السقوط الحزين لمدينة المدن الغازي الأعظم... هولاكو

السقوط الحزين لمدينة المدن الغازي الأعظم... هولاكو

جيش لم تشهد الأرض مثله، يمتد من سهوب آسيا حتى حدود بغداد، يعبق الهواء برائحته الثقيلة، خليط من رائحة جلود الحيوانات المدبوغة التي يرتديها الجنود وصنان الخيول المحمحمة وبقايا الدماء الجافة على نصال السيوف وأسنة الرماح، ولكن الرائحة الأكثر «عطنًا» كانت تفوح من هولاكو، الخان الأعظم قائد الجند، الذي أقسم ألا يمس الماء جسده إلا بعد أن يتخطى جيشه حدود مصر، يحلق فوقهم جيش آخر من الذباب، سحابة قاتمة من ذباب أزرق لا يشبع من لعق الجثث، وخلفهم جيش أصغر من بائعات الهوى يركبن عربات تجرها الخيول، شوارد من نساء كل المدن التي سقطت، لم يعدن يملكن غير أجسادهن للمتاجرة فيها، في تلك اللحظة كان هولاكو يجلس فوق عرشه الضخم المكون من الرماح المحطمة، حصيلة كل الجيوش التي تمكن من دحرها وذبح جنودها، وكان وزيره يحني رأسه وهو يقول: «ملوك الترك والعرب يبعثون برسلهم لتقديم فروض الطاعة والولاء للخان العظيم».

 

الرسل لا ينقطعون، حتى ملوك الصليب، «الفرنجة» الذين يمتلكون ممالك صغيرة وحصينة في فلسطين، أرسلوا يطلبون منه يقبل ولاءهم وألا يتأخر في القضاء على بغداد، وحتى كبيرهم «بابا روما» أرسل متعجلًا يطلب منه أن يحرقها حتى تصبح رمادًا،  لا أحد منهم يشعر بالأمان طالما وجدت بغداد على ظهر الأرض.
بدأت الوفود الجديدة تتقدم خافضة الرؤوس، شاعرين بالرعب من وجودهم في حضرته، يضعون هداياهم الذهبية تحت قدميه قبل أن يعتدلوا ويبلغونه رسائلهم، أولهم كان رسول صاحب الموصلٌ «بدر بن لؤلؤة» أقرب المدن لبغداد، والذي يرى أنه الأحق بعرشها، كان رسوله رجلًا حكيمًا خبر الدنيا وتقلبات الولاء، وقف أمام الخان وهو يقول: «لقد جاء رسول منكم إلينا طالبًا منا المنجانيق لتعينك في إحكام الحصار، في الوقت نفسه أقبل علينا رسول من خليفة بغداد يطلب مجموعة من أهل الطرب والراقصات، وقد أدركنا من لحظتها من سيكون المنتصر في هذه المعركة، لذلك يبلغك مولاي طاعته وخضوع مدينته».
وقبل أن يقدر هولاكو معنى هذه المبادرة  المجانية، دخل الرسول القادم من صاحب حلب، كان قصيرًا ونحيفًا وتشع من عينيه نظرات نفاذة، قال بكلمات مباشرة: «بغداد هذه مدينة شريرة يحكمها خليفة شرير وهما معًا يستحقان العقاب، لقد حاربنا الصليبيين طويلًا وحدنا دون أن يقدم لنا أي عون، لقد كان يظن أنه الخليفة الأفضل حتى جئت أنت، النار الموقدة وعقابه في الأرض».
كانت كلماته العنيفة لا تتناسب مع جسده الضئيل، كأن بينه وبين الخليفة ثأرًا شخصيًا، هكذا فكر هولاكو قبل أن يأذن بدخول رسول صاحب دمشق الناصر يوسف، كان شيخًا وقورًا متدفق الكلمات، قال:  «نحن لسنا تابعين للخليفة، ولكننا نريد عونك في الصراع مع حاكم مصر الذي يطالبنا بالجزية والدعاء له على المنبر، إذا أطاعتك دمشق سيكون الطريق إلى مصر مفتوحًا، حيث سيتحقق نصرك النهائي، نحن لا نريد إلا أن ندعو لك».
