أحنُّ إلى خبز أمي

أحنُّ إلى خبز أمي

يختزن كل واحد منا مشاعر فياضة تجاه أمه، ولا تسعفنا الكلمات في معظم الأحيان، وحدهم الأدباء والشعراء يمتلكون القدرة على التعبير، وعندما يتحدث محمود درويش عن أمه فكأنه يتحدث بصوتنا جميعًا وهو يقول: أحنُّ إلى خبز أمي، وقهوة أمي، ولمسة أمي... هذه الأبيات الشعرية المتلاحقة مطلع قصيدة من عيون الشعر العربي، كتبها في مرحلة مبكّرة من حياته قبل أن ترغمه ظروف الاحتلال على الهرب من فلسطين ومفارقة أمه، والأم في هذه القصيدة تتعدى المستوى الواقعي لتصبح تجسيدًا للأرض والبيت والوطن المفقود، الأمان الذي افتقده وهو يطوف أرجاء الأرض على مدى أربعين عامًا.

 

هناك قصة خلف هذه القصيدة، فقد كان محمود درويش يعتقد أن أمه لا تُكنْ له الدرجة الكافية من الحب، وأنها تفضّل بقية إخوته عليه وتعاقبه لأتفه الأسباب، ولكنه حين كبر قليلاً وقبضت عليه السلطات الإسرائيلية وأودعته في سجونها، كما تفعل دومًا مع الشبّان الفلسطينيين، جاءت أمه لزيارته وهي تحمل له الخبز والجبن والزيتون، وقهوته المفضلة، وحاول الحراس منعها ولكنها أصرّت، واشتبكت معهم في مشادات عنيفة كادت أن تؤدي بها هي أيضًا إلى السجن، لم تتراجع حتى سمحوا لها أخيرًا بمقابلته، ولم يملك نفسه من الدهشة أمام إصرارها وهو يتذوّق خبزها، أحسّ فجأة بمدى الحب المكنون الذي جعلها تتحدى جنود الاحتلال من أجله، وقال لها معاتبًا: لقد كنت تضربينني كثيرًا، ردت عليه باسمة: «لأنك كنت كثير الشقاوة». كان يحمل في داخله بذور التمرّد منذ سنواته الأولى، لم ينس درويش هذه الواقعة طوال أيام منفاه، ولاحقته صورة الأم وصمودها على مدى قصائده لأنها كانت جزءًا من صمود فلسطين، لدرجة أنه يعبّر في القصيدة ذاتها أنه يخشى أن يموت حتى لا يرى أمه وهي تذرف الدموع من أجله.

عاطفة ذات اتجاه واحد
مثل الكثير من مخلوقات الطبيعة تعيش الأم أكثر من حياة، وهناك فرق هائل بين الفتاة المتفردة الخجولة عندما كانت تعيش في بيت أبيها ولا تجيد التعامل مع تفاصيل الحياة وبينها عندما تمتلك بيتها الخاص وتصبح أمًا مسؤولة عن أسرة كاملة العدد، تضيء البيت كل يوم وتبدأ معهم دورة جديدة، عندئذ تكتسب جزءًا كبيرًا من سحر الطبيعة وقدرتها على العطاء دون مقابل، وتتصرف دومًا وفق الغريزة الأساسية التي تحكم بقاء الكون دون حاجة لخبرات سابقة، فهي فقط تتبع الشفرة الداخلية الموجودة في خلاياها، والتي تحدد دورها الأموي مهما كانت الظروف التي تعيش فيها.
دور الأم ليس سهلاً رغم أن الآخرين يتقبلونه ببساطة وتلقائية، حتى الأبناء أقرب المخلوقات إليها لا يعون جيدًا أهمية هذا الدور ولا التضحيات التي تقوم بها كل لحظة، لا يشعرون به فعلاً إلا بعد إنجاب أطفالهم والدخول في آتون التجربة، إنها عاطفة ذات اتجاه واحد كما يقدمها الكاتب الفرنسي «بول هيرفيه» في مسرحية «حاملو المشاعل»، فالحياة عنده سباق لا ينتهي، كل جيل يحمل مشعلاً ليسلّمه للجيل الذي يليه، لا ينظر للوراء ولكن دومًا للأمام، الآباء يقدمون للأبناء كل ما يقدرون عليه دون انتظار مقابل، ويقوم الأبناء بدورهم بتقديم كل ما يقدرون عليه ـ وهكذا يتواصل السباق من جيل لآخر، كل واحد يشعر أنه مدين للجيل الذي يليه وليس للذي سبقه، وفي الواقع لا تتم الأمور بهذه الحدّة، ولا توجد مثل هذه القطيعة، وربما يبدو هذا مفهومًا إلى حد ما في إطار الثقافة المادية في الغرب، ولكن بالنسبة لنا فهناك العديد من الروابط الاجتماعية والدينية العميقة، والعلاقة بين الأجيال مازالت قائمة وقوية خاصة مع الأم.

