأثر الجمعي والجغرافيا المكانية التي كانت الصحراء أوسع تجلياتها وأكثرها تحكُّمًا بالمعطى الشعري الناجم عنها.

 

لقد سُمِيَت المعلقات بهذا الاسم لأنها أولًا كانت دائمة الوجود ومتعلقة بالذهن، والوجدان العربي، وسواءٌ أعُلّقتْ على أستار الكعبة، وكُتِبت بماء الذهب أم لم تعلق ولم تُكتب بماء الذهب، فقد كانت محفوظة في الوجدان، وراسخة الحضور في الذهن المتنقل في شبه جزيرة العرب، وكانت المعلقات في الوجدان العربي تنتقل مع العربي من مرعى إلى مرعى، ومن واحةٍ إلى واحة، وكأنها أنعامه التي تديم حياته وحياة أطفاله، وكأنها العشب الذي يحلم بوجوده في صحارى واسعة. لقد كانت المعلقات في الشعر الجاهلي غذاء لاستمرار المعنى التبريري لكي يكونوا بمستوى ما يكتبونه من شعر. يومها كان الشعر أهم وسائل الإعلام بين القبائل، وكانت الأمية السائدة بين العرب تجعلهم يتناقلون أيامهم وأحداث حياتهم مشافهة، وكان الشعر ناقلًا لهذا الإعلام بما يتناسب مع المخزون العاطفي للشاعر وقبيلته على السواء، ولتبيان أثر الشعر في قبيلة الشاعر كان أحد شعراء بكر بن وائل يهجو قبيلة تغلب دون أن ينال من معلقة بني تغلب وشاعرهم عمرو بن كلثوم:
ألهى بني تغلبٍ عن كل مكرمةٍ   
        قصيدةٌ قالها عمرو بنُ كلثومِ

كانت القبيلة تأمر حتى أطفالها بحفظ القصيدة حين تكون مأثرة لهم، فما الذي جعل المعلقات بهذا المستوى من الحضور في وجدان القبائل؟ والجواب هو أن المعلقة في الشعر الجاهلي كانت عملًا شعريًا متكامل النضج بكل ما تطلبه المادة الشعرية من معنى ومبنى، فالمعلقة كانت ذاكرة الشاعر وذاكرة قبيلته. وكان العرب يدركون بفطرتهم سموَّ الصياغة الشعرية بحكم ولعهم بالشعر وبسبب حضوره الدائم فيهم. فالبناء الصياغي للمعلقة وصل إلى درجة متقدمة في الذوق العربي، والدليل أننا حتى اليوم نعتبر المعلقة الجاهلية عملًا شعريًا كبيرًا ندرسه ونتفاعل معه بما يوازي أفضل الشعر الحديث، وقد يتجاوزه.

قيمة أخلاقية
هذا المستوى الصياغي المتقدم في المعلقات رافقه تذوقٌ عميق لما توحيه الحالة الشعرية في النفس من خلائق متقدمة ومُحفِّزة، كان العربي يحتاجها في أفراحه وأتراحه، ومن هذا التوجه كان للشعر عند العرب قيمة أخلاقية وقيمة اجتماعية لم يستطع المقدس لاحقًا إلغاءها. إن صياغة الشعر وإيفاعه في الحياة الجاهلية كانا يؤثّران بقوةٍ في المتلقي، الذي كانت ثقافته سمعية، لذا ربط العرب إيقاعَ الشعر بالغناء، وحَدَوْا به إبلَهم إلى المراعي، وجعلوا له أسواقًا ومواسم.
والآن نتساءل هل كان المستوى الفكري والروحي بمستوى حضوره الصياغي في المعلقات؟ ولتبيان ذلك سنحاول رصد القيم الاجتماعية العليا التي عرفها العرب في المعلقات، وما هي هذه القيم، وما سبب تفرد العرب بها في جاهليتهم؟ لعل المروءة هي أبرز ما سكبه العرب في معلقاتهم، وهذه المروءة كانت من أهم أسباب خلود هذه النماذج الشعرية المتقدمة، والمروءة يتفرع منها الكرَم والإيثار والشجاعة والغيرة وحب الموت من أجل الحياة.
إنّ جغرافية الصحراء التي كانت بخيلة بالعطاء قابلها إنسان عربي بالسخاء، وهذه صفة عجيبة أن يكون المرء معطاء وهو جائع مُقَتِّر، كان الكرم من أبرز سمات العربي في ذلك الزمن الجائع، وكان أحدهم عندما يصحو من شرابه تستيقظ فيه صفة الكرم أول علامات اليقظة، لأن الكرم كان تحديًا لقساوة الصحراء، وكان عنترة يقول عندما يصحو:
وإذا صحوْتُ فما أقصّر عن ندى
        وكما علمتِ شمائلي وتكرمي

