القارئ الميْت ما معنى محنة الشعر اليوم؟

القارئ الميْت ما معنى محنة الشعر اليوم؟

هل مات قارئ الشعر حقا؟ وهل ستطيع الشعراء فك عزلتهم؟

في جلسة ضمّتنا مع الشاعر اللبناني المعروف سعيد عقل، سألته عن رأيه في أدونيس، وكانت قد أثيرت حوله ضجّة كبيرة في مصر، فأجابني باقتضاب: لا أقرؤه..

قلت مستنكراً: أنتَ، إذنْ، لا تعرفه. وأضفت: لا يُسمح لشاعر مثلك، بألا يقرأ شاعراً مثله.

عدّل سعيد عقل في جلسته قليلاً، وقال: سأشرح لك معنى قولي "لا أقرؤه"، فمن عادات القراءة لديّ، أن أتناول الكتاب، فأقرأ منه، من عشرة أسطر إلى عشر صفحات، فإمّا أرميه جانباً، أو أتابع قراءته حتى النهاية.

فسعيد عقل، بهذا المعنى، قارئ مجرّب، بل بَرم أو ملول. وقد يصل أحدنا، بعد طول مراس في القراءة، إلى هذه النقطة أو تلك من عدم احتمال ما لا يسيغه ذوقه أو فكره أو خياله، وربما كان قبل ذلك جلوداً على تحمّل العنت في القراءة، أو شغوفاً في فك مغاليقها ورموزها، بحيث تصل القراءة إلى ما يشبه مكابدة الكتابة نفسها، من قلق وغوص على المعنى.. هنا يغدو القارئ شريكاً للكاتب في عمله، وهي أسمى أنواع الشراكة، في هذه العلاقة المركّبة بين الكاتب والقارئ والعمل الإبداعي المتوسط بينهما.

هذا على أننا لا نأخذ رأي سعيد عقل في أدونيس، جلستئذ، حجة، فلنا عليه مآخذ شتّى في تعامله مع الحداثة الغربية والعربية معاً.

فهو مذ كان يدرّسنا علم الجمال في الستينيات من هذا القرن، في دار المعلمين التكميلية، حتى اليوم، لايزال مستقراً عند جملة أفكار وقناعات في الفن والشعر والحداثة، لا يغادرها، فأصبح أسيراً لها، وقد أعاقت تطوّره الفكري والشعري معاً، فشعره واقف عند حدود رمزيّة الثلاثينيات، وفكره كشعره، لم يخض مغامرة الحداثة بتلاطمها وحيويتها وأفقها المفتوح على اللامعقول والغرابة والتجريب.

طبقات القراء

وعلاقة القارئ بما يقرأ، علاقة ذات مستويات متباينة، والقراءة تبعاً لذلك طبقات، على غرار طبقات الشعراء والمغنين والفقهاء والقرّاء والمؤرخين، وما أشبه ذلك مما ساد في التراث العربي، حيث عُرفت كتُب الطبقات على نطاق واسع، فكتاب "طبقات الأطباء" لابن أبي أصيبعة، على سبيل المثال، كتاب مشهور، ومثله كتاب "طبقات الشعراء" لابن قتيبة الدينوري، فلماذا لا نفكّر اليوم بطبقات القرّاء؟

إنها مازالت طريّة في الذاكرة، على طول العهد، تلك المناظرة المشهورة التي جرت في الأربعينيات، في الجامعة الأمريكية في بيروت، بين عميد الأدب العربي في حينه، الدكتور طه حسين والأديب الماركسي اللبناني رئيف خوري، حول موضوعه "لمَن يكتب الكاتب؟ للعامّة أم للخاصّة..؟".

وكان حماس الاشتراكيين والشيوعيين يومها في أوجه، حيث احتشدوا في القاعة، معتقدين أن حجّة أديبهم رئيف خوري في أن الكاتب يكتب للعامة، ستكون الأقوى في مواجهة رأي طه حسين الذي أعطي دور الدفاع عن الكتابة للخاصة. وبدأت المناظرة برئيف خوري الذي أسهب في حشد حججه الاشتراكية في الكتابة للعامة، وحين جاء دور طه حسين، قلب القاعة رأساً على عقب بكلمات معدودة، قال باختصار: إن الكاتب لا يكتب لا للعامة ولا للخاصّة، ولكنه يكتب لمَن يقرأ.

