لماذا هاجم الإمام محمد عبده تجربة محمد علي باشا؟

لماذا هاجم الإمام محمد عبده تجربة محمد علي باشا؟

كتب الكثير عن عملية التحديث التي خاضتها الدول والمجتمعات العربية منذ القرن التاسع عشر. وكانت التجربة الرائدة في هذا المجال هي تجربة محمد علي باشا في مصر، إلا أن هذه التجربة طرحت سؤالًا عن أسباب توقفها بعد انطلاقتها التي بدت واعدة بأكثر مما أثمرت. لذلك، علينا النظر إليها ثانية لتقويمها التقويم الصحيح. والسؤال الأساس يتعلق بالعلاقة أو اللاعلاقة بين تحديث الدولة وتحديث المجتمع، وتتعلق الثانية بسياسة محمد علي مع الدول الأوربية وانعكاس ذلك على المجتمع.

 

أبدأ بمقدمة تشير إلى أن هناك مدرستين تاريخيتين رئيستين حول تاريخ فترة محمد علي باشا في مصر يمكن اختصارهما، لدواعي هذا البحث، بآخر مؤرخين كتبا حول تلك المرحلة (1805-1840) وأعتقد أن كليهما يمثل مدرسته التأريخية إلى حد ما. ولعل الكتاب الأبرز والممثل للمدرسة الأولى التي تنظر بإيجابية نحو تجربة محمد علي هو كتاب المؤرخة عفاف لطفي السيد مارسو التي أصدرت في 1984 أطروحتها الجامعية التي حولتها إلى كتاب بالإنجليزية بعنوان «مصر خلال حكم محمد علي»، ولم يترجم هذا الكتاب إلى العربية. تركز مارسو على أن دولة محمد علي هي التي بنت الهوية الوطنية المصرية المنفصلة عن الهوية العثمانية الإسلامية، وأنها قامت بأعمال تحديثية كبيرة في مجال الزراعة والصناعة، وربطت إنشاء «الاحتكارات التجارية» الدولتية بتمويل بناء جيش قوي إلى أن قررت الدول الأوربية التخلص منها ومن التجربة المصرية الحديثة (التي امتدت إلى بلاد الشام 1831-1840).
أما المدرسة الثانية، وهي نقدية تجاه المدرسة الأولى، فتتمثل في آخر مؤرخيها وهو خالد فهمي في أطروحته الجامعية باللغة الإنجليزية «كل رجال الباشا» التي تُرجمت إلى العربية. وتهدف هذه المدرسة إلى إظهار أن دولة محمد علي، وإن استطاعت تقوية نفسها اقتصاديًا من خلال احتكار التجارة والعمليات الاقتصادية وبناء بعض المشاريع الزراعية والصناعية، إلا أن عملها كان منصبًا على تحديث الجيش وتأمين ما يحتاج إليه مدنيًا وعسكريًا. ومع أن هذه الدولة كانت أفضل قوة في محيطها الإقليمي، بما في ذلك الإمبراطورية العثمانية التي كانت مصر تابعة لها اسميًا، فإن الهوية المصرية المستقلة عن الهوية العثمانية لم تر النور في تلك الفترة، بل ظلت الهوية الدينية والفخر بالتفوق العسكري هما الهويتان المهيمنتان حتى ضمن أفراد الجيش، إلا أن الهوية المصرية بدأت بالبروز في تلك المرحلة من خلال اعتبار الجنود المصريين أنهم في صراع شبه وطني، بتلاوين طبقية موضوعيًا، لا مع «العثماني البعيد»، بل مع «التركي والشركسي القريب» أي مع الضباط الأتراك والشركس الذين كانوا يحتكرون المراتب العليا في الجيش ويعاملون جنودهم معاملة فوقية غير كريمة. والمعروف أن كلمة «فلاح» كانت تعتبر سبة عند ضباط جيش الباشا.

