فاضل خلف... ريادة ترسيخ الأسس وسد الثغرات

فاضل خلف... ريادة ترسيخ الأسس وسد الثغرات

   في مكتبتي كتاب مر عليه زمن، مجلد تجليدًا بدائيًا، بعض صفحاته مرممة، يتصدره إهداء بخط متقن جميل امتاز به الجيل الذي ينتمي إليه فاضل خلف، يقول الإهداء: 
سِفْرُ أَبي مُبَارَكٍ   يُهْدى إلى أَبِي علي 
تَحِيَّةٌ مِنْ فَاضِلٍ   ذِكْــرى لِوُدٍ أَمْثـــــلِ 
ويشرح ما ورد في البيتين: أبو مبارك هو الدكتور زكي مبارك
أبو علي هو الدكتور سليمان الشطي
فاضل: هو فاضل خلف  

 

فاضل خلف كان أول صوت يمسك برأسي ليوجهه إلى النظر لما يدور حولي لأعرفه وأستوعبه لأبني عليه بعد ذلك صلتي في العالم. 
كنت في أول الطريق، في مطلع الستينيات، متفتح بتوجه حماسي منفعل إلى الثقافة التي مثلت فانوسًا سحريًا يفتح آفاقًا متسعة، وكان وهجها العربي والعالمي طاغيًا في جذبه، حتى كدت أنسى أن ثمة واقعًا ثقافيًا من حولي يستدعي الانتباه.
غريب ولكنه شائع أن نعرف الكثير عن خارج بيتنا ونجهل ما فيه. من هذه الزاوية جاء موعدي مع صوت فاضل خلف وأحاديثه من إذاعة الكويت. 
ابتداء أقول: كانت صياغة طاهر أبي فاشا لحكايات ألف ليلة وليلة تستقطب اهتمامنا إذاعيًا ومثلها إطلالة الأدباء وأحاديثهم الإذاعية التي كانت سنة حميدة في ذلك العهد: صوت طه حسين العريض بمهابة مشبعة بفصاحة الأزهر وبالثقافة الغربية الحديثة، وهل ينسى أحد من ذلك الجيل أحاديث مارون عبود في إذاعة الشرق الأدنى التي تستقطب المستمعين بثقافة وسخرية جاحظية؛ لقد كان أولئك الرواد يدركون قيمة الوسائل الحديثة وأثرها في تأسيس الوعي الثقافي. 
من هذه المنصة تلقيت صوت فاضل خلف الذي كانت أحاديثه الأدبية من إذاعة الكويت (1961) تفتح بوابة كنت منشغلًا عنها فحفزني بقوة للدخول إليها. 
جاءت أحاديثه، ومجمل أعماله الأخرى، لتسد ثغرة في ثقافتنا وتكشف، في الوقت نفسه، عن توجه نفسي وعقلي ومن ثم مشروع وخطة طريق نابعة من هَمِّ مشترك عند رواد تلك الحقبة، حقبة النصف الأول من القرن العشرين الذين وعوا وأدركوا حاجة بيئتهم إلى الدخول إلى ثقافة العصر الحديث، وسعوا إلى سد الثغرات واستكمال النواقص وفتح آفاق ساحات لم تكن مطروقة من قبل كما يجب، لذلك وجدنا أن أولئك الرواد لم يقصروا جهدهم أو يحصروه في مجال واحد، فواجب المسؤولية الملقاة على عاتقهم يدعوهم إلى ملاحقة العصر بكل منجزاته الثقافية. ونضرب مثلًا شخصية شهيرة: طه حسين الذي تحمل عبء كتابة تاريخ الأدب بمنهج العصر الحديث، وراد حقل التاريخ والبحوث الحضارية والترجمة، وكتب القصة والرواية. وهذا القول ينطبق على أكثر رواد تلك المرحلة من مثل العقاد وميخائيل نعيمة ومحمد حسين هيكل والسلسلة بعد ذلك تطول.