شعر بلا قرّاء

فمن هو القارئ يا ترى.؟

سنحاول الإجابة هنا عن فئة من القرّاء تحديداً، هم قرّاء الشعر، فثمة ضجّة عالية في صف الشعر تقول إنه أصبح تقريباً، بلا قرّاء، أو كما يقول الشاعر الفرنسي السريالي الراحل جان تارديو، صاحب ديوان "نهارات مرمّدة": "لقد كان الشعر قارّة فسيحة، فأصبح جزيرة معزولة". فمسألة عزلة الشعر والشعراء، هي من أبرز مسائل نهايات القرن.

و "القارئ الميت" هو المشيح بوجهه عن الشعر، إشاحة تامّة، أو المُزوَرّ عنه، قراءة وسماعاً واهتماماً، وإشارات هذا "القارئ الميت"، بل الدلالات عليه، كثيرة، وهي ليست إشارات عربية فحسب، بل عالمية، وفي كل اللغات، فكُتب الشعر في معارض الكتب العربية والعالمية، هي الأدنى في إحصاءات المبيعات، وتسبقها كتب السياسة والتراث والدين والطلاسم والسحر "في المعارض العربية" وكتب الطبخ دائماً تسبقها بدرجات، حتى يكاد يكون كتاب الشعر يتيماً في المعارض، بل هو يتيم المعارض الحزين، الواقف وحيداً في عصر النهايات، وهو يتيم الناشرين أيضاً، فحين يزورُّ القارئ عن كتاب الشعر، يزورّ الناشر عن نشره، فهو أيضاً سلعة، إلى جانب كونه فنّاً من فنون البشرية العريقة، وللناشر حساب التاجر مع حساب الفنّان، ولعله أصبح مشهداً مألوفا، مشهد الشعراء في العالم، سواء كانوا مشهورين وذوي مقام في الشعر، أو مبتدئين في مجموعاتهم الأولى، أن يحملوا مخطوطاتهم إلى دور النشر فترفضها، إلا بشرط أن يموّل الشاعر طباعة كتابه، ويلجأ الكثيرون منهم إلى طبعات فقيرة قليلة النسخ "لا تتجاوز الألف عادة" من دواوينهم توزّع باليد على الأصدقاء والمشجّعين، هذه العادة درجت في فرنسا من عدة أعوام خلت، وتدرج اليوم في لبنان ودول عربية أخرى، وهي ليست حلاّ للمأزق، بل كأنها إحداث فسخ صغير في جدار مصمت.

بدأ الشعراء الأمريكيون، منذ الخمسينيات، وتحديداً انطلاقاً من الشاعر ألن غنسبرغ صاحب قصيدة "عواء"، وجماعة "البيت Beat" الشعرية، يحاولون الخروج من عنق الزجاجة، باستعمال الأظفار، وجرح صورة المجتمع وملامحه بعنف، من خلال إطلاق الصراخ والشتائم في قصائدهم، ومحاولات العودة للبدائية، وإشهار العدمية في مواجهة المنجز التاريخي البشري المتمثل بانتصار النموذج الأمريكي، وقد استعاد هؤلاء الشعراء طقوس شفاهية القصيدة، وإلقائها مع مؤثرات صوتية، في الساحات العامة، والأزقّة، والحدائق، ومحطات المترو، وقد وصل بهم اندفاعهم لقراءة قصائدهم في السجون ومواخير ممارسي الماريجوانا، وبيوت المومسات، وتبع ألن غنسبرغ وجماعته، شعراء فرنسيون معاصرون، من أمثال سرج بي -Serge Peay - الذي أطلق طقوس شفاهية الشعر إلى حدودها القصوى، ووصل في قراءة قصيدته إلى حدود السحر والشعوذة، واللعب بالصوت واستخدام مؤثرات سمعية وبصرية مساعدة على تشخيص أو تمثيل القصيدة، كإضاءة الشموع على المسرح فوق كومات من الرمل، وتحريك صور من خيال الظلّ على شاشة وراء الشاعر، واستعمال الخشخشة من خلال دفوف أو إنبات آلة تسجيل تستعيد أصوات رياح أو أمواج بحر أو ما أشبه ذلك من مؤثرات صوتية مرافقة للإلقاء. ذلك ما فعله سرج بي، على سبيل المثال، في ملتقى كافالا الشعري لشعراء حوض البحر الأبيض المتوسط الذي شهدناه عام 1998 في تلك المدينة اليونانية القائمة على شاطئ المتوسط، فقد صعد إلى المسرح حاملاً بيده عصيين، ورابطاً بقدميه إطارات لإحداث خشخشة، وأضاء الشموع وفتح المسجّلة، وصالب العصيين بيديه في وجه المستعمين، وبدأ يقرأ قصائده نقلاً عن هاتين العصيين، حيث كان قد كتبها عليهما، قال مقدّماً لقراءته: العصا تقود الأعمى، وهي هنا تقودني في قراءة القصيدة.

