ظاهرة ستيفن كنج في داخل كل منا طفل.. وغول

ظاهرة ستيفن كنج في داخل كل منا طفل.. وغول

"ستيفن كنج" المولود عام 1947 يشكل ظاهرة أدبية في الولايات المتحدة وفي بقاع متعددة في العالم منذ أكثر من ربع قرن.. أي قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من العمر.

عندما قدمته مجلة العربي في أغسطس 1983، في المقال الوحيد المكتوب عنه باللغة العربية حتى الآن، كان التصور أن "كنج" هو واحد من شهب الرواية الشعبية الحديثة، يمكنه أن ينطفئ بسرعة وأن تبرد جذوته، سواء باستهلاك نفسه، أو بظهور أسماء جديدة، يمكنها أن تقلل من أهميته، أو أن تقلص من حجمه.

لكن كل هذه التصورات بدت كاذبة..

ويوما وراء يوم، تزداد هذه الظاهرة الشهاب لمعانا وتوهجا، فيزداد الإقبال على إبداعه، وترتفع أرقام مبيعات رواياته الجديدة إلى أعلى سلم التوزيع.. ويتهافت المنتجون على ما يكتبه ويحولونه إلى أفلام تحقق نفس التوهج، وترشح لجوائز أوسكار عديدة.

وفي أوائل عام 2000 فاجأ كنج العالم بأن أعلن أنه سوف يكون أول كاتب يؤلف روايته الجديدة مباشرة على شبكة الإنترنت، معلنا بذلك ظهور لون جديد من الوسيط الإبداعي، ظل الجميع متخوفا منه، وحذرا من التعامل معه، فإذا بالكاتب الأكثر توزيعا في العالم يخترقه بكل قوة غير هياب للعواقب، وكأنه المجهول الغامض الذي يتسيد عالمه الروائي.

ستيفن كنج، ليس مجرد روائي، بل هو أيضا كاتب سيناريو، ودفعه جنون المغامرة إلى التمثيل السينمائي والإخراج.. حصيلته الآن أكثر من مليون قارئ لكل رواية، و30 فيلما، ومليارات الدولارات وأيضا متابعات نقدية حولته من مجرد روائي يكتب قصصا عن الرعب إلى أديب تنعكس مواقفه من الحياة على أبطاله، مثلما حدث في فيلم "الميل الأخضر" الذي أخرجه فرانك دارا بونت أخيرا.

قوى جديدة

وإذا كان الكاتب قد اهتم دوما بالتوغل داخل القوى الخفية في الكائنات الحية، خاصة الإنسان مثل التخاطر وتحريك الأشياء عن بعد "التلكنيسيس" والإشراق، والتواصل الروحي في روايات عديدة، منها "كاري" و"إشراق" و"الوباء"، فإن الكاتب مع كل رواية جديدة كان يبحث عن قوى جديدة مختلفة، وظواهر مختلفة، قد لا يمكن تسميتها علميا، لكنها موجودة لدى بعض البشر.

وهذه الظواهر قد تكسب أصحابها قوة ً، لكنها في نفس الوقت تعد بمثابة وبال عليهم تأتي لهم بالكوارث، والفواجع، وتنتهي بالموت والجنون داخل دهاليز مليئة بالغموض، والدماء.

وقبل أن نتحدث عن إبداع الكاتب في العقد الأخير، فإنه من المهم الإشارة إلى ما ذكرته مجلة "لير" حول الكتاب الأكثر مبيعا في الثمانينيات، حيث حصل عام 1989 على 26 مليون دولار عن حقوقه عن أربع روايات يعتزم تأليفها. حيث تباع من رواياته مليون نسخة في طبعتها الأمريكية الأولى. وأنه يظل دوما على قمة المبيعات. ففي دراسة نشرتها مجلة "بانوراما" الإيطالية أن كنج يبيع من كل رواياته 10 ملايين نسخة وأن هناك مسافة واسعة بين مبيعات رواياته، وأعمال كتاب الرواية، البوليسية، والجاسوسية، والعلمية، وعلى رأسهم مايكل كرايتون، جون جريشام، جون لوكاريه، وتوم كلابس، وويلبورسميث وآخرون.

روايات المفاجآت

يحاول "كنج" دوما البحث عما هو مثير في الكوامن الخفية للإنسان، وعن القدرات الخارقة التي وهبها الله لبعض البشر، وتجيء أهمية هذه القدرات من أن السماء منحتها لبشر طيبين، مغلوبين على أمرهم، يقعون دوما في أزمات بسبب مواقف الآخرين، الشريرة، وهم لا يستخدمون هذه القدرات إلا عند الضرورة القصوى، وكأنهم بذلك ينفذون قصاصا قدريا لابد أن يتم بأي شكل، مادامت العدالة لم تمس هؤلاء الأشرار بطريق أو بآخر.

