التفكير النقدي فاعل ومفعول إبداعي

التفكير النقدي فاعل ومفعول إبداعي

 لا يمكن للتفكير النقدي من وجهة نظرنا إلا أن يتخذ طابعًا إبداعيًا، فهو شرط إمكان الإبداع الفكري والفلسفي، بحيث يمكننا أن نميز بناء على ذلك بين: التفكير النقدي والفكر النقدي؛ حيث يكون الأول شرط إمكان الثاني. إذ يتحدد التفكير النقدي كفعالية فردية وكممارسة، ويتحدد الفكر النقدي كمعطى يتم تثبيته كتابة ويندرج عبر مسار التاريخ في إطار الجاهز والمسبق.

 

حاصل القول من خلال هذا التمييز هو أن التفكير النقدي تفكير - في الفكر أو في موضوعاته، أو تفكير في التفكير، أو تفكير مباشر منفتح على المشكلات الحياتية بمختلف تلوينها - بالتفكير لا بالفكر، وأن يكون تفكيرًا بالتفكير لا بالفكر، معناه أنه ليس تفكيرًا بالجاهز والمعطى، وإنما هو فاعل على الحقيقة خاصيته أنه متجدد ومجدد.
1- ما معنى أن لا يكون التفكير النقدي فكرًا؟
معنى ذلك أنه ليس مؤسسًا للتمذهب والتحزب في الفلسفة، ومعناه أنه لا يمكن اختزاله في أفكار معطاة ولا في المناهج التي قادت إليها، حيث إن المنهج من وجهة نظر نقدية يكون جزءًا من المعطى والجاهز. إن الفصل بين المنهج والنتيجة المتولدة عنه في الحقيقة فصل واهم وواهن. فهنالك تلازم صميمي بينهما يجعل الحقيقة فكرة مسبقة مبثوثة سلفًا في خطوات المنهج، فتطبيق نفس الخطوات، بنفس الكيفية، على نفس الموضوعات، يقود إلى نفس النتائج. وهنا لا تصير الذات فاعلة على الحقيقة، وإنما يكون بينهما وسيط تقال الحقيقة عبره، فهذا الأمر وارد في الفلسفة بنفس طريقة تبلوره في أزمنة الوساطة الدينية للكنيسة بين العبد وربه.
إن ما يميز التفكير النقدي عن غيره هو أنه ممارسة للتأويل وتحقيق للإبداع وليس تقليدًا أعمى، هذا الأخير يمكن أن يحصل بتبني النتائج أو المناهج (الفكر) على حد سواء، فالنتائج والمناهج التي تقود إليها كلاهما يتخذ طابعًا مضمونيًا هو الذي نسميه فكرًا ولا نسميه تفكيرًا، رغم أن الثاني شرط إمكان الأول.
هنالك فرق آخر بين الفكر النقدي والتفكير النقدي، فالأول يمكن تعلمه بسهولة في الوقت الذي يتعب الثاني صاحبه ويرهقه، إذ لا يعبر عنه صراحة ضمن المكتوب وإنما هو يتجلى ويتخفى إن شئنا الحديث بلغة هايدغر، ويتخذ طابعًا شاعريًا يحضر في الفلسفة العميقة واللوحة الفنية، إذًا المقصود بالشاعرية ليس الشعر كصناعة وإنما الكينونة المنسية للفكر النقدي التي هي التفكير النقدي، فهذا الأخير ظل مهمش الفكر دومًا، ولعل في حضوره بهذه الطريقة شكلًا من أشكال حمايته لنفسه من التقليدانية التي تلاحق الفكر إلى أن تخرجه من دائرة الإبداع وتدخله دائرة التحزب والتمذهب.
انطلاقًا مما سبق يصير الفصل بين التفكير النقدي والنقد الأدبي ضرورة ملحّة، فهذا الأخير بلغة أفلاطون يقع في درجة ثالثة ضمن سلم الحقيقة. كما ينبغي التمييز بين التفكير النقدي والفلسفة النقدية والنظرية النقدية، فهو شرط إمكانها وليست شرط إمكانه، به تكون وبها قد لا يكون. إنه كما قلنا كينونة تتجلى وتتخفى يصعب القبض عليها، وهنا يصير النقد جذريًا، بحيث لا يكون الانتقال من ربط الحقيقة بالمنهج لصالح اللغة، وإنما لصالح الفن لا في تجليه الجميل بل في تجليه الجليل.