عندما انصرفوا قال هولاكو لقائدي جيشه مستغربًا: «ما شأن هؤلاء الحكام، إنهم لا يدمنون شيئًا سوى الخيانة؟!».
ولكن المجلس لم ينفض، فكان هناك رسول أخير يلح في المقابلة، ولم يملك هولاكو نفسه من الدهشة عندما عرف أنه رسول الخليفة العباسي شخصيًا، يتحدث له شاكيًا ومتوسلًا عن حيرة الخليفة في الصراع بين الوزيرين الرئيسيين، أحدهما سني والآخر شيعي، والصراع بينهما لا يهدأ وكل واحد له جنده وأنصاره وهو غير قادر عليهما، وعلى الغازي العظيم أن يأتي لينهي هذا الصراع، كانت هذه الرسالة الأغرب حتى أن هولاكو قال متعجبًا: لم أر من قبل مدينة يتمنى الجميع سقوطها لهذه الدرجة.

الوزير الأول.. مجاهد الدين الدويدار
هذه المدينة يجب ألا تسقط،  دموعه هي التي كانت تسقط، يتمتم الوزير مجاهد الدين الدويدار وهو يتأمل شعلة السراج في توهجها الأخير، الكون هادئ وكأنه لا يوجد إعصار قادم، صوت مؤذن الفجر يرتفع منكسرًا، حتى الصلاة لم توقف دموعه، يهبط للمدينة ليطوف في أرجائها، أحجار الأسوار التي تحيط بها ليست في أماكنها، الإهمال أفقدها التماسك، المدينة كلها انفك عراها، الجنود يتجولون وعيونهم ممتلئة بالرعب، منهزمون قبل أن تبدأ المعركة، الشوارع مزدحمة بالناس، يحملون أمتعتهم القليلة ويتجهون غربًا، باحثين عن منفذ للهروب، فقراء معدمون يدفعهم الخوف للمغادرة للمجهول، يتجه الوزير نحو قصر الخليفة المعتصم بالله العباسي، الوقت مبكر، الخليفة نائم، يعاني من آثار الثمالة بلا شك، لا يمنع الوزير أحد، حراس الأبواب جميعهم نيام، لو دخل المغول الآن فلن يعرف أحد بدخولهم، يسير حتى يصل قاعة العرش وفوقها القبة الخضراء الشهيرة، فخر العباسيين ورمز سطوتهم، يجلس فوق أحد الحشايا، يراقب سطوع الشمس وتحولاتها، تمتلئ القاعة رويدًا رويدًا، طلاب حاجات وأنصاف شعراء وتجار غشاشون وسماسرة ومهربون ونخاسون، يتناثرون في القاعة كالطاعون، يتحدثون ويضحكون ويتجشأون، يتناسون أن العالم على وشك الانهيار.
أخيرًا ظهر الخليفة، متورم الجفنين، لا يكاد يرى ما أمامه، فور أن جلس على العرش، التفت حوله الحاشية، حلقة من الذباب، ينهض الوزير ويزيحهم جميعًا ويقترب للغاية من الخليفة، يقول دون أن ينحني: أريد الحديث معك يا مولاي، وحدنا، بعيدًا عن الجميع؟
فتح الخليفة عينية فأخذ بملامحه الصارمة، صفق بيده آمرًا الجميع بالخروج، وعندما خلت القاعة سأل بصوت مرتعد: هل دخل المغول المدينة، هل علينا أن نهرب؟
رد الوزير في قوة: لن يدخلوها يا مولاي، بغداد يجب ألا تسقط، أنا لا أكف عن التجوال في المدينة، إنها أقوى مما يعتقد الجميع، يمكن للبنائين أن يرمموا الأسوار ويسدوا ما فيها من ثغرات، ويمكن للحدادين صنع المزيد من السيوف وأسنة الرماح، ويمكن للنجارين صنع المنجانيق العملاقة التي ترمي المغول بشواظ من نار، ويمكن جمع الجنود ودفع مستحقاتهم المتأخرة وحثهم على المقاومة مـن فوق الأسوار، ويمكن... ويمكن...
كان الخليفة يتوقع أن الأمر سيصل في النهاية إلى المال، قال: كم؟ 
قال الوزير: مئة ألف قطعة ذهبية...