ونحن لا نشك في ضرورة تطوّر معرفة الشاعر مع معرفة العصر، وهي معرفة تقنية، علمية، وعالمية من جهة، كما تتسم بالسرعة الخارقة والاستهلاك.

عصب الشاعر سيكون متحفّزاً لمثل هذه المتغيرات، بلا ريب، لكنّ تعامله معها، على ما نرى، لن يكون تعامل استسلام وانخراط في "عولمة شعرية" تُماشي العولمات الأخرى التي تجتاح المجتمعات والثقافات، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق والعادات واللغة، لن ينسى الشاعر أسئلته وقلقه التاريخي والوجودي واللغوي معاً، سيظل الشعر جملة اعتراضية للمستقبل كما كان في الماضي، لكأنّ الشاعر منذور للقلق الأبدي... للاّاستقرار، وقلقه قلق ميتافيزقي ووجودي وديني معاً، تجاه معنى العلم والتكنولوجيا والتطورات الهائلة، ومنجزات الحداثة وما بعد الحداثة، سيتابع "الإنسان الميتافيزقي" طرح أسئلته على "الإنسان الصنعي"، من خلال الشعر والدين والفلسفة.

العزلة الشعرية

لكنْ، يبقى السؤال الجوهري: كيف يصلون؟

إنّ في الإمكان، على ما نرى، تجاوز حلقات العزلة الشعرية، بالاستفادة من المنجز التقني في حقل الفيديو كليب، هل هو "فيديو كليب" شعري ما نشير إليه؟

نعم، ففي الإمكان اختراق حواجز القارئ والسامع، المحايد أو الميت تجاه القصيدة، بتقديمها في شريط فني مصوّر، يلعب فيه الشاعر دور المغني المعاصر، والقصيدة دور الأغنية، مع المؤشرات المشهدية والموسيقية الهائلة التي يتيحها هذا الفن المعاصر، سيكون إخراج القصيدة فنّاً شبيهاً بإخراج الأغنية أو القصة أو ما أشبه ذلك.

بهذه الطريقة المقترحة، ربما اقتحم الشعر أسوار العزلة المعاصرة، أقسى حلقات العزلة موت القصيدة وموت القارئ، إنما دون ذلك رتب وأحوال، فالبرامج التربوية في البلاد المتطوّرة تقنياً، تجنح تجاه الشعر إلى ما يشبه التخصص باعتباره فنّاً أقلوياً، في حين أن الكمبيوتر والإنترنت تظل لعبة الأجيال الشابّة للمستقبل وتسليتها العالمية الحميمة.

فهل بوسعنا مثلاً، أن نقنع فتى بالقصيدة، حين ينفتح أمامه عالم الإنترنت الخلاّب واللامحدود، أو عالم الكمبيوتر في رياضة الذهن اليقظ..? وحين يسترخي إنسان ما، على أريكة في منزله، ويكبس زرّ التلفزيون، فتتوالى أمام عينيه المشاهد والعوالم والحكايات، يستمرّ في مشاهدتها بلا عناء، أو يغيّرها إذا شاء بلمسة خفيفة، إنها متعة التطوّر التقني الهائلة، تقدّم نفسها للإنسان المرئي السمعي الاستهلاكي، وتغريه مع المتعة بالكسل.