الجيش أولًا وأخيرًا
وحيث إنني أميل إلى المدرسة الثانية، لأن فهمي ركز على مسألة بناء الجيش وقيادته بواسطة ابنه إبراهيم باشا، وهذا واضح من العنوان الفرعي لكتابه: «محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة». كما قام الباشا بتحديث الإدارة وكذلك «التعليم والمعارف»، وكانت أولى الخطوات هي تحديث المناهج بحيث لم يتم اقتصار المناهج على العلوم الشرعية الإسلامية كما كانت الأمور قبله، ولكن تمت إضافة إليها العلوم الاجتماعية والتطبيقية. ولم يكتف محمد علي بالكتاتيب والمساجد، حيث لم يوجد قبل عهده مدارس سوى تلك المخصصة للنخب والمقيمين الأجانب، فقام محمد علي بإنشاء المدارس الابتدائية والثانوية والعليا والخصوصية - الفنية والعسكرية في مصر. ففي عهده تم إنشاء 47 مدرسة ابتدائية في كل المدن والأقسام الرئيسية... أما المدارس الثانوية والعليا والخصوصية، فقد بنى منها 24، منها مدرسة قصر العيني، ومدرسة اللغات (الألسن)، ومدرسة المعادن، ومدرسة الطب البيطري، والطب والتوليد والموسيقى والفنون والصنائع... إلخ. إلا أن كل هذه المدارس كانت معتمدة لتدريس العسكريين وأبنائهم.
وكانت مطبعة بولاق رائدة في نشر الكتب المترجمة من اللغات الأوربية إلى اللغة العربية. أما معظم الكتب المتعلقة بالشؤون العسكرية الأقل عددًا، فكانت تترجم إلى التركية، فكان أول كتاب نشرته في 1822 هو قاموس إيطالي - عربي كما أنها أصدرت كتبًا عربية علمية وأدبية وتاريخية مترجمة، إضافة إلى بعض كتب التراث العربي والإسلامي. لهذا كان المثقفون العرب في القرن العشرين يمدحونها، على الرغم من أن محمد علي كان يريد حصر التعليم بين النخبة العسكرية والبيروقراطية التي كانت تمسك بزمام الدولة المصرية فقط، ولم يكن راغبًا في نشره بين العامة؛ لأنه كان يخشى أن تتكرر «ثورات الفقراء» الأوربيين ضد ملوكهم في مصر. وقد عثرت على وثيقة في دار الوثائق المصرية يعتذر فيها أحد الموظفين المصريين الذين كانوا يخدمون في سورية في 1247هـ/ 1833م، لأنه طلب كتاب «نصيحة الملوك» من القاهرة، ويبدو أن محمد علي باشا نهره عن ذلك، وأصدر فرمانًا بأن على الموظف المشار إليه أن يلتفت إلى عمله فقط، فتراجع الموظف عما وصفه بـ«فكرته الفاسدة».
 على الرغم من أنه لا يمكن الحديث بشكل مطلق، فإن الهوة بين الدولة والمجتمع ظلت واسعة؛ إذ إن الأولوية والسيطرة كانتا للدولة ولدولة الباشا تحديدًا لا للمجتمع، بل إن تضخم دور الدولة حصل على حساب المجتمع. أي أن الدولة كانت تأخذ من المجتمع أكثر مما كانت تعطيه إن كانت تعطيه شيئًا. وقد نلاحظ للوهلة الأولى أنه كانت هناك استمرارية في هذا المجال مع الفترة العثمانية/المملوكية، إلا أن هذا انطباع خاطئ؛ لأن المماليك الذين كانوا يمثلون النخبة السياسية - العسكرية فصلوا عمومًا بين دورهم داخل الدولة وبين دور النخبة الدينية المتمثلة بالعلماء والمشايخ الذين كانوا لسان حال المجتمع، مع أنهم رحبوا بمساعدة الأهالي عندما كانت تدعو الحاجة. لذلك، كان تذمر المصريين منهم أقل من تذمرهم من دولة الباشا. كما استولت الدولة على جزء من الأوقاف التابعة للأزهر، الأمر الذي أوغر صدر العلماء عليه. بمعنى آخر، لم يكن تحديث المجتمع يسير في موازاة تحديث الدولة.