أمهات يشبهن أمهاتنا
لقد شاهدنا صورة جلية لهذا الأمر في كأس العالم الأخيرة التي أقيمت في دولة قطر، فقد ظهر المنتخب المغربي الشقيق في صورة رائعة وحقق مركزًا متقدمًا لم يصل إليه منتخب عربي من قبل، وهزم فرقًا عريقة في مجال كرة القادم، ولكن جانبه الإنساني لم يظهر إلا بعد انتهاء المباريات عندما اتجه معظم لاعبي المنتخب إلى المدرجات، حيث كانت أمهاتهن جالسات يتابعن المباراة، ودخلوا جميعًا في فورة إنسانية من الأحضان والتقبيل والبكاء عرفانًا بالجميل، أمهات يشبهن أمهاتنا جميعًا، تقليديات وحنونات وزائدات الوزن قليلاً، وقد شاركن فرحة أبنائهن بخجل، ورغم المظهر المحافظ فلم يكن أمهات عاديات، فمعظمهن قد خضن تجربة الهجرة وخبرن مرارات الغربة، فالكثير من اللاعبين قد وُلدوا خارج المغرب وترعرعوا في الملاعب الأوربية وتحملت الأم العبء في أن توفر لهم وطنًا بديلاً عن الأرض التي رحلوا عنها، بل أن أحد اللاعبين كتب كل ما يملك باسم أمه وبدا ظاهريًا أنه لا يملك شيئًا، ولكن عندما تعرض لتجربة الطلاق من زوجته وكان عليه وفقًا للقوانين الأوربية أن يتنازل لزوجته عن نصف ثروته، لم يجد القاضي في رصيده ما يمكن أن يحجر عليه! ضربة حظ أم نصاحة؟ المهم أن أمه قد حفظت ثروته دون أن تدري.
ويروي الشاعر نزار قباني تجربة أخرى عن علاقته بأمه، فقد كان شديد الارتباط بها، أو بالأحرى شديد الالتصاق، فحسب قوله ظلت أمه ترضعه من ثدييها حتى بلغ من العمر سبع سنوات، أي بعد أن اكتملت أسنانه وأصبح قادرًا على التهام أي شيء، وكانت تحفظ له السكاكر التي لم يجد شبيهًا في طعمها بعد ذلك، وكان لهذا تأثيره الهائل عليه، فقد كان عنوان ديوانه الشعري الأول «طفولة نهد»، ولعله كان من خلال العنوان يقدم التحية لهذا النهد الذي وهب له الغذاء على مدى هذه الأعوام، وأعلن من خلال الديوان ارتباطه وانحيازه لعالم المرأة وقضاياها وجعل من نفسه متحدثًا باسمها، فهناك الكثير من قصائده تروى على ألسنة النساء، ولا يقلل هذا من مكانته الشعرية، وربما أعطته صوتًا متميزًا وسط بقية الشعراء، وفي الحقيقة فإن تأثير الأم يبدو واضحًا عند العديد من الشعراء، ومن المعتاد أن تشبه كتابة القصيدة بعملية الولادة لأنها تكسب الحياة للكلمات العادية وتجعلها تبدو في شكل جديد.

لا يغادر جسدها
للأم بصمة قوية في حياة كل إنسان، ومن حُرم منها فقد حرم ارتباطه بالعالم بشكل صحيح، فالمولود الجديد لا يغادر جسدها نهائيًا، وحتى بعد الولادة تظل الرابطة البيولوجية موجودة من خلال عملية الإرضاع والتلامس الجسدي، وخلال ذلك تتكون رابطة أكثر ديمومة هي الرابطة العاطفية والوجدانية، رابطة غير مرئية ولكنها شديدة القوة، لا تتداخل مع بقية الروابط الأخرى ولكن تعلو عليها دائمًا ولا تتأثر بمرور السنين، ففي داخل كل رجل هرِم يوجد طفل صغير في حاجة إلى لمسة أمه، ومع توالي الأجيال أصبحت الصلة بالأم علامات محفورة داخل الجينات الخفيّة لكل شخص، قد تقل أحيانًا فيصبح الشخص محرومًا يعاني من جفاف الحياة، وقد تزيد فتنعدم شخصية الفرد وإرادته، كما صوّرها نجيب محفوظ في روايته السراب، ذلك البطل ضعيف الشخصية الذي تتسلّط أمه على حياته حتى تفسدها، وهي علاقة مختلفة تمامًا عن علاقته بأمه، فقد كان شديد الارتباط بها وقد عمّرت حتى بلغت المائة من الأعوام، وكان يعتبرها مستودعًا للثقافة الشعبية رغم أنها لا تجيد القراءة ولا الكتابة، فهي التي كانت تصطحبه دائمًا لمعالم القاهرة القديمة وهي المناطق التي كتب عنها العديد من رواياته.
 وقد شاء نجيب محفوظ بعد ذلك أن يعطي للأم مكانتها المرموقة حين صوّرها في الثلاثية، وقد اكتسبت هذا الاسم لأنها مكوّنة من ثلاث روايات، وكما يقال فإن محفوظ كتبها دفعة واحدة، ولكن الناشر هو الذي قام بتقسيمها وأعطى لكل جزء اسمًا مختلفًا، ولكنها في مجملها تتعقب ثلاثة أجيال من أسرة مصرية عاشت في القرن الماضي ـ ورغم الأب المتزمّت داخل منزله والعابث خارجه فإن الأم السيدة أمينة هي العمود الفقري للعائلة، وهي التي حافظت على تماسك الأسرة، في ظل ظروف الاحتلال الإنجليزي القاسية التي اختطفت واحدًا من أبنائها، لقد افتتح المؤلف الثلاثية بها وهي تستيقظ مبكرًا قبل كل العائلة لتحضّر لهم الإفطار وتشرف عليهم وهم ينصرفون لأعمالهم ثم تبدأ حركتها التي لا تكلّ داخل المنزل، وانتهت الثلاثية بموتها وكأنها كانت تبث من روحها حياة العائلة التي حافظت عليها، وللمفارقة فقد وُلد في اليوم نفسه واحد من أحفادها علامة على استمرار دورة الحياة.