2- هل يقتضي التفكير النقدي قطع الصلة - بناء على ما سبق - بالفكر وبتاريخ الأفكار؟ 
من طبيعة الحال لا ندعي ذلك ولا يمكن أن ندعيه، لأننا لا نُضمِّن للتفكير النقدي دلالة سلبية، فهو لا يعني لدينا الهدم رغم أنه يلعب هذا الدور مقيدًا بالبناء، فإن كان سلبًا فهو سلب إيجابي بلغة هيغل.
ومن ثم فالتفكير النقدي يحصل على ضوء التفاعل مع تاريخ الأفكار عبر تأويله وإبداعه، وهذا ما يبرر وجود فلاسفة أرسطيين كبار، وفلاسفة ديكارتيين عظام حفظ لهم التاريخ مكانة بارزة ضمنه، وفي ذلك شيء أشبه بالمحاكاة في الفن، من حيث كونها تأويلًا وإبداعًا لا نقلاً وتقليدًا. رغم ذلك تبقى الصدارة دومًا محفوظة في تاريخ الفكر الفلسفي والإنساني للفيلسوف الذي ينفتح على المشكلات في تجليها الكاووسي، بحيث إننا لا نفكر بعمق كما قال دولوز إلا ونحن في عنق الزجاجة، في ضوء الأزمة وظلامها.
بناء على ذلك نقر بعظمة أرسطو على الأرسطيين، وبعظمة ديكارت على الديكارتيين، وهي عظمة يحفظها لهم تاريخ الفكر الإنساني عندما يتحدث عن فلاسفة أرسطيين ولا يتحدث عن أرسطو فيثاغوري أو أرسطو سقراطي، ويتحدث عن فلاسفة ديكارتيين ولا يتحدث عن ديكارت رشدي أو ديكارت أرسطي، فالفرق بين هؤلاء هو في درجة التفكير النقدي، أو هو فرق بين التفكير النقدي والفكر النقدي بعد أن تم تأويله وبعثه من جديد إلى أن يستنفد إمكاناته، فتحدث ثورة فكرية نقدية جديدة على الطريقة الكوبيرنيكية.
لذلك نعتبر الجواب الذي قدمه هايدغر لحنة أرندث عندما سألته أن يعلمها التفكير جوابًا يعبر عن ما نريد قوله، حيث قال: «التفكير عملية تتم في عزلة»، وبقدر ما يكون كذلك يتخذ طابعًا إبداعيًا ونقديًا. فلا يكون بذلك مقلدا يُرغم الموضوعات على الدخول في قالب جاهز للحكم عليها ووصمها ببصمة الحقيقة المتوهمة.
من طبيعة الحال نثق في أن حنة أرندت مفكرة عظيمة، غير أن سؤالها هذا مرده إلى أنها كانت في فترة شبابها وأعمى بصيرتها هايدغر الذي شغفها حبًا. ستتأكد حقيقة ما قاله هايدغر من خلال المسار الذي ستقطعه أرندت بعد ذلك وهي تنتقد الأنظمة التوتاليتارية عندما ستجد نفسها في عمق الكارثة تنشد الحرية، هذه الأخيرة سمة من سمات التفكير النقدي تصادرها الأنظمة الشمولية سياسيًا، وتصادَر فلسفيًا بالتفكير في حدود ما يسمح به النسق، وهنا يمكن أن تصير الأرسطية والديكارتية أقرب إلى الستالينية والنازية، بحيث يصادر الفكر التفكير.

عود على بدء
يستخلص من خلال ما سبق أن التفكير النقدي لا يكون كذلك إلا إذا اتخذ بعدًا إبداعيًا، وإن حضر بغير هذه الصورة لا يمكن اعتباره تفكيرًا نقديًا، قد يكون تقليدًا وأيديولوجيًا، فالتفكير على الحقيقة لا يكون كذلك إلا إذا اقترب من الفن وتماهى معه، وفي ذلك يقول دولوز «الفن مصير التفكير ومختبر الفكر» ■