وارتبط الكرم عند العرب بمكارم الأخلاق، لأن الكرم عطاء، وكانوا يحترمون الكريم حتى ولو لم يكن مشهورًا بشجاعته، وتكريم الرسول (صلى الله عليه وسلم) لبنت حاتم الطائي دليل قويم على ذلك، وبكرم هرم بن سنان والحارث بن عوف أطفئت نار حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان، وقد رفع زهير بن أبي سلمى في معلقته كرَمَ هذين السيدين إلى أعلى مستوى للقيمة الأخلاقية العليا. لقد منعا القتل بكرمهما حين دفعا ديات قتلى الطرفين من أموالهما، وفي هذا يقول زهير بن أبي سلمى في معلقته فيهما:
فأقسمتُ بالبيتِ الذي طاف حولَهُ
    رجالٌ بنوْهُ من قريشٍ وجرهمِ
يمينًا لنعمَ السيدانِ وُجِدْتُما
    على كلّ حالٍ من سحيلٍ ومبرَمِ
تداركتما عبسًا وذبيانَ بعدما
    تفانوْا ودقوا بينهم عطر منشمِ
وقد قلتُما إنْ ندركِ السلم واسعًا  
    بمالٍ ومعروف من القول نسلم 

الكرم هنا كان مروءةً وكان خُلُقًا كريمًا، وكان صانع سلام. وقد أكبر العرب هذا العمل العظيم، وكان هرم بن سنان يكرم كل من ألقى السلام عليه، وكان زهير بن أبي سلمى يرى في هذا أمرًا جللًا، وكان يُشفق على كرم هرم بن سنان، فكان إذا دخل مجلسًا ووجد فيه هرم بن سنان يقول: «عموا سلامًا بخير إلاّ هرم بن سنان، وخيرَكم استثنيت». 
وكان الإيثار رديفًا للكرم، وكان في جوهره كرمًا، فأنت حين تؤثر إنسانًا على نفسك وبنفسك فهذا أعلى درجات الجود، «والجودُ بالنفس أقصى غايةِ الجود»، وكان طرفة بن العبد يرى في نجدة المستجير إحدى مبررات وجوده، وفي ذلك يقول في معلقته:
وكرّي إذا نادى المُضافُ مُحَنَّبًا   
    كسيدِ الغضا ذي السَوْرةِ المتورّدِ

وكان الإيثار ذاكرة تُحمل وتُروى في مجالس القوم، وكان يتباهى بها العربي أينما حلّ وارتحل، ويعتز بنقلها ونشرها بين القبائل شعرًا، لأن الشعر «ديوان العرب»، وما ينشر ويسجل في هذا الديوان يجب أن يكون عاليًا، ولأن الإيثار في معناه الأبعد هو مَنَعةٌ وقوة فقد عدَّهُ لبيد بن ربيعة صاحب المعلقة من خصائص قومه، واعتبره كرمًا لا يعدله كرم آخر، وبالإيثار يرتبط الكرم بالقوة، ويتجلى بشكل أعلى كلما ازدادت أعوام الفقر والجوع على المرملات اللواتي يبحثن عن طعام في سنوات العسرة الطوال. يقول لبيد في معلقته:
وَهُمُ رَبيـْعٌ لِلْمُجَـاوِرِ فِيهُــمُ   
والمُرْمِـلاتِ إِذَا تَطَـاوَلَ عَامُهَـا

وكانت الأمانة من شيم الوفاء العليا التي ركّزت عليها معلقة لبيد بن ربيعة العامري، وكان يعتبرها من مفاخر قومه التي يعتز بإشهارها لتبيان أصالة قومه الذين يحملون الأمانة، والأمانةُ شرف لا يجوز التنحي عنه، لأنها أمر داخلي تقوم به النفوس النظيفة. وكانت عبئًا محببًا على حاملها لأنّ الأمانة ثقيلة، ومن الأمانة ألّا يثقل كاهلَك حملُها. ومن يحملها يكن رزينًا وموفور السمعة بين كل العرب، يقول لبيد في معلقته:
وإِذَا الأَمَانَةُ قُسِّمَتْ فِي مَعْشَـرٍ
    أوفَـى بِأَوْفَـرِ حَظِّنَا قَسَّامُهَـا
فَبَنَـى لَنَا بَيْتـًا رَفِيْعًا سَمْكُـهُ
    فَسَمَـا إِليْهِ كَهْلُهَـا وغُلامُهَـا
فَهُمُ السُّعَاةُ إِذَا العَشِيرَةُ أُفْظِعَـتْ
    وَهُمُ فَـوَارِسُـهَا وَهُمْ حُكَّامُهَـا

أما الشجاعة في الشعر الجاهلي، وفي المعلقات فقد كانت الدرعَ الحصينة والُجُنَّة الوثيقة لحماية الفرد والقبيلة. والقلوة في الجاهلية كانت تقوم أساسًا على حماية الظعائن والسوائم والمحارم، وكان الفقر والجفاف أبرز معالم الصحراء، ولذا كانت الواحة والمراعي حولها وطنًا يُحمى ويُصان، وبسبب الفقر والجوع نشأت ظاهرة الغزو التي قال فيها الشاعر:
وأحيانًا على بكرٍ أخينا   
    إذا ما لم نجدْ إلّا أخانا 

