الشاعـر والموحـيـة
قصة: تاتيانا تولوستايا كانت نينا رائعة: امرأة عادية، طبيبة - ودون شك، فهي جديرة مثل الجميع بحقها في سعادتها الخاصة. كانت تعي ذلك جيداً، ومع اقترابها من سن الخامسة والثلاثين، بعد فترة طويلة من التجارب والأخطاء - التي لا داعي للحديث عنها - فهمت بوضوح أنها بحاجة: بحاجة إلى حب جنوني تصحبه نوبات بكاء وباقات ورد، وانتظار رنين الهاتف في أنصاف الليالي، والركض الليلي وراء سيارات الأجرة، والعقبات القدرية، والخيانة والغفران. بحاجة إلى ذلك الشوق المتوحش - ليل عاصف حالك بنيران وأضواء حتى يبدو الإنجاز النسائي الكلاسيكي إلى جواره مجرد شيء تافه - تبلى سبعة أزواج من الأحذية الحديدية، وتحطم سبعة عكاكيز حديدية، وتقضم سبعة أرغفة من الخبز المعدني - وتكون جائزتها، كهبة إلهية، ليس وردة ما ذهبية، ولا مركز الصدارة، وإنما عود ثقاب محترق، أو تذكرة أتوبيس فركتها الأصابع كي تلقي بها - فتاتة من مأدبة أكل عليها الملك الوضّاء الذي اختاره القلب. ولكن الكثير من النساء، طبعاً، بحاجة إلى مثل ذلك بالضبط، وبالتالي فنينا، كما ذكرنا سابقاً، تعتبر بهذا المفهوم امرأة عادية جداً، امرأة رائعة، طبيبة. كانت متزوجة - وخيّل إليها أنها كما لو كانت قد قضت زمناً طويلاً موحشاً على أريكة في قطار الضواحي ثم خرجت منهكة ومضعضعة، وقد غلبها التثاؤب في ليلة حالكة الظلام بمدينة غريبة حيث لا روح واحدة حبيبة أو قريبة. بعد ذلك عاشت زمناً ما زاهدة، انشغلت بغسل ومسح أرضية شقتها النظيفة، اهتمت بالتفصيل والخياطة، ولكنها بدأت تشعر ثانية بالوحشة، انتهت بفتور قصتها مع طبيب الأمراض الجلدية أركادي بوريسيتش الذي يملك أسرتين غير نينا، كانت تذهب إليه في غرفة مكتبه بعد انتهاء العمل - ولكن لم يكن هناك أي اهتمام: عاملة النظافة تنفض صندوق النفايات، تمر بالممسحة المبللة على مشمع الأرضية، وأركادي بوريسيتش يغسل يديه طويلاً، يدعكهما بالفرشاة، يتفقد بارتياب قدميه الورديتين، وينظر إلى نفسه بامتعاض في المرآة، كان يقف متورّداً وشبعان ومنتفخاً، وشبيهاً ببيـضة، دون أن يلاحظ نينا التي صارت واقفة على العتبة في معطـفها، بعد ذلك يمد لسانه المثلثي ويقلبه هنا وهناك - يخشـى العدوى، يا للسعادة، صقر يسر القلب! أية أشواق يمكن أن تكون لديها نحو أركادي بوريسيتش - طبعاً لا يمكن أبداً. كانت تستحق السعادة، وتمتلك كل المقومات لتشغل دورها في الحصول عليها: وجهها أبيض وجميل، حاجباها عريضان، شعرها أبيض ناعم وغزير يبدأ من أسفل الصدغين ومن الخلف - في حزمة صغيرة، وعيناها سوداوان، حتى أن الرجال في المواصلات كانوا يعتقدون أنها مولدافية، بل وحتى ظل أحد الرجال يلازمها في المترو، في مدخل محطة "كيروفسكايا"، وحاول إقناعها بأنه مثّال، وبأن عليها أن تذهب معه في الحال لكي تجلس أمامه زاعماً أنه في حاجة لعمل رأس حورية، في التو واللحظة وإلا تيبّس الصلصال. وطبعاً، فهي لم تكن تذهب مع أصحاب الحرف الإبداعية لعدم ثقتها الشخصية بهم، ونظراً لتجاربها المحزنة بهذا الخصوص، عندما وافقت على تناول القهوة مع واحد منهم بدا كمخرج سينمائي، وبالكاد استطاعت أن تحرّك قدميها من هناك - كانت الشقة كبيرة وبسقف مائل في بيت قديم، ومليئة بالفازات الصينية. .. مضى