زويل في الكويت

زويل في الكويت

قبل منتصف الليل بقليل رن الهاتف في الغرفة رقم 458 في فندق شيراتون الكويت. رفع سندباد المستلقي على سريره سماعة الهاتف. قال المتحدث: ما رأيك بفنجان شاي وسيجار في لوبي الفندق؟

زعق سندباد بآه التعجب الإنجليزية: أوو! أحمد زويل! وقفز خارج السرير كما لو أن زويل دخل إلى الغرفة من شاشة التلفزيون.

قبل ذلك بقليل كان سندباد يتابع اللقاء المباشر الذي أجراه المذيع الكويتي عبدالرحمن النجار مع أحمد زويل في تلفزيون الكويت. استغرق اللقاء أكثر من ساعة، كان سندباد خلالها يتنقل مع حركة مشاعره ما بين الكرسي والكنبة والسرير، وهو يقترب ويبتعد عن شاشة التلفزيون. برافو زويل! تحكي مع الجمهور العربي بالمهارة نفسها التي تتحدث بها مع اللوردات الإنجليز.

عتاب قديم

في لوبي فندق شيراتون نفث زويل دخان سيجار مونت كريستو، وسأل سندباد بلهجة معاتبة: انقطعت عن الاتصال بي منذ سنوات. هل كان ذلك لأنك لم تصدق أنني سأحصل على جائزة نوبل?

قال سندباد: ربما لم أكن أصدق أنهم سيمنحونك الجائزة لكنني لم أتوقف لحظة عن الإيمان بأنك تستحقها. وعند الإعلان في العام 1998 عن فوز عالم ألباني بها كتبت تقريرا في الصفحة الأولى لجريدة "الحياة" تحدثت فيه عن المواضعات السياسية وراء منح نوبل، وتساءلت "وإلا لماذا لم يُمنح أحمد زويل الجائزة التي تردد الأوساط العلمية العالمية منذ أكثر من عشر سنين أنه يستحقها"؟

وبما يشبه الاعتذار عن عدم الرد على تهنئة سندباد على منحه الجائزة تحدث زويل عن الحصار الذي يعانيه من الصحافة والجمهور.

ـ "انت عارف يا محمد النهاردة أمن الشيراتون اتصلوا في عالهاتف يحذروني من اقتراب متسلل غافلهم وصعد إلى طابق غرفتي، وسألوني الإذن بإلقاء القبض عليه. ورجوتهم ألا يفعلوا ذلك. استقبلت الطارق الغريب، وعلمت منه أنه مؤلف يكتب كتابا عن عظماء العرب ويريد أن اكتب له مقدمة الكتاب. ولما شرحت له أنني لا أكتب مقدمة لكتاب لا أعرف مضمونه، قال المؤلف المجهول إنه لم يكتب الكتاب بعد لكن المقدمة تساعده على ايجاد ناشر للكتاب"!

"أصعب أمرين على الاحتمال في الحياة، هما الفشل والنجاح". قال ذلك سندباد. وضحك زويل بقوة وسأل: من قال ذلك؟

أجاب سندباد: لا أتذكر ربما جورج برنارد شو.

النجاح والفشل

سيجار مونت كريستو مع فنجان قهوة عربية وبلح سُكري في لوبي شيراتون الكويت بعد منتصف الليل. لم يخفف ذلك من العبء المضاعف الذي يعانيه زويل: عبء نجاحه الشخصي بالفوز بأرقى جائزة علمية، وعبء فشل وطنه العربي في الارتفاع عن أدنى مرتبة علمية. من يصدق أن المنطقة العربية، بما في ذلك البلدان العربية الغنية تأتي في المرتبة الأخيرة في معدل التوظيفات العالمية في البحث العلمي؟ أقل حتى من المعدل العام لتوظيفات البلدان النامية! "لدينا حضارات ثقافية عربية ومصرية وإسلامية عريقة، ويمكننا من خلال إقامة مراكز علمية عربية بمستويات عالمية أن نجتذب العقول النيرة من العالم للاطلاع على كنوزنا الثقافية والحضارية والعلمية والتكنولوجية التي تمتد آلاف السنين.. أنا أخجل كعالم عربي من أن تكون لدينا هذه القيم العلمية ولا نستطيع احتلال مركزنا الحقيقي على الخارطة العالمية ونحن في مستهل القرن 21".

لا يخفي زويل شعوره بالفخر بجائزة نوبل، "إنها أعظم تكريم.. لكنها مسئولية ليس تجاه مصر وحدها بل مستقبل أمم وشعوب العالم العربي.. مسئولية تتطلب أكثر من قدرة الإنسان الطبيعي، وأهمية الجائزة ليس في كونها نوبل والفلوس الكثيرة. أهميتها أولا أنك تدخل السجل التاريخي للعلماء الخالدين، ثانيا تأثيرك الذي يغير في الحياة الإنسانية.. في تفكير الناس، ويفتح أبواباً جديدة لتطور العلوم".