ومن هنا تأتي أهمية أعمال الكاتب، فهي ليست مجرد روايات ممزوجة بالدماء والرعب مثل ألوف الروايات الموجودة على أرفف المكتبات، ولكن كنج يحاول دوما أن يعطي لسلوك أبطاله معنى، خاصة في علاقة كل منهم بالحياة والكون، ويحاول المؤلف أن يعرض الكثيرين منهم لصدمات حياتية وأن يقفوا قبالة الموت كي يفهموا معناه، بتجاوزه أحيانا، وبدخول دهاليزه الغامضة في أحيان أخرى.

ولعل الخاتمة التي جاءت في فيلم "الميل الأخضر" قد عكست هذه الرؤى.. فالرجل العجوز بول، الذي تجاوز المائة، يقول بعد أن روى حكاية مسافة الميل الأخضر التي تفصل بين زنازين المحكوم عليهم بالاعدام، وغرفة مقعد الإعدام، إن لكل إنسان منا ميله الأخضر الذي يمشي عليه بين الميلاد والموت، وأنه مهما طال الميل أو قصر فهو محدود المسافة ولابد من البداية.. وأيضا النهاية.

إذن.. فالحكاية ليست مجرد إثارة تخويف القارئ، أو الدخول معه إلى دهاليز غامضة، بقدر ما هو تواصل إنساني، وإلقاء الضوء على فكر إنساني، ومعان ذوات قيمة، مادامت هذه الظواهر تسكن الإنسان في داخله، غير بادية عليه من الخارج، وهي أمور نادرة للغاية، لا يهبها الله إلا لقلة بالغة الندرة من البشر وهي موجودة رغم دهشة الناس خاصة الذين يتعاملون معها على أنها مجرد أشياء ربما وراء الواقع.

وأصحاب هذه الظواهر قد يكونون من العذارى، أو الأطفال مثل "كاري" في رواية تحمل نفس الاسم، وهي فتاة تنتقل من الطفولة إلى مرحلة البلوغ، شديدة الخجل، تعيش مع أم تعاني من كبت شديد بسبب هجران زوجها لها، فتعكس تجربتها على صغيرتها، وتحاول منعها من مخالطة الشباب، مما يجعل اقرانها يسخرون منها ويدفعون بواحد منهم إلى التظاهر بأنه يحبها، وسيخطبها، ويختارونها ملكة جمال حفل المدرسة، وفي قمة لحظة سعادتها، يرمون فوقها بدماء الخنازير، وعلى الفور تتنامى دون أن تملك لنفسها القدرة على التراجع، ظاهرة تحريك الأشياء عن بعد، ووسط صراخها، تنغلق الأبواب وتندلع النيران في المكان الذي يتحول إلى جحيم.

هذه واحدة من أولى روايات الكاتب المهمة، والتي تحولت عام 1976 إلى فيلم أخرجه بريان دي بالما، فهز مشاعر الناس، مثلما فعلت الرواية. وتحولت مرة أخرى إلى فيلم بعنوان "كاري" عام 1999 لكنه لم يلق نفس النجاح.. بالطبع لأن السينما أخذت شكل الحدوتة دون التعمق في معناها الذي يقصده الكاتب.

وبعد أن تحول كنج إلى ظاهرة، كان السؤال هو: هل هو كاتب روايات المفاجآت، التي تتبع نفس عائلات الرواية البوليسية، وقصص التجسس، وهل تقاس عظمة الإبداع بكمية المبيع منه للناس? ودافع عنه البعض بأنه موهوب حتى أطراف أظفاره كما أن لديه تقنية خاصة في الكتابة جعلت مذاقه مختلفا.وحسب ما جاء في مجلة "الأكسبريس" ـ 30 ديسمبر 1988 ـ بمناسبة صدور الطبعة الفرنسية من رواية "IT" فإن كنج كان يضع عينيه على إبداع وسلوك كتاب موهوبين، من طراز ج. د. سالينجر، وتوماس بيشون اللذين اعتزلا العالم دون سبب ظاهر، وهربا من كاميرات المتلصصين، وصارا بمثابة ظواهر غامضة للناس، لماذا يتصرفان على هذه الشاكلة، وهل هو نوع من الجنون، أم خروج عن المألوف المهووس؟

وعلى سبيل المثال، فإن رواية "IT" تقع في 1100 صفحة، أي لابد أن تتمتع بتقنية خاصة في الكتابة كي تدفع القارئ إلى التهامها. وقد قسم الرواية حسب الحروف الهجائية. وأبطال الرواية هم كالعادة، أطفال، أو أبرياء، عددهم سبعة، يمارسون بعض الألعاب الغريبة، التي منعهم الآباء من ممارستها، تبدو في أول الأمر مسلية تبعث على الضحك والتسلية لكنها تتحول إلى ألعاب دامية، وكأنما صارت تحس، وتتألم، عليها أن تعاقب من يلعبون بها، بل وأن تطاردهم للتخلص منهم. ويخلص الكاتب في روايته إلى أن في داخل كل منا شيئين لا يموتان: الطفل البريء، والغول المتوحش.