الزمن، وكانت حالة نينا تصير في غاية السوء عندما تفكر أنه في بلادنا ما يقرب من مائة وخمسة وعشرين مليوناً من الرجال، وأن حظها قد بخل عليها بعطاياه ولم يرزقها إلا بأركادي بوريسيتش. كان من الممكن العثور على آخر، ولكن لم يكن يلزمها أيضاً أي عابر سبيل والسلام. وبمرور السنوات صارت روحها أكثر ثراء، وأصبحت تفهم نفسها، وتزداد رقة وسموّا، وبالتالي زاد رثاؤها لنفسها في الأمسيات الخريفية: لا أحد يريد أن يهدي نفسه تلك الرشيقة ذات الحاجبين الأسودين. كانت تذهب أحياناً لزيارة صديقة ما متزوجة. وبعد أن تهدي طفلا غريبا ذا أذنين طويلتين شيكولاتة اشترتها من أقرب دكان للحلوى، تشرب الشاي وتتحدث طويلاً، وتظل طوال الوقت تتطلع إلى نفسها في الزجاج الغامق لباب المطبخ حيث صوّرتها المنعكسة أكثر غموضاً وجاذبية، وأوفر حظّاً ونصيباً، على العكس من شبح صاحبتها البدين المبهم. فكم كان من الإنصاف أن يتغزّل بها أحد ما، وفي النهاية، تبدأ سماع صاحبتها - ماذا اشترت، وماذا احترق، وبماذا مرض الطفل ذو الأذنين الطويلتين، ثم تتطلع إلى الزوج النمطي الغريب: جبهته الموصولة بصلعته، وسرواله المتهدّل عند الركبتين.. لا، مثل هذا لا يلزمني - وتخرج خائبة الأمل. تحمل نفسها برشاقة عبر الباب إلى الدرج، تهبط إلى أسفل، إلى الهواء النقي - لا، ليس أولئك الناس. عبثاً أتيتُ إلى هنا، وعبثاً قدّمت نفسي هكذا وتركت في هذا المطبخ المعتم التافه بقايا عطري، وعبثاً أطعمتُ طفلاً غريباً شيكولاتة لذيذة، التهمها ببساطة ولعق شفتيه دون أن يُقدر.. لتركبه الحمى من رأسه إلى أخمص قدميه. تتثاءب. بعد ذلك كان وباء الأنفلونزا اليابانية، استدعوا جميع الأطباء من الأقسام والدوائر وجعلوهم تحت الطلب، وكان أركادي بوريسيتش أيضاً يأتي مرتدياً كمّامة من الشاش وقفّازين مطّاطين خشية الإصابة بالفيروس. ومع ذلك لم ينج، رقد وكان مرضاه من نصيب نينا. هنا، كما اتضح، كان المصير يتربّص بها على هيئة جريشا الراقد في غيبوبة تامة على السرير الخشبي تحت البطاطين المربوطة ولحيته إلى أعلى هنا جرى كل شيء، خطف شبه الجثة قلب نينا المترقّب: أشباح شجية ملهوفة على وجهه الخزفي، وعتمة في عينيه الغاربتين، ولحيته رقيقة مثل غابة ربيعية، كل ذلك تجمع في ديكور سحري، وعزفت قيثارات خفية فالس العرس - وانغلقت المصيدة، الجميع، طبعاً، يعرفون كيف يحدث ذلك عادة. وقفت امرأة جميلة بشعر مسترسل تلوح بيديها على نحو تراجيدي وتولول بصورة كريهة إلى جوار المحتضر "اتضح فيما بعد، والحق يقال، أن الأمر عادي جداً، مجرد واحدة اسمها آجنيا، كانت زميلة جريشونيا في المدرسة. ممثلة فاشلة، تغني بعض الشيء بمصاحبة الجيتار، مجرد تفاهات، فالخطر لم يكن يأتي من هذا الجانب" - أجل، أجل، استدعت الطبيب.. النجدة! أتعرفون.. لقد كانت تمر مصادفة، فهو لا يغلق الباب ولا يطلب المساعدة أبداً، جريشونيا كناس، وشاعر، وعبقري، وقدّيس! وانتزعت نينا عينيها عن الكناس الشيطاني الرائع، وأخذت تتفقد الغرفة - صالة كبيرة، زجاجات بيرة تحت المائدة، نقش مترب على السقف، الكثبان الثلجية بلونها الضارب إلى الزرقة تطل من النافذة، مدفأة خاملة مكتظة بالكراكيب والثياب البالية. - إنه شاعر، شاعر يعمل كنّاساً مقابل السكن في هذه الغرفة - تمتمت