قال الخليفة في يأسٍ: من أين يمكن أن نحضر كل هذا القدر من المال؟
لم يرد الوزير، ولكن الرد جاء من مكان آخر: لا لزوم لإنفاق كل هذه الأموال.
عند باب القاعة كان يقف الوزيرالثاني «ابن العلقمي»، جاء متأخرًا ليقوض كل شيء كعادته، يواصل التقدم وهو يقول: هولاكو هو حيوان بري، يبهره بريق الذهب، والنساء، والخيل  الجامحة، لو أرسلنا له هدايا من هذا النوع مع رسائل للترضية والوعد بتكرار هذه الهدايا كل حين من الزمن سوف يرضى ويستكين.
لكن الوزير الدويدار ثار غاضبًا: تفكير طفولي لا يناسب الموقف، ولم يأت هولاكو بهذا الجيش لكي يعود به دون قتال ودون مدينة يمتلكها ودولة يسقطها، هذا هو دأب المغول، لا يستحسنون سوى رائحة المدن المحترقة، ولكن الخليفة قاطعه: أستطيع تدبير هدايا هولاكو، لا قدرة لنا على تكلفة محاربته. 
زاد هذا الكلام من غضب الوزير الذي صاح: وأين ذهب بني العباس الذي تجمع عبر العصور؟!
جاء الدور على الخليفة لأن يثور غاضبًا منكرًا أنه توجد أمثال هذه الكنوز، كلها إشاعات ترددها ألسنة أعداء الدولة. لم يعد الأمر يطاق، لا الاستجداء ولا الصراخ، خرج الوزير الأول هاربًا من القصر، يدور حول نفسه في الشوارع، يسمع صوت الأحجار وهي ترتطم بالجدران، ويرى الأسهم وهي تتطاير، كل شيء يضيع، لا أحد يدري أن أحجار هذه الأسوار أغلى من كل قطع الجواهر، مجد آخذ في التدمير، مدينة يهرب أهلها، وخليفة غافل، وغربان تنتظر الانقضاض على الجيف ولله الأمر من قبل ومن بعد.

الجارية عرفة
عندما دخلت «عرفة» القصر لم يكن اسمها عرفة، ولم تكن حتى تتحدث العربية، ولا تعرف من أطلق عليها هذا الاسم، مجرد طفلة مرعوبة يقودها نخاس إلى جناح الحريم حيث توجد عشرات الجواري من كل جنس ولسان، كانت أصغر من أن يهتم أحد بأمرها، مجرد فتاة شقراء زرقاء العينين، قطة شركسية، بمرور الأيام لم تعد تذكر اسمها السابق ولا ديانتها ولا لغتها، مجرد جارية تجيد الرقص والغناء وملاطفة السادة في سهرات القصر. اقترب المغول، وجاءت المزيد من أسراب الذباب وارتفعت أدخنة الحرائق ولم يعد هناك مكان خال في المقابر، أرادوا للخليفة أن يسري عن نفسه كل ليلة فأحضروا له جيشًا من الراقصات، ولكنه التقطها من وسطهن، أمرهن جميعًا بالانصراف ليتفرغ لها، كان هو بالفعل رجلها الأول، أغدقت عليه كل رغبات الصبا المحتشدة في داخلها، لم يعن لها فارق السن شيئًا لأنها لم تجرب سنًا آخر، لم يعد لبغداد وجود، ولم يعد للمغول خطر، ولا للوزراء أو السفراء أو القادة أو حتى للطامعين في العرش أي  أهمية، الوجود المادي لها وحدها، ترقص وتغني وتشاركه الفراش، ماعدا ذلك فهو وهم عابر، لا أهمية للحصار الخانق.
ولكنه كان حلمًا قصير الأجل، في اللحظة التي كانت تتثنى أمامه انطلق سهم مارق عبر النافذة، كان واحد من رماة المغول يقف فوق تل مرتفع من الأرض يجرب قوسًا بعيد المدى مغلفًا بجلد ثعبان، وكان السهم من خشب السنديان مدببًا وحادًا، انطلق في الفراغ وعبر الأسوار والحراس وطار فوق البيوت نصف المحترقة من أثر القصف بالمنجانيق، واتجه بفعل قوة قدرية غامضة ليدخل من نافذة القصر ويستقر في قلب عرفة تمامًا، انهار جسدها بين يديه ولطخت دماؤها ثيابه، ظل جسدها ينتفض أمامه حتى سكن تمامًا، وأدرك لحظتها أن المغول قد اقتربوا تمامًا.