الغزو كان في الجاهلية وسيلة عيش وبقاء، بخلُ الصحراء جعل أبناءها مصرّين على أن يبقوا أحياء، وعليهم أن يحاربوا الجوع بالغزو، وبالعدوان على أنعام الآخرين وسوائمهم، ومع تكرار ظاهرة الغزو صار الغزو من أخلاق الصحراء، وصار وسيلة للتباهي بالقوة القادرة على تحقيق التفوق بالغزو، والاستلاب، وظلت كلمة الغزو تُستخدم في الشعر الإسلامي، وإن اختلفت بواعث الغزو، يقول حسان بن ثابت الأنصاري:
وكنّا متى يغزُ النبيُّ قبيلةً   
نَصِلْ حافَتَيْهِ بالقنا والقنابلِ

الغزو اقترن بالشجاعة، واقترن أحيانًا بالكرم، فقد رُوِيَ أن نساءً من القبيلة التي تُغزى كنّ يسألن الغازين الغانمين أن يتركوا لهن بعض السوائم، فيستجابُ لهنّ. أما الشجاعة فقد كانت تصل إلى حد التباهي سواءٌ أكان الشجاع قاتلًا أو مقتولًا، وكان القاتل يصف القتيل بالشجاعة والكرم ونبل المحتد، وهذه صفة ترفع سمعة القاتل والمقتول في آن. يقول عنترة بن شداد في وصف شجاعة خصمه وشجاعته هو:
ومُدَجَّجٍ كرِهَ الكُماةُ نزالَهُ    
    لا مُمْعِنٍ هربًا ولا مُستسلِمِ
فشككتُ بالرمِح الأصمِّ ثيابهُ  
     ليس الكريمُ على القنا بمُحَرَّمِ

كما نرى في البيتين صورة الخصم الذي لم يهزَم مرة في حياته، ولم يستسلمِ، وهو كريم بخصاله كلها، وعمرو بن كلثوم يعتبر أن حماية الظعينة والمحارم من بواعث الشجاعة التي يستنهضها العقل العربي، لأن شرف المحارم هو معيار بقاء القبيلة كلها، يقول عمرو بن كلثوم في معلقته: 
على آثارِنا بيضٌ حسانٌ  
    نُحاذرُ أنْ تُقَسَّمَ أو تهونا
يَقِتْن جيادَنا ويقلنَ لستم   
    بعولتَنا إذا لم تمنعونا
إذا لم نحمِهنّ فلا بقينا    
    لشيءٍ بعدهنّ ولا حيينا

تاريخ العرب
ظلَّت المعلقاتُ عالقةً بالوجدان العربي بسبب حملها أخلاق العرب وأيامهم ومروءاتهم وصراعاتهم، ولذا اعتبرها النقاد تاريخ العرب في تلك المرحلة، وفي كلّ حالاتها ظلت تحمل قيمًا وتفاخرًا بمجد القبيلة، حيث كانت القبيلة يومها أمة بمحارمها وأنعامها وسوائمها، وكان الذود عن القبيلة يعادل حماية الوطن، وكانت أخلاق القبيلة أخلاق أمة، يقول الحارث بن حلزة واصفًا مناعة قومه وسطوتهم، وتسلُّقهم الأصعب من الأمور: 
لا يُقيمُ العزيزُ بالبلدِ السهلِ
        ولا ينفعُ الذليلَ النِجاءُ
ليس يُنجي الذي يوائلُ منّا
        رأسُ طَوْدٍ وحَرَّةُ رَجْلاءُ

كان الخلق المميز لفردٍ في القبيلة تكوينًا وملكًا للقبيلةِ كلها، لقد قيل إن الكرم صفة من صفات طيّ كلها لتجسدها فب حاتم الطائي. وكان الفرد يتشكى من عدم اهتمام قبيلته به، ويرى ظلمها أشد وقعًا من ضرب السيف:
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً   
    على المرء من وقع الحسام المهنّدِ

وعلى الرغم من كرم الأخلاق والمروءة المتوفرة في المعلقات إلّا أنا واجدون في بعضها مجونًا وتطرفًا لا يليق بمعلقة مثل معلقة امرئ القيس التي هي من عيون الشعر العربي، فلقد تجاوز امرؤ القيس في معلقته ما لم يصل إليه فحش عمر بن أبي ربيعة في أقسى إباحياته. طبعا كان امرؤ القيس شاعرًا متفردًا ومتقدمًا، ولكن هذا كله لم يشفع له حين قال في معلقته:
فمثلِكِ حُبلى قد طرقتُ ومرضعٍ   
    فألهيتها عن ذي تمائمَ مُحْوِلِ
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له  
    بشِقٍّ وتحتي شِقُّها لم يُحَوَّلِ

وعلى الرغم من هذا فقد ظلت الصياغة الرائعة لمعلقة امرئ القيس شفيعًا له في حومة الشعر. وستبقى المعلقات أعلى ما وصلنا من التاريخ الفكري والروحي لأمتنا في الجاهلية، وقبل سطوع الرسالة الإسلامية ■