آجنيا. طردت نينا آجنيا ثم خلعت حقيبتها وعلّقتها على مسمار، وفي حرص شديد أخذت قلبها من يدي جريشونيا وسمرته هناك في طرف السرير، من ناحية الرأس، هذى جريشونيا بأبيات من الشعر، وذاب أركادي بوريسيتش مثل السكر في الشاي. وأصبح الطريق الشائك مفتوحاً. حينما استعاد جريشونيا سمعه وبصره ثانية، عرف أن نينا السعيدة سوف تبقى معه إلى نهاية العمر، اندهش قليلاً في البداية، وأراد أن يؤجل قدوم السعادة غير المتوقعة، أو إذا كان ذلك قد أصبح غير ممكن - إذن فلا مفر من تقريب نهاية العمر. ولكن بعد إصلاح طباعه وجعلها أكثر رقة ونعومة، أصبح أكثر وداعة وليناً، وطلب فقط عدم التفريق بينه وبين أصدقائه. أطاعته نينا مؤقتاً إلى أن استرد عافيته. وبالطبع كان ذلك خطأ: فسرعان ما استعاد قواه وانخرط ثانية في تلك العلاقات الفارغة مع كل ذلك الحشد اللانهائي - شباب غير معروفي الاهتمامات والوظائف، رجل عجوز بجيتار، شعراء لم ينهوا سوى الصف التاسع، ممثلون بدوا سائقين، وسائقون بدوا ممثلين، راقصة باليه مسرحة، كانت تردد: "أوه، سأنادي أصحابنا أيضاً"، وسيدات يلبسن ألماساً، صائغون غير معترف بهم، فتيات وحيدات بتساؤلات في عيونهن، فلاسفة لم يكملوا تعليمهم، شماس من نوفوروسيسك يأتي دوماً بحقيبة مليئة بالسمك المملح، أحد التونجوس المقيمين في موسكو، والذي يخشى أن يفسد معدته بطعام العاصمة، فكان لا يأكل إلا طعامه - دهن ما يخرجه بإصبعه من برطمان. كلهم - اليوم في حال، وغدا في حال آخر - كانوا يسكرون في المساء حتى الثمالة بغرفة الكناس. كانت البناية الجانبية المكوّنة من ثلاثة طوابق تقرقع وتصرصر من تحتهم، وسكان الطوابق العليا يتوافدون، بينما هم يعزفون على الجيتار، يغنون، يقرأون أشعارهم وأشعار الآخرين، ولكنهم بشكل أساسي كانوا يسمعون أشعار صاحب البيت. كان جريشونيا في نظرهم عبقرياً.. طوال سنوات عدة ينتظرون.. هاهو.. هاهو ديوانه سوف يصدر. ولكن شخصاً ما، يتوقف عليه كل شيء، اسمه ماكوشكين يعرقل الأمور. أقسم ماكوشكين أن هذا العمل لن يصدر إلا على جثته. لعنوا ماكوشكين، وأطروا على جريشونيا ، وطلبت النساء أن يقرأ أكثر وأكثر. ارتبك جريشونيا ، وأخذ يقرأ ، إنها أشعار ثقيلة، كثيفة، ذات معنى وأهمية، مثل التورتات الأخرى الحلوة المصنوعة حسب الطلب والمذيلة بتوقيعات وكتابات ومزخرفة بأبراج مهيبة، أشعار مثقلة بقشدة اللغة إلى درجة التدبّق، وبخشخشات الجوز الفجائية في تراكمات طبقات الصوت، بقواف طويلة ممتدة وعسيرة على الهضم. "إ - إ - إ -إ" - يهز التونجوسي رأسه دون أن يتفوّه بأي كلمة وكأنه لا يفهم بالروسية. "ما الذي لا يعجبه؟" - يسأل الضيوف بصوت منخفض."لا، يبدو أن هذا بلغتهم تعبير عن الإطراء" - وتلف آجنيا شعرها خشية أن يحسدها التونجوسي. والضيوف يبحلقون طويلاً إلى آجنيا ويدعونها إلى مواصلة السهرة في مكان آخر. كان هذا الحشد من البشر غير مستحب، طبعاً، إلى نينا، ولكن الأكثر إزعاجاً أنه كل صباح من صباحات الرب، وفي أي وقت - بالنهار أو بالليل، أو بعد وردية العمل - كان يجلس على الدوام في غرفة الكناس كائن مسكين مشوّه يشرب الشاي وينظر بعشق وافتضاح إلى لحية جريشونيا الرقيقة: واحدة ما اسمها ليزافيتا، بجونلة سوداء طويلة حتى أخمص قدميها، ومشط بلاستيكي