فالطفل يتحرك فينا كي يدفعنا إلى العودة للبراءة كلما توغلنا في أروقة النضج الحسي، والعمري. أما الغول فهو الذي يرفض العودة إلى طفولته، ولديه شعائره السرية، وألعابه، وهذيانه ورغباته ومتاعبه. وفي الرواية فإن الإطفال السبعة يصبحون من الغيلان عندما يتجاوزون مرحلة البلوغ.

ويوحي الكاتب أن عالمه ليس قائما على الخرافات، ولكنه توغل حقيقي في عالم النفس، تلك المتاهات المتداخلة، السحيقة الأغوار، فيقول" مجلة لوبوان 31 يوليو 1989" " أنا مستعد أن أذهب إلى أبعد ما ينبغي حتى يقتنع القارئ أنه قد وقع بين يدي محلل نفسي مجنون. فالكتابة بالنسبة لي هي توغل في التحليل النفساني. وهي وسيلتي القديمة لطرد الأرواح الشريرة عن كوامني. أستطيع أن أجول فوق الورق بمعاناتي، وبمشاعري بعدم الأمان، وبالرعب المرير الذي يصرف عليه الآخرون الملايين من أجل التخلص منه بالذهاب إلى العيادات النفسية. أما أنا فأدفع لنفسي لأشفى من أمراضي".

ولم يضع كنج نفسه أسيرا لتوليد الرعب لدى قرائه، ففي روايته "ميزيري" نحن أمام كاتب روائي يكتب القصص الشعبية، وله ملايين القراء يعيش مع زوجته في بيت هادئ، بلا متاعب، يقرر أن يقتل الشخصية الرئيسية في رواياته التي أحبها القراء، واسمها "ميزيري". ويحس المؤلف بأنه قد تحرر من قبضة هذا البطل عليه. وأنه يجب أن يؤلف كتابا حقيقيا. ويتعرف على ممرضة أحبت "ميزيري" كثيرا تطارد المؤلف، وتدفعه إلى أن يكتب رواية جديدة، يعيد فيها إحياء بطله الميت، ويرفض، فتطارده وتهدده بالقتل فيمتثل لها، ويكتب رواية جديدة، لكن "ميزيري" الذي يظهر من جديد ليس هو نفسه الذي كان في الروايات السابقة.

إنها ليست محنة المؤلفة نفسه، بل هي أيضا محنة "كنج" الذي لعله ود أن يتخلص من أشباح الرعب والظواهر الخفية، فلم يستطع. لذا فإن المؤلف هنا محبوس داخل زنازين متداخلة، الواحدة منها تفتح على الأخرى، فإذا تصور أنه خرج من واحدة منها وجد نفسه في أخرى، حتى إذا سعى للإفلات من جدرانها، فوجىء بانه في اطار أسوار الثالثة.

تقنيات الأسلوب

إذن.. فستيفن كنج يمتلك شيئين مهمين معا، تقنية الأسلوب الشديد الجاذبية، وأيضا الموضوع البراق، وبذلك استطاع أن يجد لكتاباته مساحات واسعة مثل هذه الملفات إلا لكتاب كبار من طراز ألبير كامي، ومرجريت دوراس، خاصة أن الذي أشرف على هذا الملف ـ مارس 1990 ـ هو بير آصولين الرجل الأول في المجلة، وكان كينج آنذاك في الثالثة والأربعين من العمر. واعتبرته المجلة آنذاك حالة متطورة من ادجار الان بو. وأنه علامة في تاريخ الأدب الذي شارك فيه كل من روبرت بلوش مؤلف رواية "نفوس معقدة" ،ومبتدع شخصية "شرلوك هولمز" الكاتب الإنجليزي آرثر كونان دويل.