هاجس السؤال 
  إن فاضل خلف واحد من هؤلاء الرواد في الكويت؛ كان مشغولًا ومنغمسًا في تمهيد الطريق الثقافي ومستكملًا النقص وفاتحًا لمجالات لم تفتح أو قليل روادها، لذا تشعب اهتمامه وجهده فشمل شتى مناحي الكتابة الثقافية. وهنا أشير إلى خصوصية ملازمة لهذا الاهتمام وهي هاجس السؤال:
كان فاضل خلف كثير التساؤل، فمنذ أن عرفته واقتربت منه ونشأ بيننا ذلك الوِّد والتقدير من تلمذة انطلقت من متابعة قديمة خلقت حالة من الإعجاب والتواصل المستمر. لاحظت أنه دائم السؤال والتساؤل، يبادر، وهو الأستاذ والمعلم، فيثير معلومة أو يُذكِّر بها أو يستفهم عنها ولعل هذه الطبيعة الاستفهامية هي التي جعلته يتجه في كل جهد له إلى تقديم ما غفل عنه الآخرون أو لمح تقصيرًا فيه، فالأسئلة بداية للبحث الذي لا يتوقف، وهذا التوجه يكشف النقص والثغرة الثقافية التي يندفع لسدها، وهذا ملمح أساسي عند الأساتذة الرواد الموسوعيين في اهتماماتهم، حافزه الإحساس الإيجابي عند المثقف إزاء جيله، فهذه الطبيعة المتسائلة لا تترك مسألة، مهما تضاءلت أهميتها، مثلًا: في إحدى مقالاته المبكرة يتوقف عند إشارة عابرة من عبدالوهاب عزام محقق ديوان المتنبي تناول فيها شروح شعر المتنبي ومنها شرح العكبري، وهنا يقفز سؤال لا يتردد فاضل خلف في طرحه وهو أن مصطفى جواد، الباحث العراقي المتميز، نفى في مقالة له نسبة الشرح للعكبري وأنه لواحد من ثلاثة ذكرهم في مقالته. وهنا يبزغ التساؤل عند فاضل خلف منطلقًا من أن تمسك عزام بنسبته الشرح للعكبري، رغم نفي مصطفى جواد، لابد أنه يستند على براهين اطمأن عزام لها في مقابل التشكيك المذكور... قضية قد تكون هامشية ولكنها تكشف طبيعته السائرة في إثارة الأسئلة بحثًا عن دقة المعرفة.

سد الثغرات 
مثل أكثر أدباء عصره، يأتي قول الشعر في المقدمة، فانطلق فاضل خلف شاعرًا، وأثمرت هذه الشاعرية خمسة دواوين، وهي محل تقدير، وبها أخذ موقعه في تجربة الشعر في الكويت، ويكفي الإشارة إلى ما هو معلوم من فوزه بالجائزة الأولى في مسابقة شعرية لإذاعة لندن العربية بقصيدته الإنسان وعالم الغد (1964).      
لكنه وجد أن ساحة الشعر مكتفية، باعتبار أن الشعر هو المحور الأساسي للنشاط الأدبي؛ لذا نشهد كثيرًا التفاتة الرواد، من أمثال فاضل خلف، إلى ساحات جديدة حديثة تثري الساحة الأدبية والسير في منهج سد الثغرات وترميم النقص وتدارك التقصير؛ لذا يتجه إلى بذر نواة لفن جديد حديث هو القصة، ليصبح واحدًا من قلة قليلة بدأت في الكتابة القصصية، ولم يسبقه إلا خالد الفرج في قصته (منيرة) ومعاصره فهد الدويري، فكتب عددًا من القصص، في الأربعينيات والخمسينيات، شكلت أول مجموعة قصصية تطبع في الكويت: «أحلام الشباب» 1955، والمطبوع الثاني في الفن القصصي بعد رواية فرحان راشد الفرحان القصيرة «آلام صديق». 
ومثل كثير من الرواد التفت إلى حاجة الثقافة في الكويت إلى فتح أكثر من نافذة ثقافية والوسيلة هي الترجمة، فتبنى الدعوة إليها (كتاب: في الأدب والحياة. مقالة آراء في رسالة ص 58)، ولم يكتف بالدعوة ولكنه قام بجهد واضح في الترجمة، فتقدم ليكون واحدًا من الأوائل في هذا المضمار، وترجم عددًا من المقالات والقصص نشرها أولًا في المجلات ثم ثبتها في كتابيه: «سياحات فكرية ومجموعة أحلام الشباب». 