معلق بشعرها الكابي المغبّش، وبالطبع فمن غير الممكن أن تكون هناك قصة حب بين جريشونيا وهذه القملة الكئيبة. فلننظر فقط كيف تخرج يديها الحمراوين الرفيعتين مثل عكازين من أكمامها وتمدّهما بتردد لتأخذ كعكة عسل يابسة ملقاة منذ مائة عام - وكأنها تتوقع أن يضربوها وينتزعوا منها الكعكة. بل وحتى وجنتها تبدو أصغر مما يجب أن يكون لدى البشر، ولثتها أكبر من المعتاد، وأنفها معقوف. كان فيها شيء ما مما في الأسماك - الأسماك السوداء الكريهة التي تعيش في الأعماق، والتي تزحف على القاع في الظلام الدامس ولا تجرؤ على الطفو إلى أعلى، نحو الطبقات المضيئة المشمسة حيث تمرح الأنواع الأخرى اللازوردية والأرجوانية التي تعيش في الأماكن الضحلة. لا، أي قصة حب هنا! ولكن جريشونيا، الساذج المغفل، كان ينظر إلى هذا الهيكل البشري بغبطة وارتياح، ويقرأ لها الشعر، يتوقف عند القوافي ويكررها بعواء خفيف، وبعد أن يتأثر جداً بشعره الشخصي، تلمع عيناه بشدة بالدموع، ويحول رأسه ناظراً إلى السقف كي تعود الدموع من حيث أتت. وليزافيتا تهز رأسها معبّرة عن ارتجاف كيانها كله، وتتمخط، وتقلد تنهّدات الأطفال المتقطعة، وكأنها تفعل ذلك بعد بكاء طويل. لا. كان ذلك مزعجاً وغير مريح لنينا على الإطلاق، إذن يجب التخلص من ليزافيتا. ولكن ذلك الإعجاب الوقح كان يعجب جريشونيا. أجل، كان كل شيء في الدنيا يعجب هذا الإنسان الغامض: رفع الثلوج الطرية بالجاروف صباحاً، الحياة في صالة بمدفأة مهدّمة ومكتظة ببقايا متعفّنة، وطبعاً الباب الموجود في الطابق الأول والمفتوح على الدوام لكل من هبّ ودبّ - فليدخل أي شخص، وليزدحم المكان، وليتسكع أي أحد كما يشاء، والمدخل موحل بالثلوج، وكل تلك الفتيات والفتيان والممثلين والعجائز، وآجنيا التي لا صاحب لها، والتي من الممكن أن تكون كائناً طيباً، والتونجوسي الذي لا يعرف أحدا لماذا يأتي إلى هنا، وكل هؤلاء المجانين، والعباقرة - المعترف بهم أوالعكس على حد سواء -، وليزافيتا الجائعة البائسة، وبالمرة نينا كي يكتمل العدد. الزائرون يعتبرون ليزافيتا، ذلك الهيكل الجانبي الزائد، فنانة تشكيلية، كانوا، بالفعل، يقدمون أعمالها في معارض الدرجة الثانية، ويستلهم جريشونيا ألوانها ولمساتها، فيكتب سلسلة من القصائد، ولكي تعد ليزافيتا لوحة ألوانها، كانت تتشبّه بساحرة إفريقية، حيث ينبغي أن تضع نفسها في حالة من العنف المتهوّر والثورة الجامحة. وعندما تحتدم النيران في عينيها الذابلتين، تندفع في صياح وصراخ ونشيج وغضب مفزع، وتعجن بقبضتيها الألوان اللبنية والسوداء والصفراء على الخيش، ثم تخربش بأظفارها تلك العصيدة الزيتية التي لم تجف بعد. كانوا يطلقون على هذه النزعة مصطلح - الخربشيزم. كان المنظر يبدو في غاية البشاعة. ولكن، والحق يقال، كانت تظهر أعشاب ما مائية، ونجوم، وقصور معلقة في السماء، وشيء ما يزحف ويطير في آن واحد. تهمس نينا في أذن جريشونيا أثناء مراقبتها لجلسة الخربشة - "أليس من الممكن أن تفعل ذلك في هدوء؟" - يجيب جريشونيا وهو يشم زهور السوسن في تلذذ - كما ترين أصبح الأمر غير ممكن، هذا إلهام، وحي، روح، فما العمل؟ الوحي يتجوّل دائماً حيث يريد، وكما يريد، وعيناه تلمعان بالرقة والحنان والتبجيل لتلك الملطخة الممسوسة التي ترسم بلا إتقان. امتلأت يدا ليزافيتا الشبيهتان بعكازين بالقروح من استخدام الزيوت والألوان السامّة، وبمثل تلك القروح امتلأ قلب نينا الغيور المدقوق بمسامير عند طرف السرير إلى جوار جريشونيا. لم تكن تريد أن يكون جريشونيا مشاعاً، ولا أن يشاركها فيه أحد. ينبغي أن تكون العينان الزرقاوان واللحية الشفّافة للكناس الجميل لها هي فقط، وفقط لها هي، فلو كانت تستطيع ألا تكون صديقة عابرة غير مستقرة، بل صاحبة بيت كاملة السلطة. لو كانت تستطيع أن تضع جريشونيا في صندوق وترش عليه النفثالين وتغطيه بخرقة من الخيش ثم تغلق الغطاء وتجلس عليه وهي تهز القفل: هل هو وثيق ومتين؟ أوه، عندئذ - فليحدث ما يحدث، ولتفعل ليزافيتا ما تشاء. لتحيا كما تشاء، ولتخربش لوحاتها، بل ولتقرضها بأسنانها، لتقف حتى على رأسها مثل عمود متأرجح مزيّنة بوردة برتقالية بعقدة على شعرها المزري في المعارض السنوية بالقرب من لوحاتها الهمجية، حمراء اليدين والوجه ينز منها العرق وهي مستعدة على الدوام للبكاء عند الغضب والفرح. لتظل واقفة في الزاوية إلى جوار طاولة متقلقلة وهي تغطي وجهها بيديها تفادياً لنظرات الفضوليين، بينما يكتبون في كتاب الزيارات السميك الأحمر أشياء ستظل مجهولة: من الممكن "بشاعة" أو "روعة" أو أين تنظر الإدارة - كيف انتشر هؤلاء وتغلغلوا في الفن المقدّس الخالد. أوه، لو تنتزع جريشونيا من هذا الوسط المتعفّن الضار، وتزيح عنه النساء الغريبات اللاتي التصقن به مثل محار التصق بقاع سفينة، تنتشله من البحر العاصف تقلّبه وتطليه بالقار وتعيد تنظيفه ثم ترفعه إلى أعلى، إلى مكان هادئ ومريح وأمين! أما هو، غير المبالي هذا، والمستعد دوماً إلى التعلق برقبة أي كلبة في الشارع، يؤوى أي متشرّد مخالف للوقاية الصحية، وينفق نفسه على ذلك الحشد، يفرّق نفسه بالحفنة. روح بسيط، أخذ حقيبة وملأها باللبن الرائب والقشدة وذهب لعيادة ليزافيتا المريضة. كان من الضروري الذهاب معه. يا إلهي، ما بيت الدب هذا، ما هذه الغرفة الصفراء الفظيعة العمياء دون نوافذ، المليئة بالقاذورات! وليزافيتا التي لا يمكن تمييزها إلا بالكاد فوق سرير حديدي تحت بطانية عسكرية تملأ فمّها الأسود بالقشدة البيضاء في سرور وغبطة، وابنة ليزافيتا المرعوبة، البدينة، التي لا تشبه أمها أمام الكراسات المدرسية. "كيف حالك هنا؟" - سأل جريشونيا. تقلّبت ليزافيتا بجوار الحائط الأصفر: "لا بأس". "هل تحتاجين إلى شيء؟" - قال جريشونيا في إلحاح. قرقع السرير الحديدي: "ستفعل ناستيا كل شيء". "ادرسي" - قال الشاعر ماسحاً على رأس ناستيا البدينة وهو يتحرك من مكانه، ثم اختفى في الممر بينما ليزافيتا المنهكة كانت قد استغرقت في النوم. "يجب أن.. أن.. أن ننضم إلى بعضنا، - أشار جريشونيا بيديه بصورة غير محددة وحوّل عينيه - أترين مشاكلها مع السكن، فهي من مدينة "توتما"، تستأجر كرارا وهي على تلك الدرجة من العبقرية، هه؟! أما ابنتها فلديها ميول فنية كبيرة، تصوّر وتشكّل بصورة جيدة، فمن سيعلّمها ويهتم بها في توتما؟". "سوف نتزوج، أنا لك" - ذكّرته نينا في حسم. وكان هو إنساناً رقيقاً.. فقط لولا تلك الحماقات التي برأسه. كان التخلص من ليزافيتا في غاية الصعوبة مثل فصل حاجز من الدود في تفاحة. فعندما حضروا