وقد أشارت المجلة إلى أن الكاتب يسعى دوما إلى طرد الخوف من داخله الذي ترسب فيه منذ طفولته، "أخاف أن أصير مجنونا. فالظلام يخيفني كثيرا.. أحس أنني قد أصبح مجنونا بين ليلة وضحاها. فقد تسير في الشارع، وتسقط فجأة، أحس أحيانا أنني قد اتحول إلى كرة يدفعها صبية الشوارع بأقدامهم.. مشاعر أنني قد أصبح مجنونا متأصلة في داخلي".

ويؤمن كنج بأن الخوف ظاهرة إنسانية موجودة في داخل كل منا بدرجات، وأن هذه النسخ المبيعة من رواياته، والمشاهدين الكثيرين الذين يذهبون لرؤية أفلام مأخوذة عن قصصه إنما يطرد الخوف من أعماقهم برؤية آخرين يعيشون في ظروف نفسية وحياتية أصعب.

وأهم ما في هذا الملف الذي فتحته المجلة، أنها نشرت أسباب إعجاب القراء بهذه الروايات، حيث كتب أكثر من عشرة من قرائه تفسيرات لهذا الإعجاب. حيث رأى الرسام "33 سنة" ما أحبه في ستيفن كنج "أن عالمه الفنتازي يدور في إطار الحياة اليومية وبأشخاص عاديين. ولاشك أن طول إيقاع الأحداث يسمح بإظهار العنصر النفسي العميق لأبطاله. فنحن نرى فيهم المواقف الإنسانية في قمة تطرفها، بالإضافة إلى التحليل النفسي العميق، أكثر من بقية الأدباء الذين ينتمون إلى هذا العالم. فكتاباته السهلة مليئة بالتركيز. وأحداث روايته تدور في "مين" التي عاش فيها طفولته. وهو في حاجة إلى أن يؤصل جذوره. وهذا يعجبني كثيرا".

ستيفن كنج لايزال يعيش في ولاية "مين" في مدينة بانجور التي لا يزيد عدد سكانها على الـ 35 ألف نسمة التي ولد بها عام 1947، الأب عمل خبيرا كهربيا في غرب الولايات المتحدة، وأم وفرت سبل الراحة لأسرتها كانت تردد لابنها دوما:" لو كنت بنتا لعدت إلى روما فاقدا عذريتك" وقد بدت الأم شديدة الصرامة مع ولديها من أجل أن يكونا مواطنين صالحين. وفي عام 1960 اكتشف ستيفن كنزا لا يقدر بثمن، يتمثل في مكتبة أبيه المهملة. وبدأ الكتابة على غرار الروايات التي يقرأها، ولم يكف عن الكتابة والقراءة منذ ذلك الحين، ونشر روايته الأولى "ساحرات ساليم" عام .1972 ثم تتابعت رواياته التي تحولت إلى أفلام جلبت له شهرة أوسع، منها "كاري" ثم "إشراق" و"المنطقةالميتة"، و"كرستين"، و"المطاردة"، "ميزيري"، "كوجو"، "مشعلة النيران"، "عين القط"، "حكايات من الجانب المظلم"، "السائرون نياما"، "الرصاصة العقدية"، "شوشانك"، وكان آخرها "الميل الأخضر". وهناك الكثير من هذه الأعمال التي رشحت للعديد من جوائز الأوسكار وحصلت عليها بالفعل.

والغريب أن السينما بدت بالنسبة لستيفن كنج ظاهرة خفية بالغة السحر، حيث جذبته بقوة فاتجه إلى الإخراج عام 1992 في فيلم "السرعة القصوى". كما قام بكتابة سيناريو مأخوذ عن روايته باسم "العرض المعلن" وقام في نفس الفيلم بالتمثيل في دور رئيسي، وهو من إخراج جورج روميرو، وكانت هذه العلاقة على حساب صلته بالادب، حيث لم يعد نفس الكاتب غزير الإنتاج في السنوات الاخيرة. وصار الناس يرون أعماله على الشاشة أكثر مما يقرأون له أعمالا جديدة، ولعل تجربته الأخيرة بتأليف رواية للنشر فقط في الإنترنت لم تترك صداها بعد، لكن لاشك أن كل هذا يمثل ظاهرة اسمها "ستيفن كنج"

 

محمود قاسم

 
  




مشهد من فيلم اقتبس عن روايات ستيفن كنج





مشهد من فيلم اقتبس عن روايات ستيفن كنج





دفاع عن النفس حتى آخر رمق





ورؤى مفزعة تكمن كلها في صفحات روايات ستيفن كنج





وحوش مشوهة





الميل الأخضر فيلم الخير والشر الكامن في أعماق كل منا





فيلم التألق من أخراج ستانلي كوبريك عن رواية لكنج





جاك نيكلسون في فيلم تالق وهو يجسد حالة من الاحساس بالاضطهاد والتوهم