التحديث اللامتوازن
لقد بدأ محمد علي ببناء دولة حديثة في مصر بعد جلاء الحملة الفرنسية عنها في 1801، واستلامه الحكم في 1805، فجهز جيشًا حديثًا وقويًا طبقًا لما عرف بـ «التنظيمات»، وأنهى تدريبه قبل أن يستطيع السلطان العثماني في اسطنبول تحقيق خطوة مماثلة، لذلك استطاع «الجيش» تقوية ذاته من خلال احتكار التجارة والعمليات الاقتصادية الكبيرة وبناء مشاريع الري والزراعة بهدف الحصول على الموارد المالية لتحديث قواته العسكرية وما يحتاج إليه من النواحي اللوجيستية كافة. نضيف إلى ذلك، أن محمد علي قام أيضًا بتحديث الجهاز الإداري للدولة، وأنشأ بيروقراطية مركزية مباشرة ذات تراتبية واضحة (تنتهي عنده نفسه)، وهو جهاز ضم المسلمين والأقباط المصريين، وكذلك جزءًا وازنًا من الأتراك، إلا أنه لم يفصل بين الخدمة العسكرية والخدمة المدنية، وإنما قام ببناء مؤسسة واحدة عسكرية - مدنية وطبع الوظائف المدنية بالطابع العسكري».
ومع أن الجيش الذي بلغ عدده أكثر من مئة وثلاثين ألف مقاتل في منتصف ثلاثينيات القرن التاسع عشر (بنسبة عالية جدًا من مجموع السكان البالغ عددهم وقتها 5 ملايين نسمة)، والذي كان ركن حكمه الركين ظل منقسمًا إثنيًا وطبقيًا ولغويًا (بعد أن قضى على نفوذ المماليك السياسي في المذبحة التي دبرها لهم والمعروفة بـ«مذبحة القلعة» في مارس 1811) بين الضباط الأتراك والشركس ذوي الرتب الرفيعة والمتحدثين بالتركية من جهة، والخبراء الأوربيين المتحدثين بالفرنسية عمومًا في الأجهزة الحديثة من جهة ثانية، والجنود المصريون الذين كان يطلق عليهم تسمية «أولاد العرب» (أي المتحدثون بالعربية) ذوي الرتب الدنيا، والذين بدأ تجنيدهم في 1822 والآتين من البيئة الزراعية الواقعة في دلتا النيل جهة ثالثة، الأمر الذي لم يساعد على صياغة «روح جماعة» Esprit de corps أو «عصبية» معينة في الجيش، على الرغم من انتصاراته. وستؤدي معاهدة بلطي ليمان Balti-Liman بين الدولة العثمانية وبريطانيا في 1838، والتي شملت الولايات كلها، إلى إلغاء الاحتكارات الاقتصادية؛ ومن ثم تفكيك البنية المدنية المرتبطة بالجيش المصري الكبير في 1840 والذي فرضت بريطانيا تقليص عدده إلى 18 ألف مقاتل.

التحالف مع أوربا لا مقاومتها
فيما يتعلق بسياسة توسع الحكم المصري في الإقليم العربي (الحجاز وسورية)، فإننا نلاحظ أولًا أن الباشا لم يكن يبني مشروع «مصر القوية» للوقوف في وجه أوربا التي كانت قد احتلت مصر بقيادة بونابرت في 1898، بل كان مقتنعًا أنه لن يستطيع تحقيق ذلك كما تنفيذ حلمه بالتوسع شرقًا إلا بالتحالف مع الدول الأوربية أو إحداها. ولعل تجربته في حرب اليونان حيث استطاع الانتصار مع قوات السلطان العثماني على الثورة اليونانية ثم قيام بريطانيا بسلبه هذا النصر بتدمير أسطوله - كما الأسطول العثماني - في معركة نافارينو في أكتوبر 1827 أثبت له أن فارق القوة الإيجابي بينه وبين اليونان شيء، وفارق القوة السلبي بينه وبين بريطانيا شيء آخر. لعل تلك التجربة أقنعته بضرورة أن تكون إحدى الدول الأوربية إلى جانبه في توسيع نطاق حكمه إلى سورية ومن ثم، ربما، إلى كل ما تبقى من الدولة العثمانية. كما كان متحفظًا في التعبير عن هويته الإسلامية المستقلة عن عثمانيته، فقد ظل عثمانيًا أراد المزيد من السلطة العثمانية. فعندما تساءل أئمة مساجد المدن الشامية بعد انتصاراته عمن يجب أن يدعى له في خطبة الجمعة كخليفة المسلمين أجيبوا بأنه السلطان العثماني. وقد كان محمد علي، في الوقت نفسه، حازمًا في استخدام تحسين وضع الأقليات غير المسلمة في صلب سياسته أمام القوى الأوربية، فقد قام بتذكير القنصل الفرنسي العام في الإسكندرية قبل حملته الشامية كيف عامل غير المسلمين عندما احتلت قواته جزيرة كريت في أثناء الحرب العثمانية- المصرية ضد اليونان قائلًا: «ألم ترَّ كيف أكرمتُ رئيس أساقفتها، فقدمته على علمائها، وخلعت عليه فروة، ورفعتُ عنه وعن ذويه ما كان يثقل كاهلهم من الضرائب؟».