عود على بدء  
في هذا السياق، سياق سد الثغرات واستكمال التقصير الثقافي، نجد فاضل خلف يكاد يقف وحيدًا متفردًا في أوائل الستينيات في متابعته للنشاط الثقافي مؤرخًا وعارضًا ومتابعًا، يُنشط الذاكرة الأدبية ويفتح الأعين على ما يدور في الساحة الأدبية الكويتية بتلك الإطلالات التي انفرد بها، قدمها في الصحف وبثها أحاديث إذاعية ثم جمعها في كتاب «دراسات كويتية».
في تلك الأحاديث التي استمرت لأكثر من عام، كان فاضل خلف يلقي بأضواء على تاريخ الكويت ومناحي الحياة فيها ومناسباتها ومنجزاتها الثقافية وشخصياتها السياسية والاجتماعية والأدبية، وكانت تمثل إضاءة شبه وحيدة لحقبة النصف الأول من القرن العشرين التي لم تحظ آنذاك بتغطية مناسبة توفر متابعة ومن ثم معرفة بالحراك الثقافي والاجتماعي، لقد كانت أحاديثه تقوم بهذا الدور وتسد تلك الثغرة الثقافية؛ فلم يغب عن تلك المتابعة أي ملمح أو نشاط أو شخصية مؤثرة، فكلها وجدت موقعها تعريفًا وتعليقًا، والناظر في مفرداتها وتوجهاتها يجد أنها:

أضواء تاريخية
تلقي تلك الأحاديث بأضواء على الأرضية التاريخية متمثلة في متابعة وعرض تاريخ الكويت وما كتب فيه، بدءًا من تاريخ منطقة الكويت في العصر الإسلامي، والنموذج كتاب: «كاظمة في الأدب والتاريخ» ليعقوب يوسف الغنيم، وصولًا إلى تاريخها الحديث، ونموذجه ما كتبه كل من الشيخ عبدالعزيز الرشيد، والشيخ يوسف القناعي وسيف مرزوق الشملان، ويمتد نظره إلى ما كتبه الرحالة، مثل كتاب لوشر الذي ترجمه عبدالله الصانع، وينظر فيما كتبه العرب الذين عايشوا الكويت والكويتيين: «أيام الكويت» لأحمد الشرباصي، و«في بلاد اللؤلؤ» لفيصل العظمة. ولامس الحراك الاجتماعي في هذا النشاط فيكتب عن ملامح الحياة: عن النهضة التعليمة: المدرسة المباركية، من وحي العيد، والأعياد بين الأمس واليوم، وعن الترويح عن النفس في الجزيرة الصغيرة، وينظر في كتاب عبدالعزيز حسين «محاضرات عن المجتمع العربي في الكويت» و«من الأمثال العامية» لخالد سعود الزيد، وكتاب «لكي لا تنفخوا في رماد» لعبدالصمد تركي، وكتاب «الكويت المستقبل» لحمد يوسف العيسى.
الشخصيات: ولأن عمدة الحديث عن أي حركة اجتماعية وثقافية لا تكتمل إلا بالإحاطة بأعلامها نجد تلك السلسلة من عقد ضم أميز الشخصيات في كل الأصعدة الأساسية في نمو المجتمع وثقافته، فكتب عنها أو عن ما كتب عنها. 
الشعراء والكتاب والفنانون: صقر الشبيب، خالد الفرج، فهد العسكر، مساعد الرفاعي، حجي بن جاسم الحجي، محمود توفيق. 
شخصيات ثقافية وقيادية: عبدالعزيز الرشيد، عبدالله خلف الديحاني، عيسى القطامي الربان والشاعر، عبدالله الصانع، أحمد المشاري شاعر ومصلح، عبدالعزيز الغربللي شملان بن علي آل سيف. هذه الأحاديث المهمة المسجلة الموثقة لو نزعت لن نجد مثلها متابعة وتوثيقًا ينتمي لتلك المرحلة.
صدر كتاب «دراسات كويتية» جامعًا لتلك الأحاديث شاهدًا على حقبته، وكان وحده كافيًا لولا أن منهج وتوجه فاضل خلف التوثيقي المنفتح عينًا وفكرًا لا يتوقف، فنجده في حقبة ما بعد الستينيات يعود ليتابع الساحة الأدبية كما كان يفعل، وهنا ملمح جدير بالتوقف، فإذا كان فاضل خلف في جهده السابق يوثق ويتابع جهود الجيل الذي سبقه أو من جيله، وكان هذا سائدًا ومشهودًا، ولكن غير المشهود والنادر هو أن يلتفت كاتب من الرواد بجد وحرص إلى ما بعد جيله، إلى من هم في حكم التلاميذ له، وهم المكلفون بالكتابة عنه وليس هو مكلف بالكتابة عنهم، فقليل، وفي حكم النادر، نجد هذا التوجه، لكن فاضل خلف مختلف، حسه الثقافي وإحساسه بمسؤوليته جعلاه يلتفت ويسخر قلمه في هذه المجموعة من المقالات لهذا الجيل اللاحق، من الشعراء: خليفة الوقيان، عبدالله العتيبي، جنة القريني. ومن كتاب القصة: سليمان الخليفي، ليلى العثمان، سليمان الشطي، يحيى الربيعان، وفاء الحمدان، ومن الباحثين: محمد الصالح الإبراهيم، سهام الفريح. 
إن هذا الاهتمام من جانبه بالجيل التالي جعله متفردًا في جيله في هذا التوجه، ولا ننسى في هذا السياق من شاركه في إغناء هذه المرحلة: عبدالرزاق البصير.
ويتابع فاضل خلف سد خانات وثغرات التقصير فامتد اهتمامه إلى الساحة العربية الكبيرة منتبهًا إلى ثغرة تقصير واضحة المعالم تجاه علم من أعلام الأدب والبحث الأدبي: زكي مبارك. 
في كتاب من الأدب والحياة (1955): نواة أولى لسد ثغرة الاهتمام بزكي مبارك، مقاربة بعدد من مقالات نشرت إثر وفاته. توالى نشرها من جهة وتوزعت بين أكثر من منبر وكأنها تحاول أن تسد ثغرة وتعالج تقصيرًا ومن ثم تؤدي واجبًا على الثقافة العربية إزاء زكي مبارك العلم الذي رأى فاضل خلف أنه هُضم حقه.   
في انتباهه، ومن ثم توجهه، لسد هذه الثغرة ذهول من عقوق حاق بهذا الكاتب الفريد، تكشف كلماته هذا الإحساس حين يقول: «إن التاريخ الأدبي يقف أمام هذه الظاهرة حائرًا مذهولًا. زكي مبارك العظيم يموت وقد ضنوا عليه حتى بوظيفة كتلك التي يشغلها فارغو القلب من الحياة، وهو الرجل الذي ألف خير الكتب وأنفسها. بينما تسنم غيره المناصب العالية، وهم لا يستطيعون الإتيان بمعشار ما أتى به، ثم ما هذا العقوق بعد موته؟ أين المقالات والقصائد التي يجب أن تقال في رثاء هذا البلبل الصداح؟  بل أين الأدباء الذين وهبهم زكي مبارك قلبه وروحه، وأنار عقولهم بعد ظلمة وقلوبهم بعد عمى؟ بل أين مجلة الرسالة التي استنفدت قوى الأديب الراحل، وسلبت روحه وجعلته يسامر النجوم ويستقبل الفجر وهو منكب على أوراقه في سبيل خدمتها؟»، تساؤلات تصدر من مدرك لخلل وتقصير وظلم يستدركه فاضل خلف ويقدم نموذجًا لما يجب أن يحظى به زكي مبارك من تقدير واحتفاء به حيًا وميتًا. 
لقد أدرك وتابع حالة العقوق وعدد ظواهرها، وفي المقدمة يأتي الإهمال المتعمد لكتبه المتميزة من مثل: النثر الفني، التصوف الإسلامي، عبقرية الشريف الرضي، الأخلاق عند الغزالي. ولمس أثر هذا الإهمال على هذه الشخصية النابهة، فأدى أولًا إلى شعوره بالغبن فلجأ للدخول إلى منطقة من القول يتم عادة تجنبها، وهي أن يتحدث الإنسان عن نفسه وأعماله. 
ينقل لنا فاضل خلف عبارة تكشف شعور المرارة عند زكي مبارك وهو يتحدث عن هذه الحالة الممقوتة، حالة الحديث عن النفس، فيقول: «... أمثلي يضطر إلى أن يقهر الناس على الاعتراف بأنه لم يثن على نفسه إلا لأنه يحس نقمة الابتلاء بالعقوق» (فاضل خلف، سياحات فكرية ص 84).