وأخيرًا.. الخليفة المعتصم بالله
صباح رمادي يليق بالهرب، كلما أسرع الناكخطي كان أفضل، بدأ الاستعداد من منتصف الليل، صاح الخليفة طالبًا من الجميع حزم المتاع، لم يعد هناك مقام آمن في بغداد، أسرع الأتباع، أحضروا الخيول والبغال، فتحت عشرات الصناديق الفارغة وبدأ حشوها بكل أنواع المتاع، من الصعب حشو دولة عمرها أكثر من سبعمائة عام في عدة صناديق، لا وقت ولا مكان لوداع وهمهمات المغول تلتهم الصمت، خرج من باب القصر دون حفاوة، لا جاريات تلقي عليه أوراق الورد ولا رجال يدقون له الطبول، تسير بغاله مطأطئة الرؤوس، تبحث عن الطرق الخلفية للخروج من المدينة، بعيدًا عن الصيحات الوحشية لجنود المغول، متى دخلوا المدينة، وأي أسوار اقتحموها، وأين ذهب جنوده، هل فروا كما يفر هو الآن؟ يخوضون وسط مسارات من الخرائب، البيوت التي هدمتها السيول في الماضي، والتي التهمتها الحرائق في الحاضر، مدينة حلت عليها اللعنة، كل حجر تحته جثة، وكل حفرة هي قبر مفتوح، وكل عثرة في الطريق جثة ملقاة، أحس الخليفة، وهو الذي كان قليل الإحساس، بحزن يخترق قلبه كنصل بارد، هل سيعود إليها يومًا، وإذا عاد هل سيجدها قائمة.
توقفوا جميعًا أمام دخان كثيف يلفهم كضباب خانق، حريق هائل يسد منافذ الطريق، مبنى كبير تلتهمه النيران وتتناثر حوله الجثث المحترقة، شهق المعتصم وهو عاجز عن حبس دموعه، دار الحكمة تحترق، عقل الدولة وروحها، منذ أن أنشأها جده المأمون وكل معارف الدنيا تصب فيها، العرب والفرس والسريان واليونان، تنافس العلماء والمترجمون على مدها بالكتب، وكل كتاب يقدم لها كان مقابل وزنه ذهبًا، طفولته كلها كانت هنا، تعلم القراءة والكتابة، وامتلأ أنفه بروائح الزعفران الذي يعطر الكتب، كان الزمان بريئًا وهذه متعته الوحيدة، النار الضارية تلتهم كل شيء، المخطوطات من ورق الصين وسمرقند ومن جلد الغزال، أزيز ألسنة اللهب يعلو مع كل مخطوط يصبح فريسة لها، يقترب أحد الأعوان من البغلة، لابد من مواصلة الهرب قبل أن ينتبه المغول، ولكنهم كانوا منتبهين.
ما أن سار الركب قليلا حتى وجدهم يحيطون به، سيوفهم ورماحهم وثيايهم ملطخة بالدماء، تفوح منهم رائحة النتانة والقتل، يتقدم أحدهم ويغرس سيفه في رقبة البغلة، تهوى على الأرض آخذة الخليفة معها، يزمجرون في وحشية وهم ينهضونه ويقيدونه، كانت أوامرهم أن يبحثوا عنه ويحضروه، انتشروا في المدينة يحرقون كل الطرق ليسدوا عليه منافذ الفرار. وللمرة الأولى تشهد بغداد نسل العباسيين الشرفاء وهو يسير مكبلًا بالسلاسل وملطخًا بالروث، يدفعه جنود المغول، لم يكن هناك الكثيرون ليشمتوا فيه، نصف المدينة كان مقتولًا، والنصف الثاني مختبئًا في المجارير، لا يعرف ماذا حل بأولاده التسعة، ولا بزوجاته أو جواريه أو قادته، مقيدًا وعاجزا يمشي صاغرًا، يتمنى فقط أن يعجلوا بقتله، لكنهم يلقون به في حفرة ضيقة أرضها مليئة بالحصى والحشرات، وعليها غطاء من الخوص، استلقى مجهدًا وعطشانًا، لا يعرف كم مر عليه، ولا يعرف إن كان ميتًا أو حيًا، وأخيرًا يرفع الغطاء وتمتد أياديهم لتسحبه، يحملونه لأنه كان عاجزًا عن السير ويلقونه تحت أقدام هولاكو، نظر إليه من أعلى وهو يقول: ها أنت الآن في مكانك الطبيعي يا خليفة المسلمين، تحت أقدام عدوك الذي أصبح سيدك.