زويل نفسه لا يستطيع أن يلحق بالتطورات المتلاحقة لاكتشافه الذي قال عنه بيان هيئة جائزة نوبل إنه "أحدث ثورة علمية"، ويفاجأ زويل بالمبتكرات التكنولوجية التي يبدعها قياسه الخارق لسرعة التفاعل الكيماوي. يقطع التفاعل الكيماوي في الثانية الواحدة ألف متر. والوحدة القياسية "فمتو ثانية" التي استخدمتها في قياسه تعادل ثانية واحدة من 32 مليون سنة. تستخدم هذه التقنية حاليا في إنتاج أجهزة تصور داخل الدماغ دون إحداث أي أضرار، وتستخدم في الصناعات الإلكترونية المجهرية "مايكرو ألكترونيك" وفي إعداد أصغر شرائح الكمبيوتر "تشيبس".

بهجة العلم وبؤسه

وبهجة العلم بالنسبة لزويل ليست في نتائجه، بل في رحلة الاكتشاف العلمي الجميلة "أنا لسه موجود في الرحلة الجميلة لحد الوقت". فالجمال أمتع ما في العلم. "بعض الاكتشافات العلمية جميلة كالوردة. إذا شفت سيدة جميلة وسألوك لماذا هي جميلة، يمكن تقول "لأن جمالها طبيعي أو جمالها في بساطتها. أنا أشوف جمال العلم في بساطته. قبل أن نكتشف تكون الصورة معقدة ولا نفهم فيها شيئا! لكن بعد أن نكتشف تصبح الصورة بسيطة جداً يمكن أن تشرحها لطفلك. هذا هو جمال العلم".

الجمال هذا هو أجمل تقدير يعبر عنه أحمد زويل. وفوجئ سندباد علمي عندما التفت زويل نحوه وسط المحاضرة التي كان يلقيها في معهد الكويت للأبحاث العلمية، وقال: "مقالتك الجميلة في مجلة العربي قرأتها أمس"، وتابع محاضرته مستخدما الصور البسيطة التي شرح فيها سندباد نظرية زويل في عدد يونيو في مجلة العربي.

بضعة سطور فقط هذا هو كل ما قاله زويل عن اكتشافه الذي أوجد علوما جديدة، والجانب الأكبر من محاضراته وأحاديثه خلال الأسبوع الذي قضاه في الكويت كان عن أوضاع العلم في العالم العربي "بالعلم والتكنولوجيا يتقدم العالم وليس بالمباني والمظاهر الفارغة. ووضع البحث العلمي في العالم العربي ضعيف بسبب عدم وجود القاعدة العلمية والبيئة العلمية. هذا لا يعني أن العرب لا يملكون ركائز علمية أو غير متحمسين للعلم، بل هم شعلة من الحماس وكل ما يحتاجون إليه قاعدة علمية وعملية، تمويل عشرة أضعاف التمويل الفقير الحالي". ولم يتردد زويل في التحدث عن حاجة الكويت إلى أن ترفع نسبة تمويلها للبحث العلمي الذي قل عن واحد في المائة من إجمالي الدخل القومي حالياً إلى 5 في المائة.

وزويل لا يعتقد أن القفز بمعدل الانفاق على البحث العلمي كاف وحده (نحتاج إلى إنشاء مدن علمية وبيئة ومناخ علميين.ويجب أن تتوفر البيئة العلمية للعلماء العرب ليعملوا لا ليجلسوا على كراسي وياكلوا الفول"! و"نحتاج إلى مرونة في قوانين الجامعة تساعد على إبراز ودعم التميز. ينبغي سن قوانين تتيح منح الأستاذ المتميز مرتباً يعادل 3 أضعاف الأستاذ العادي".

مصري أمريكي

هل يمكن اعتبار أحمد زويل والعلماء العرب المغتربين الآخرين علماء عربا أم أجانب? هذا السؤال يتردد دائما عند الحديث، خاصة عن العلماء البارزين منهم. ويطرح السؤال بأشكال مختلفة يدور معظمها حول التساؤل عما إذا كان الفضل في إنجازهم العلمي يعود إلى كونهم عرباً أم لأنهم أمريكيون أو بريطانيون أو فرنسيون؟

جواب زويل الذي لم يتغير منذ أول لقاء لسندباد به عام 1990 وحتى لقائهما في الكويت عام 2000 هو: "مصر أعطتني التكوين الجيني الأول. ومن مصر أخذت الحنان ومنها تعلمت كيف أعمل وأضحك، منها كل تركيبي الأولي كأحمد زويل. هذا الجزء مني ليس بسيطاً ولا يمثل 40 في المائة، أو 50 في المائة، إنه مائة في المائة. وأمريكا أعطتني الفرصة والتقدير، وهذه حاجة لا يمكن أن أنساها لأمريكا.. أمريكا أخذتني وأعطتني وأنا صغير منصب أستاذ في أعظم جامعاتها فكيف أنسى هذا لأمريكا"؟.

ولا يحب زويل إقامة تعارض بين كونه أمريكيا ومصريا، ولا يرغب في أن يقسم بين الاثنين، في الوثائق الرسمية لمنحه جائزة نوبل رفض أن تستخدم في التعريف به العبارة التقليدية: "أمريكي من أصل مصري": وأصر على أنه مصري أمريكي. "هوه ده اللي حاصل في حياتي".