لتغريمها بسبب مخالفتها نظام الإقامة، كانت قد هربت لتتكدّس في مكان آخر. فأرسلتهم نينا وراءها إلى هناك. راحت ليزافيتا تختبئ في الأقبية - فأغرقت نينا الأقبية بالمياه. أخذت تنام في حظيرة الخنازير - فجرّفت نينا الحظيرة. وفي النهاية اختفت ليزافيتا وتحوّلت إلى مجرد شبح. أبلت نينا سبعة أزواج من الأحذية الحديدية في أقسام الميليشيا وفي مصالح الجوازات. حطّمت سبعة عكاكيز حديدية خلف ظهر ليزافيتا. قرضت سبعة كيلوات من الكعك المعدني في غرفة الكنّاس الكريهة - وأصبح من الضروري إقامة العُرس. صار عدد الحشد المبرقش قليلاً. عم البناية هدوء جميل في المساء. صار أي عابر سبيل، إذا ما دفعته الجرأة، يدق الباب باحترام وانضباط، وبعد أن يتأسف على الحضور يمسح قدميه جيداً تحت نظرات نينا. لم يبق إلا القليل أمام جريشونيا للتسكع بالجاروف وتشويه نفسه، ودفن عبقريته في الكثبان الثلجية، فسرعان ما انتقل إلى بيت نينا حيث انتظره مكتب واسع ومتين مغطى بالزجاج. على يسار المكتب - فازة بها غصنان من الصفصاف، وعلى اليمين - صورة نينا، في إطار، بضفيرة محلولة وهي تبتسم، أي كما يقولون "وجهك في إطاره البسيط". وكانت ابتسامتها تعد بأن كل شيء سيكون على ما يرام.. الشبع.. الدفء.. النظافة، وأن نينا ستذهب بنفسها إلى الرفيق ماكوشكين كي تحل القضية المؤجلة بخصوص الديوان، وسترجو الرفيق ماكوشكين أن يعيد النظر في المادة باهتمام، وتعطي نصائح بتعديل شيء ما، وتقسيم حلاوة إبداع جريشونيا إلى قطع صغيرة حلوة يمكن أن تؤكل. سمحت نينا لجريشونيا بأن يودّع أصدقاءه للمرة الأخيرة، وفي العشاء الأخير تجمّع جيش عرمرم - فتيات ونساء دميمات، عجائز وصائغون، وجاء ثلاثة من راقصي الباليه بعيون نسائية يجرون أقدامهم، وزحف أعرج على عكازين يسحب معه أعمى، وترددت ليزافيتا الشبح وقد أصبحت تقريباً بلا جسد. اجتمع الحشد كله، أخذ يطن، اندلق مثل القمامة من مكنسة تدور بالعكس. بدأ بعض الملتحين ينصرفون. أخذت جدران البناية تهتز بفعل حركة الحشد البشري. علا الصياح والبكاء والهستيريا. حطّموا الأطباق. انشغل الصبيان - راقصو الباليه بآجنيا التاريخية، أغلقوا الباب على شعرها. عضت ليزافيتا الشبح يدها، أخذت تتمرّغ على الأرض وتطالبهم بأن يدوسوها بأقدامهم - فاحترموا رغبتها. قاد الشمّاس الرجل التونجوسي إلى الزاوية، أخذ يسأله بالإشارات عن الديانة التي يعتنقونها. أجاب التونجوسي، بالإشارات أيضاً، بأن ديانتهم أفضل ديانة. ضرب جريشونيا جبهته الخزفية بالحائط، وصاح أنه لا بأس، وأنه سيموت، ولكن بعد الموت، سترون - سيعود ثانية إلى أصدقائه ولن يفارقهم بعد ذلك أبداً. لم ترق هذه الكلمات للشماس، ولم ترض عنها نينا أيضاً. اختفت جميع الشياطين مع اقتراب الصباح، ووضعت نينا جريشونيا في سيارة التاكسي وحملته إلى قلعتها الكريستالية. .. آه، أتعرفون، لا أحد يمكنه أن يرسم بورتريه لحبيبه وهو يدك عينيه الناعستين، ويدفع بقدمه الشابّة المشعرة من تحت الغطاء، ويتثاءب فاتحاً فمه عن آخره! وأنت تنظرين إليه كالمسحورة، فكل شيء فيه لك، ملكك: عيوب الأسنان ونقائصها، صلعته، شعر ذقته الرائع! وأنت، تشعرين بنفسك ملكة، الناس في الشارع يفسحون لك الطريق، الزملاء يحنون رءوسهم باحترام، وأركادي بوريسيتش