نموذج الأم الشريرة
على العكس من ذلك تمامًا نجد أعمال الروائي الفرنسي «جول فاليس» الذي عاش في أواخر القرن الماضي في طفولة تعسة تركت ندبها على مجمل حياته وأعماله، فكان أكثر ما عاناه في طفولته الإكراه، إذ لطالما أُجبر وأشقاؤه على احترام القواعد الأخلاقية والاجتماعية الصارمة، وقد برع فاليس بكتابة رواية السيرة، وأطلق بكتابتها العنان لأسلوبه المتحرر من القيود، وكتب رائعته الأدبية ثلاثية «جاك فينترا» المؤلفة من ثلاثة كتب روائية، ويرصد فاليس في روايته «الطفل» نموذج الأم «الشريرة» وينسف كلّ معاني الحبّ والطيبة والتفاني التي التصقت طويلاً بمفهوم الأمومة، وينتقي أقسى النعوت لوصفها، يرسم شكلها بعين طفل خائف، مرتعد. ويقال إن كل شخصيات المرأة القوية التي برزت في مسرحيات وليم شكسبير كانت صورة من أمه القوية الشكيمة كما تبدّت في شخصية ليدي ماكبث.

الأم بيلاجيا
لكن هناك صورًا أخرى للأم في مواجهة قسوة الطبيعة خاصة في أيام المجاعات كما صوّرتها بيرل بيك في «الأرض الطيبة»، إنها أنشودة إنسانية لكاتبة أمريكية عن الصين القديمة في زمن المجاعات القاسية، عندما كان الفقراء يعتمدون في غذائهم الرئيسي على أكل جذور نباتات الأرز وليس الأرز نفسه، وقد كتبت أكثر من كتاب حول هذه العائلة البائسة، ولكن أشهر روايات القرن الماضي - بلا شك - رواية «الأم» لأديب روسيا الكبير مكسيم جوركي، وقد كتبها ونشرها قبل قيام الثورة البلشفية في روسيا بسنوات قليلة، لكنه استطاع التنبؤ فيها بكل ما حدث، فالأم العاملة «بيلاجيا» التي تحملت عنف زوجها السكّير وحرصت على تربية ابنها والنأي به عن كل أخطاء أبيه، ويكبر الابن ليكون شابًا ثوريًا ضد نظام القيصر ويتم القبض عليه، ولكنها تنتفض وتقود عاملات المصنع إلى التمّرد ومحاصرة السجن، وقد امتدح لينين هذه الرواية بوصفها أيقونة الأدب الاشتراكي، ولكن الزمن تغير، ولا نعرف إن كانت الأجيال الجديدة تتقبّل هذا النوع من الأدب أم لا؟ وقد صدرت عشرات الروايات التي تقلّدها، ومن هذه الرواية استوحى الكاتب الألماني برتولد برخت مسرحية «الأم شجاعة» التي تقاوم الحرب وتدعو للسلام، ويعدها النقّاد واحدة من أهم مسرحيات القرن العشرين. 
 ورغم كل شيء تظل الأم مصدر الراحة والأمان، والعمود الفقري لكل أسرة، وقد أوصت الأديان والشرائع السماوية برعايتها، وكذلك الكتّاب والفلاسفة، فهي مفتاح تربية الأمم وسر استمرار الحياة.

عالَم بلا أم... ظلام
«تظل البيوت مظلمة حتى تضيئها الأم»، مقولة لأديب العربية جبران خليل جبران، ويمكن أن نعمّمها بصدق حين نقول إن العالم كله يظل مظلمًا حتى تضيئه لمسة الأم، فمهما اختلفت الأجناس والأعراق وأماكن أعمار البشر لابد لها من محرك أساسي لتواصل الحياة، فالأم هي الصلة الحية بين الإنسان والطبيعة، وهي التي تمتلك جزءًا من سرّها وبعضًا من صفاتها، ولها القدرة على الحفاظ على تجديد الحياة ومواصلة رعاية أطفالها حتى في أحلك الظروف ■