وعندما سألوه في حفل تسلم جائزة نوبل عن العلم الذي يوضع في القاعة طلب وضع العلمين المصري والأمريكي ودعوة السفيرين المصري والأمريكي. وكشف زويل لسندباد أنه دعا لمرافقته إلى حفل تسلم الجائزة في استوكهولم أفراد عائلته من مصر وسوريا، التي ضمت أيضا شاكر الفحام والد زوجته ديما، وهو رئيس المجمع اللغوي السوري، وزميله وصديقه "اللدود" مصطفى السيد الذي رافق خطواته كالظل في أجواء المنافسة الأكاديمية في جامعات كاليفورنيا.

كواكب عربية

أحمد زويل ومصطفى السيد، عالما الفيزياء والكيمياء من مصر وإلياس خوري عالم الكيمياء والطب من لبنان، وصالح الوكيل وفخري البزاز عالما الطب والأحياء من العراق، ورمزي قطران عالم الطب من فلسطين، جميعهم أعضاء في أكاديميات العلوم والطب الأمريكية، وتضم سماء العلوم والهندسة والطب العالمية كواكب مضيئة أخرى بينها أشهر معماري في العالم، المهندسة العراقية زهاء حديد، وعالم الفيزياء الفلسطيني منير نايفه، الذي حقق فتحاً علمياً بتحريك الذرات المنفردة، ومصطفى شاهين، رئيس العلماء في "مختبر الدفع النفاث" التابع لوكالة الفضاء الأمريكية "ناسا".

وفوجئ سندباد علمي بالعثور على كواكب عربية نسائية في التخوم البعيدة لعلم الفلك. المصرية مها عاشور عبدالله أستاذة فيزياء الفضاء في جامعة لوس انجلوس في كاليفورنيا، وشادية رفاعي جمال، المختصة بدراسة فيزياء الشمس في مركز فيزياء الفلك "سميسثونيان" في جامعة هارفرد.

قليل من هؤلاء العلماء من لا يعتبر نفسه عربياً، حتى إلياس خوري الذي نال جائزة نوبل في الكيمياء عام 1990 يقول إنه لبناني مائة في المائة، والسير مايكل عطية الذي يعتبر من أعظم علماء الرياضيات الأحياء يفخر بأبيه اللبناني ادوارد عطية مثلما يفخر بانتسابه إلى أمه الاسكوتلندية، وبيتر مدور الذي نال جائزة نوبل في الطب عام 1962 لا ينكر أنه من أب عربي لبناني وأم إنجليزية ويتحدث عن ولع أجداده الفينيقيين بالرحلات وارتياد الآفاق.

وتقضي متابعة السيرة الذاتية لنساء ورجال العلم العرب المغتربين على أساطير كثيرة عن الطريق المفروشة بالورد للمواهب في الخارج. قصة حياة كل واحد منهم تشبه حياة أوطانهم العربية كما تشبه الصرخة الألم. قد يكون أخفهم ألما أحمد زويل، ليس لأنه فاز بجائزة نوبل، بل ربما لتفاؤله الدائم وسماحته المصرية التي جعلته يقول لسندباد في آخر الليل: "إذا لم نوفق في الاستفادة من الفرصة التاريخية التي تفتحها العلوم والتكنولوجيا للعالم العربي، فهذه إرادة ربنا.. يبقى ربنا عاوز كده".

سندباد.. سندباد

في الساعة الرابعة صباحاً يعود سندباد علمي إلى الغرفة رقم 458 في فندق شيراتون الكويت، ينزع عنه ملابسه المعطرة بدخان سيجار مونت كريستو. يرتدي دشداشة النوم التي أرسلتها له أمه من بغداد. يطفئ الضوء ويضع رأسه على المخدة. يطل عليه سهم ضوئي من شقوق الستارة على النافذة. يغادر السرير، ويحكم وضع الستارة السميكة. يعود إلى السرير يضع رأسه على المخدة ويفكر أن أقرب مدينة إلى الكويت هي البصرة التي شهدت سميّه الأكبر سندباد. يغادر السرير مرة أخرى. يفتح الستارة، ويقول بصوت مسموع: أحمد زويل. لا تذهب أبداً إلى النوم وأنت مقهور، ابق يقظاً وقاتل. وعندما سيسأله زويل عن قائل ذلك لن يتذكر.. هل هوالثائر ارنستو تشي جيفارا، أو قد يكون الروائي فرانز كافكا؟

 

محمد عارف

 
  




د. أحمد زويل





سمو أمير دولة الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح مستقبلا د. أحمد زويل





نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع الشيخ سالم الصباح في ترحيبي بالعالم د. أحمد زويل





نمذج لسفينة كويتية قديمة هدية من وزير التربية والتعليم العالي الكويتي د. يوسف الإبراهيم للدكتور زويل





وزير الدولة لشئون الخارجية سليمان ماجد الشاهين مرحبا بالعالم الكبير