يقدم لك في تبجيل يده الملفوفة في ورقة معقّمة. رائع أن تطببي مرضى يثقون بك، رائع أن تحملي إلى البيت يومياً حقيبة مليئة بالأشياء الطيبة، رائع أن تراجعي في المساء، كأخت مهتمة، ما كتبه جريشونيا طوال اليوم. ولكنه كان ضعيفاً، بكى كثيراً، رفض الأكل، ورفض أن يكتب سطوراً مستقيمة على الورق الأبيض، ظل يلتقط، حسب العادة، الأشياء الصغيرة من الأرض، وعلب السجائر، ويشخبط، ويرسم زوايا ومنحنيات. أخذ يكتب عن طريق أصفر - أصفر. كل شيء عن الطريق الأصفر، وعلى الطريق نجمة بيضاء. ونينا تهز رأسها: "فكر قليلاً، يا قمري، لا يمكن حمل هذه الأشعار إلى الرفيق ماكوشكين. يجب أن تفكر في الديوان، فنحن نعيش في عالم واقعي". ولكنه لم يكن ينصت إليها. واصل الكتابة عن النجمة والطريق. بدأت نينا تصيح: "هل فهمتني، يا قمري؟! حذار أن تكتب مثل هذا!" فأجفل ووضع رأسه بين يديه، قالت نينا التي هدأت من نفسها: "هيا، هيا" - وضعته في الفراش، أطعمته الزيزفون، وسقته النعناع، أطعمته الأدونيس والبوسترنيك، ولكنه كان جاحداً، يبكي دون دموع، ويقرض شعراً مهيناً لنينا عن أن البوسترنيك نما في قلبه وأهلك بستانه وغابته الحيّة، وغراب ما يخطف النجمة الأخيرة من السماء الصامتة، وجريشونيا كما لو كان بداخل بيت ريفي غير محدد يدفع الباب الذي انغلق وتجمّد، ولكنه لا يستطيع الخروج، ومن بعيد يتناهى صوت دقات كعبي حذاء أحمر.."حذاء مَن هذا- ؟ "لوّحت نينا بالورقة - يهمني ببساطة أن أعرف: حذاء مَن هذا?"،"أنت لا تفهمين أي شيء" - انتزع جريشونيا الورقة. "لا، إنني أفهم كل شيء جيداً" - أجابت نينا بمرارة - "أريد فقط أن أعرف حذاء مَن هذا، وأين يدق?" "آ.. ا.. ه!!! يدق عندي أنا، في رأسي!!!" - صاح جريشونيا وهو يغطي رأسه بالبطانية، وانطلقت نينا إلى المرحاض، مزّقت الأشعار وألقت بها إلى الجحيم. راحت تفتش مكتبه مرة في الأسبوع، وتلقي بالأشعار التي لا يجوز لرجل متزوج أن يكتبها، وكثيراً ما كانت توقظه ليلاً لتحقق معه: هل يكتب من أجل الرفيق ماكوشكين أم يتكاسل? وكان يغطي وجهه بيديه دون أن يقوى على احتمال الضوء الساطع لحقيقتها التي لا ترحم. وهكذا عاشا في نكد وتعاسة طوال عامين. ولكنه، على الرغم من إحاطتها له بكل الرعاية والاهتمام، لم يقدّر حبّها، وكف تماماً عن المحاولة، راح يلف ويدور متسكّعاً في الشقة، متمتماً بأنه سوف يموت ويردمونه بالتراب، سيرقد بلا حراك في المقابر الطينية الباردة، ستنهال على قبة قبره كوبيكات الصدقة المذهّبة، وسيختفي الصليب الخشبي أو الهرم المصنوع من الخشب الرقائقي - أو أي شيء لا يبخلون به عليه والسلام - تحت الأمطار الخريفية. سوف ينسونه على أي حال، ولن يأتي أحد إليه، اللهم إلا عابر سبيل تافه يمكن أن يتوقف لدقيقة واحدة يتألم فيها. وبدأ يتشوش وينحرف عن الإيقاع الشعري، ويكتب أشياء مبعثرة مثل فروع شجر الشوح: مقفاة، وغير مقفاة، وسردا كئيباً. وبدلاً من ألسنة النار الحقيقية النابعة من أبيات الشعر، تصاعد ذلك الدخان الأبيض الخانق، حتى أن نينا كانت تسعل بشدة، وتلوح بيديها، وتصيح وهي تكاد تختنق: "كف عن الكتابة!!!". بعد ذلك حكى لها الناس الطيبون عن أن جريشونيا يريد العودة إلى البناية الجانبية، وأنه ذهب إلى الكناسة الجديدة التي جاءت بدلاً