قال الخليفة: لقد أخذت مدينتي، لم يعد هناك جدوى من وجودي، فهلا عجلت بقتلي؟
قال هولاكو ضاحكًا: مازالت لك بعض الفائدة، سأعقد معك صفقة.
رفع الخليفة رأسه، رأى الابتسامة على وجه هولاكو واللمعة في عينيه، هل هناك أمل في النجاة؟ واصل القول: أعدك أننا لن نقتلك بأيدينا، في مقابل أن تدلني على كنوز أسلافك الخلفاء وغنائم حروبهم.
قال الخليفة في وهن: لا وجود لهذه الأشياء.
قال هولاكو: لا تكن بهذه الحماقة، حياتك على المحك ولا مجال للمساومة... إذا لم تفعل ستموت الآن تحت أقدامي.
ولكن قبل أن ينقض عليه الحرس رفع يده مستسلمًا، لا طاقة لمواجهة الإعصار، جروه للمدينة المحترقة، وسط أكوام الجثث المتفسخة، إلى  بقايا قصر الخلافة، كانوا قد أبقوا عليه حتى اللحظة الأخيرة، اندفعوا جميعًا إلى الداخل، ساروا وسط حطام الخلافة، هرعت الفئران هاربة ونعقت الغربان غاضبة، كانت القبة الخضراء قد انهارت وبدت السماء غاية في البعد، انكفأ أكثر من مرة وشجت رأسه، أنهضوه ودفعوه ولوح هولاكو بسوطه: دلنا على هذه الكنوز اللعينة، توقف الخليفة أمام حائط من الرخام، أخذوا يهوون عليه بالمعاول دون هوادة، بعد العديد من الضربات انهار الجدار، كان مجرد ساتر صغير كشف تحته عن فجوة غائرة، ممر ممتد يقودهم إلى حجرة أشبه بالمغارة، كانت معتمة حتى دخلوها وأناروا المشاعل، انبثق الوهج فجأة من كل مكان، شعت عشرات الشموس الصغيرة والنجوم والكواكب السيارة، ضوت صفائح الذهب والقوالب المتراصة وزكائب الدنانير الممتلئة بعملات مختلفة وأكوام من الأحجار الكريمة، كل أشعة لها لون مختلف، سيوف وخناجر وآنية وعقود وأساور، نفائس من كل مكان في العالم، معظم ما أنتجته المناجم وباحت به أسرار الأرض وقام الصناع بصقله، حتى هولاكو نفسه الذي طالما استولى على كنوز الممالك المدحورة وقف مبهورًا أمام هذه الكنوز التي جمعت على مدى سبعمائة عام من الزمن، كم من دماء نزفت وضحايا سقطت ومدن دهست حتى تصل هذه النفائس إلى هذا المخبأ، التفت إلى الخليفة وهو يقول: كان عليك أن تعطي جندك بعضًا من هذه الأموال حتى يحسنوا الدفاع عنك.
ظل الخليفة يشهق ويرتعد، جروه إلى باحة القصر، تحت القبة المحطمة، نظر هولاكو نحوه باحتقار وهو يقول: سأحافظ على وعدي معك، لن نقتلك بأيدينا.
التف الجنود حول الجسد المنتفض وبدأوا يركلونه بأقدامهم، ركلات قوية وعنيفة تصيب كل جزء من جسده، لا شيء يحميه، عظامه تطقطق متكسرة والدم ينبثق من كل جسده، والركلات تتوالى وتزداد قوة، إهانة مؤلمة لرجل كان ذات لحظة يمتلك ثلث المعمورة، الآن يهبط في ظلام مؤلم، لتذوب فيه كل لحظات الانتصار والانكسار، وتطوى صفحة كانت زاهية تحت أقدام المغول، وقدر الله أمرًا كان مفعولًا ■