الامتيازات بدلًا من المساواة
قد يكون محمد علي قد حاول تكوين دولة يشترك فيها كل أطياف المجتمع على قدم المساواة، لكن تداخل سياسة المساواة هذه مع المبالغة في «امتيازات الجماعات غير المسلمة» بصورة أفقدت السلطة الحاكمة السيطرة عليها، وغيرت طبيعتها وكذلك مع سياسة مسايرة قناصل الدول الغربية وسياسات دولهم التي وسعت مفهوم «الامتيازات الأجنبية» وتطبيقاتها، كل هذا التداخل أفضى إلى تغيير كبير في الخارطة السياسية والاجتماعية. ولعل هذا التغيير غير المتوازن كان هو الذي أدى، ولو جزئيًا، لا إلى المساواة، بل إلى استبدال نظام الملل القديم ببداية نظام طائفي حديث فجر أكثر من فتنة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر خاصة في بلاد الشام. كذلك، ساهمت مسايرة القناصل الأوربيين بجعل السلطة الفعلية تنتقل إلى الأجانب. وهذا أمر يعكس توازن القوى الحقيقي بين أوربا وبين كل من مصر محمد علي والدولة العثمانية في القرن التاسع عشر. وقد فسَر بعض المحللين حاصل جمع هذه الأوضاع كلها بأنها تعني القبول بمنح العناصر غير المسلمة والأجنبية وضعًا اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا متفوقًا عمليًا على أوضاع المسلمين.
أضف إلى ذلك، أن محمد علي فشل في نهاية المطاف، في تحقيق هدفه الرئيس وهو بناء تحالف مصري - أوربي متين كما ذكرنا في البداية. لذلك، فإن بريطانيا ولأسباب تتعلق بإبعاد القوى الأخرى مثل روسيا عن البحر المتوسط، قامت بتكرار تجربة معركة نافارينو في بحر إيجه أمام اليونان عام 1827 مرة ثانية على المتوسط، وأجبرته على الانسحاب من سورية وتفكيك جيشه ودولته في 1840.

رأي الإمام محمد عبده
ولعل الكلمة الفصل في تجربة محمد علي باشا جاءت بعد ستة عقود عندما كتب الإمام الشيخ محمد عبده في 1902 تقييمًا بعنوان: «آثار محمد علي في مصر» يتكلم فيه بلسان المجتمع فقال:
ما الذي صنع محمد علي؟ لم يستطع أن يحيي، ولكن استطاع أن يميت. كان معظم قوة الجيش معه، وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة، فأخذ يستعين بالجيش وبمن يستميله من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه، ثم يعود بقوة الجيش وبحزبٍ آخر على من كان معه أولًا، وأعانه على الخصم الزائل فيمحقهً... ماذا صنع بعد ذلك؟ اشرأبت نفسه لأن يكون ملكًا غير تابع للسلطان العثماني، فجعل من العدة لذلك أن يستعين بالأجانب من الأوربيين، فأوسع لهم في المجاملة، وزاد لهم في الامتياز... حتى صار كل صعلوك منهم لا يملك قوت يومه ملكًا من الملوك في بلادنا يفعل ما يشاء ولا يُسأل عما يفعل. وصغرت نفوس الأهالي بين أيدي الأجانب بقوة الحاكم وتمتّع الأجنبي بحقوق الوطني التي حُرمَ منها، وانقلب الوطنيّ غريبًا في داره.
 يقولون إنه أنشأ المعامل والمصانع؟ ولكن هل حبّب إلى المصريين العمل والصنعة، حتى يستبقوا تلك المعامل من أنفسهم؟ وهل أوجَدَ أساتذة يحفظون علوم الصنعة، وينشرونها في البلاد؟ لا بل بغَّض إلى المصريين العمل والصنعة بتسخيرهم في العمل والاستبداد بثمرته، فكانوا يتربصون يومًا لا يُعاقبون فيه على هجر المعمل والمصنع لينصرفوا عنه ساخطين عليه.
يقولون إنه أنشأ جيشًا كبيرًا فتح به الممالك، فهل علّم المصريين حُبَّ التجنّد، وأنشأ فيهم الرغبة في الفتح والغلب، وحَبَّب إليهم الخدمة في الجندية، وعلّمهم الافتخار بها؟ لا بل علمهم الهروب منها.
لا يستحي بعض الأحداث من أن يقول إن محمد علي جعل من جدران سلطانه بنية من الدين، أيّ دين كان دعامة لسلطان محمد علي؟ دين التحصيل، دين الكرباج، دين من لا دين له.
نعم أخَذَ ما كان للمساجد من الرزق، وأبدلها بشيء من النقد... لا يساوي جزءًا من الألف من إيرادها. وأخَذَ من أوقاف الجامع الأزهر ما لو بقي له اليوم لكانت غلته لا تقلّ عن نصف مليون جنيه في السنة، وقرّر له بدل ذلك ما يساوي نحو أربعة آلاف جنيه في السنة.
ولا أظن أن أحدًا يرتاب بعد عرض تاريخ محمد علي على بصيرته أن هذا الرجل كان تاجرًا زارعًا وجنديًا باسلًا ومستبدًا ماهرًا، لكنه كان لمصر قاهرًا، ولحياتها الحقيقية مُعدمًا. وكل ما نراه الآن فيها؛ مما يسمى حياة فهو من أثر غيره متّعنا الله بخيره وحمانا من شرّه والسلام ■