منه - امرأة بدينة - وساومها كم تتقاضى لتتخلى له عن حياته السابقة. ولكن المرأة تخلت أثناء المفاوضات. بيد أن نينا كانت على علاقة بالإدارة الصحية، فأخذت تلمح هناك بوجود مبنى رائع مكوّن من ثلاثة طوابق في وسط المدينة ومن الممكن استخدامه كمقر للإدارة. ومصادفة، كانوا هم أيضاً يبحثون عن مكان، فقدموا لها شكرهم، في الإدارة الصحية، وسرعان ما اختفت غرفة الكناس، وحطّموا المدفأة، وقام أحد المعاهد الطبية بنقل أقسامه إلى البناية. صمت جريشونيا. ظل ما يقرب من الأسبوعين هادئاً ومطيعاً، بعدها صار مرحاً وطروباً، يغني في الحمام، ويضحك، ويتحدث بخفوت إلى نفسه. لماذا أنت هكذا فرح وطروب? - أخذت نينا تحقق معه. فتح جوازه وأشار نحو مساحة زرقاء مختومة بختم بنفسجي كبير "غير خاضع للدفن"، ماذا يعني ذلك؟ - سألت نينا في فزع. ضحك جريشونيا ثانية وأخبرها بأنه باع جثته لأكاديمية العلوم بمبلغ ستين روبلا، وأن رفاته ستعيش بينما تزول رائحته. وأنه لن يرقد، كما كان يخشى، في الأرض الرطبة، وإنما سيقف بين الناس مربوطاً بالخيط وعليه رقم في صالة دافئة نظيفة، وسوف يربت الطلاب - الظرفاء - على كتفه، وينقرون على جبهته، ويضيفونه السجائر، كم فكر بشكل جيد، ولم يعد يجيب على صياح نينا وصراخها، وواصل رقاده مستلقياً. ولكن، فقط، دع نينا تعرف أنها اعتباراً من الآن ستعانق أملاكاً حكومية، وستتحمل مسئولية مادية أمام القانون عن مبلغ ستين روبلا وخمسة وعشرين كوبيكا. وهكذا، منذ تلك اللحظة، كما قالت نينا، بدأ حبّهما يتعثّر ويسير بشكل سيئ، انها لم تستطع أن تتوهّج بشوق كامل مع ممتلكات عامة، وتقبل عهدة أكاديمية، ولم تعد تملك فيه شيئاً. أي أحاسيس ينبغي أن تنتابها هي، تلك المرأة العادية، الرائعة، الطبيبة، الجديرة، دون شك، بالحصول على نصيبها مثل الجميع - فالمرأة التي تناضل، كما علّمونا جميعاً، من أجل سعادتها الخاصة، تمتلك الحق في النضال؟ وبصرف النظر عن المرارة التي سبّبها لها، بقيت لديها على أي حال، كما قالت هي، أحاسيس صافية جداً، وإذا كان الحب قد جاء ليس بالشكل المطلوب، كما كانت تحلم، فليست نينا هي المذنبة، وإنما الحياة. فقد ظلت متأثرة جداً بعد وفاته، وتعاطفت معها صديقاتها، بل وحتى ساعدوها في العمل، منحوها عشرة أيام على نفقتهم. وعندما انتهت جميع الإجراءات، راحت نينا تزور الأصدقاء وتحكي لهم عن أن جريشونيا الآن يقف في البناية الجانبية ككتاب مدرسي، وسمروا له رقماً باعتباره عهدة، وأنها قد ذهبت لتتفرج: بالليل في الخزانة، وطوال الوقت مع الناس. حكت نينا أيضاً أنها في البداية حزنت جداً لكل ما حدث، ثم صارت الأمور على ما يرام، هدأت عندما حكت لها امرأة لطيفة مات أيضاً زوجها عنها، بأنها على سبيل المثال تعيش راضية، والمسألة أن هذه المرأة تملك شقة من غرفتين، وأنها كانت دائماً تريد أن تؤسس غرفة منهما على الطراز الروسي بحيث تكون الطاولة فقط في وسطها، ولا شيء أكثر من ذلك، وفي الجوانب كلها مقاعد طويلة فقط، بسيطة للغاية ودون تشذيب، وتعلق على جميع الجدران أي أخفاف من الليف وأيقونات ومناجل ومغازل - أي شيء من هذا القبيل! والآن، بعد أن خلت لديها إحدى الغرف، فعلت المرأة كما كانت تريد. وصارت هذه الغرفة للطعام، والضيوف يثنون عليها جداً.