فتحت مرتبة القارئ الميت للقصيدة، تأتي مرتبة القارئ الكسول، فهو لا يسعى نحو القصيدة بأدنى ذهن أو كدّ أو شغف، بل يطلب منها أن تسعى هي إليه سهلة هيّنة ليّنة مستساغة طيّعة كجارية، لا تعنيه متعة الكشف شيئاً، ولا ذاك العذاب الجميل في مطاردة اللفظ والمجاز، واقتناص المعنى المكنون كاللؤلؤ في محار القصيدة، لا تهمّه متعة الصيد أو الإبحار أو المغامرة، ولعله مستجيب لما كان رسمه ذات يوم نزار قبّاني في ديوانه "قاموس العشّاق"، فما على العاشق سوى أن يستخرج من القاموس، القصيدة التي تناسب اسم حبيبته، أو أول حرف من اسمها، هكذا تتوسع خارطة الشعر أو تتسطّح، مع القارئ الكسول، لتشمل اشتراكية الناس أو جمهورية الناس جميعاً، كما كان يقول قبّاني.

وهذا الكسل آفة وعادة، في غالبيّة القرّاء والمستمعين العرب اليوم، وهم أشدّ استفزازاً للقصيدة والشاعر، من القارئ الميت نفسه، تقرأ على أحدهم أو مجموعتهم أجمل ما كابدت من إحساس وما عانيت من التباس، وما طاردت من كلمات، وما احترقت فيه من معنى، وما غامرت وبكيت وضحكت وعشت ومتّ وأحببت وكرهت وأملت ويئست من أحوال، فتراه أمامك مفتوح العين كسمكة، وكأنه يقول لك: وماذا بعد؟ لم أفهم، وحين تحاول أن تشرح الشعر، تقتله، فالشعر لا يُشرح، علماً بأنك سلفاً مقتول بهذا القارئ أو المستمع الأجوف، وهو من أشدّ ما ابتُلي به الشعر من آفات.

وقد يقول قائل "مستهلك": أنا بحاجة الى رغيف الخبز أكثر من حاجتي الى كتاب شعر أو قصيدة. إنه الكائن الاقتصاديّ الاستهلاكيّ الهزيل لمجتمع الكثرة الاستهلاكية المعاصرة، وحجته قائمة في وجهه ووجوه عائلته، في الشحوب.

الشعر هنا تحسّه كنجم صغير مطحون في مجرّة، أو كإبرة من ذهب ضائعة تحت قشّ العالم، فمَن يبحث عن النجم الغائر وعن الإبرة الضائعة يا تُرى؟

وربما يعترض معترض في النهاية، ويقول: على الرغم مما ذكرت، مازالت هناك أطروحات في الشعر تُعدّ في الجامعات، ومنابر للشعر قائمة في جميع أكاديميات العالم، فهذا الكرسي لم يشغُر بعد، هناك أمسيات تقام هنا وهناك وفي كل مكان وبكلّ اللغات، ومهرجانات احتفالية للشعر تنتشر، أو ينتظرها الناس عاماً بعد عام، وكأنها عكاظات معاصرة دوريّة، وقد تختلف طرق قراءة الشعر بين مكان وآخر، وقوفاً على منبر أو جلوساً على التراب، أو إطلالاً من إطار شاشة، إلا أنه حاضر وغزير، ولعلّ حضوره هو الذي دعا منظمة ثقافية عالمية كالأونسكو، إلى منحه يوماً عالمياً، سمته، "يوم الشعر العالمي" وحددت موعده في الحادي والعشرين من مارس من كل عام، ودعت جميع الشعوب بكل اللغات للاحتفال بهذا اليوم، احتفالها بيوم المرأة ويوم الطفل ويوم العشّاق وسائر الأيام، إلا أنّ لهذا اليوم المعلن للشعر حجّة له وحجّة عليه، فالدعوة لإشاعته في يوم معيّن واحد من العام، تشي بإمكان فقده في سائر الأيام، فكأنه تذكير بضرورة تذكر المفقود أو الضائع، وكأنّ هذا اليوم المعلن للشعر يومان: يوم له ويوم عليه.

 

محمد علي شمس الدين