محاولة فريدة
هذا الحديث عن النفس ومحاولة إنصافها ذاتيًا أوصلت زكي مبارك إلى حالة الانطواء على النفس واليأس، فانقطع  في السنوات الأخيرة من عمره عن الكتابة بعد أن كان شعلة نشاط.    
وجاء موته ليكشف عمق حالة العقوق التي استفزت فاضل خلف، فانبرى بمقالاته المتتابعة لسد هذه الثغرة المعيبة في مسار الثقافة، وكانت محاولته الفريدة هذه تستحق الثناء، وكان من المفترض أن ينتبه الغافلون لشخصية زكي مبارك الإنسان والمبدع والباحث، فهو شخصية نموذجية ليست مسطحة؛ لا تهدأ بل تموج حركة ونشاطًا، تخوض المعارك الأدبية بعلم غزير وحماسة لافتة للنظر، ويكفي أن ننظر في غزارة هذه المعرفة حينما دخل معركته مع أحمد أمين رغم التحفظ على إسرافه اللفظي في تلك الخصومة.     
كان فاضل خلف مدركًا لأهمية وغنى هذه الشخصية فكرًا وعاطفة وأثرًا، ومن ثم كتب عنها إنصافًا ووفاء وتقديرًا في مقابل العقوق والتجاهل، ولعله في كتابته عنه كان يؤمل أن يتحرك نبض الوفاء والتقدير لزكي مبارك، لكن الحالة ظلت جامدة. 
ويحتشد فاضل خلف مرة أخرى ليكتب كتابًا، هو الأول عن زكي مبارك، وفي مقدمة هذا الكتاب يشير إلى أنه كان عازمًا على سد هذه الثغرة الثقافية واستكمال ما ينبغي أن يستكمل، ولكن هناك من انبرى له ودعاه إلى إيقاف مقالاته عن زكي مبارك بحجة غريبة يوردها فاضل خلف ببراءة وتواضع قائلًا: إن أحد الأصدقاء طالبه «بإيقاف تلك المقالات، زاعمًا أن زكي مبارك من أدباء الطليعة، وسيكتب عنه من هم أكثر منه اتصالًا به، وأكثر منه معرفة بشخصيته، ومذاهبه في الأدب والنقد». سمع فاضل هذه النصيحة الغريبة وتوقف عن مواصلة مقالاته استجابة لنصيحة هذا الصديق، وياله من صديق ناصح!     
لم يتقدم أحد من كتاب الطليعة ولا غير كتاب الطليعة إصرارًا على التجاهل وتأكيدًا لحالة الجحود، التي استمرت سنوات وسنوات، وكما انفرد فاضل خلف أولًا في سد هذه الثغرة في مقالاته، فإنه كذلك كان أول مبادر لكتابة كتاب عنه أصبح سابقًا ومتفردًا ومصدرًا أساسيًا عن زكي مبارك. ومر، بعد ذلك، أكثر من نصف قرن لم يتقدم كاتب ذو شأن؛ فما كتب بعد هذا الكتاب محاولات نادرة وضئيلة، جاءت بعد مضي زمن، نشير هنا إلى كتاب أنور الجندي: «زكي مبارك دراسة تحليلية لحياته وأدبه»، ونضيف له بعض رسائل ماجستير أو دكتوراه ترقد في مخازن الجامعات. وليس في هذا الذي كُتب شيء لامع يليق بمكانة ودور زكي مبارك. 
لذا وجدنا أنه، كما سبق وأن تولى زكي مبارك في حياته التنبيه والدفاع عن حق جهده الثقافي في أخذ موقعه ومساحته اللائقة به في صفحات التاريخ الأدبي، انبرت ابنته كريمة زكي مبارك للقيام بهذا الدور في الكتابة عنه ونشر إنتاجه.
ويبقى كتاب فاضل خلف هو أميز ما كتب عن زكي مبارك، ويستمر اهتمامه به، سواء في استكمال الكتابة عنه، فينشر مادة غنية عنه في كتابه (سياحة فكرية) ويحرص على متابعة كل أثر له، إنها إيجابية الأديب المدرك لدوره والمؤدي لواجبه، فاستمر نشطًا يواصل العطاء وقد تجاوز الثمانين، ثم تطاول التسعين فكان هذا العمر المديد بركة وثراء فنيًا وثقافيًا ويقدم نموذجًا للإيجابية المثمرة ■